تساؤلات وشكوك كثيرة تدور حول إعمار غزة، فمع أن مشكلة الإعمار قد تكررت بعد عدواني 2009 و2012، إلا أن الموضوع هذه المرة اخذ منحى اكثر أهمية وخطورة لأسباب منها : الدمار الهائل الناتج عن العدوان الأخيرة، والشروط السياسية والأمنية التي تفرضها الجهات المُتَعهِدة بتمويل الإعمار، وتداخل موضوع الإعمار مع الخلافات الفلسطينية الداخلية. المواطن العادي يتحدث عن إعمار غزة كموضوع إنساني ومالي، وكحق لغزة المتضررة من العدوان،على المعنيين الدوليين والعرب الذين اجتمعوا في القاهرة أن يباشروه دون إبطاء، ويستغرب المواطنون لماذا لم يبدأ الإعمار ما دامت الدول والمنظمات الدولية تعهدت بدفع المليارات في مؤتمر القاهرة ؟ !.
يوم 1 اغسطس وقبل أن تتوقف الحرب كتبنا مقالا بعنوان (وقف اطلاق نار بدون هدنة قد يكون اسوء من الهدنة) وحذرنا من الثمن الباهظ الذي سيدفعه قطاع غزة بعد الحرب وبسبب شروط التهدئة. وجاءت المناكفات التي تصاعدت اخيرا ما بين حركة حماس والسلطة، وما بين حركة حماس ووكالة الغوث حول إعمار غزة وشروطه ومتطلباته، تؤكد أن الإعمار ليس مسألة إنسانية ولا مسألة مالية فقط، وما خفي في موضوع الإعمار أكبر واخطر مما يُصرح به.
إنه موضوع أكثر تعقيدا وخطورة لأننا لا نتحدث عن عملية إعمار وإنقاذ لمنطقة ضربها زلزال أو كارثة طبيعية، بل عن إعمار لمنطقة تعرضت لعدوان عسكري إسرائيلي هو جزء من صراع فلسطيني إسرائيلي دامي ومفتوح، حيث ما زالت حماس تُهدِد بإعادة بناء الأنفاق واستعادة قوتها وجهوزيتها العسكرية وتعزز علاقاتها مع أطراف عربية وإقليمية في حالة عداء مع إسرائيل، وما زالت إسرائيل تهدد وتتوعد قطاع غزة بالإضافة إلى مواصلة عدوانها الاكثر خطورة في الضفة والقدس، وما زال الانقسام الفلسطيني قائما. وفي هذا الصراع، وفي قطاع غزة تحديدا، تتقاطع مشاريع وأجندات إقليمية ودولية، بالإضافة إلى أنه حتى الآن لم تصدر إدانة دولية لإسرائيل على ما قامت به.
إذن، ما يجري حول فلسطين وخصوصا في مصر، واستمرار أصحاب المشاريع والأجندة الخارجية في توظيف معاناة قطاع غزة لخدمة مصالحهم، وما يجري داخل أراضي السلطة من تآكل هيبة وسلطة السلطة الوطنية، وتسارع مشاريع الاستيطان ومصادرة الاراضي، وحالة الاحتقان في قطاع غزة التي تنذر بالانفجار الداخلي أو الحرب الاهلية وخصوصا بعد التفجيرات الاخيرة لمنازل قيادات فتحاوية، وما آلت إليه المفاوضات، وشروط تثبيت وقف إطلاق النار والهدنة النهائية، ومصير المقاومة وسلاحها، ورفع الحصار عن غزة، والانقسام وتنازع الصلاحيات بين طرفي معادلة الانقسام الخ، كلها تشكل حزمة أو صفقة واحدة في الحوارات والمفاوضات المعلنة والخفية والتي جرت وتجري تحت عنوان (إعادة إعمار غزة ). وكل هذه الامور غير منقطعة الصلة بمؤتمر باريس التآمري الذي ضم وزراء خارجية أمريكا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وتركيا وقطر وانعقد يوم 26 يوليو 2014 في معمعة العدوان على غزة، وأطراف هذا المؤتمر ما زال يشتغلون على صناعة دولة غزة.
فواهِمّ من يعتقد أن مؤتمر القاهرة المنعقد يوم الاحد الموافق 12 أكتوبر 2014 كان مخصصا فقط لبحث إعمار القطاع، وسيجانب الصواب كل مَن يعتقد أن وزير الخارجية الامريكي جون كيري، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، والمنسق الاوروبي لعملية السلام في الشرق الاوسط روبرت سيري، وممثل الرباعية طوني بلير، ومشاركة ستون دولة نصفها كان التمثيل على مستوى وزير خارجية، أن كل هؤلاء جاءوا للقاهرة مدفوعين بحالة تأنيب ضمير على تقصيرهم بحق أهالي غزة، او مدفوعين بمشاعرهم وعواطفهم التي يريدون تحويلها لمليارات تُعيد بناء غزة أفضل مما كانت قبل الحرب، او ليُدينوا إسرائيل على ممارساتها – حيث لم تصدر في المؤتمر أية إدانة لإسرائيل على عدوانها وجرائمها في قطاع غزة -.
جزء من أسباب وأهداف عقد مؤتمر القاهرة تمت الإشارة إليه في موقع وزارة الخارجية المصرية الذي حدد الهدف من عقد المؤتمر بـ : ( تعزيز أسس وقف إطلاق النار وتحسين آفاق الحل السياسي للصراع عن طريق تعزيز قدرة الحكومة الفلسطينية في تَحَمُل مسئوليتها بشأن إعادة تأهيل قطاع غزة، تعزيز آلية الأمم المتحدة القائمة لاستيراد وتصدير البضائع والمواد من وإلى قطاع غزة، توفير الدعم المالي الخاص بإعادة إعمار القطاع ). هذه الأهداف عبر عنها ايضا وزير الخارجية الامريكية عندما دعا للعودة إلى طاولة المفاوضات وبحث مسالة السلاح في قطاع غزة، كذلك كلمات ممثلي الدول الأجنبية في مؤتمر القاهرة وفي تصريحات لاحقة.
إذن فالمؤتمرون في اجتماع القاهرة والجهات المانحة التي تقف وراء آلية الإعمار التي اقترحتها الأمم المتحدة ووافقت عليها الاطراف الفلسطينية الرئيسة وخصوصا السلطة الفلسطينية وحركة حماس، في لقاءات مشتركة معهما، وأخرى منفردة مع حماس وهو ما اثار شكوكا عند حكومة التوافق وحركة فتح. هذه الآلية تأخذ بعين الاعتبار مطالب إسرائيل بكل صغيرة وكبيرة خاصة بقطاع غزة.
جوهر هذه الآلية إنه حتى يتم إعادة إعمار قطاع غزة يجب تثبيت وقف إطلاق النار والتوصل لهدنة دائمة بين فصائل المقاومة في قطاع غزة من جانب وإسرائيل من جانب آخر، وهي هدنة قد تتضمن شروطا أشد من شروط هدنة 2012 والتي كان عنوانها الرئيس (وقف الاعمال العدائية بين الطرفين)، وبطبيعة الحال فإن وقف إطلاق النار والهدنة ووقف الاعمال العدائية ستشمل الضفة والقدس وأراضي 48، وهذا يعني أنه سيُحظَر على فصائل المقاومة الفلسطينية المشمولة بالهدنة القيام بأي عمل عسكري ضد إسرائيل مهما مارست إسرائيل من أعمال إجرامية في الضفة أو القدس.
مكمن الخطورة، أن إسرائيل تريد أخذ ثمن إعمار قطاع غزة من الضفة والقدس وعلى حساب المقاومة، أو بصيغة أخرى أن تضع فصائل المقاومة في قطاع غزة أمام خيار : غزة أو فلسطين. بالإضافة إلى أن آلية الإعمار التي تم التوافق عليها لا تشترط إنهاء الحصار ولا إنهاء الانقسام، بل تتعامل مع الأمر الواقع القائم في غزة.
في حالة قبول الفلسطينيين وخصوصا فصائل المقاومة بشروط الإعمار فهذا معناه تخليهم عن المقاومة، حقا وممارسة، والتوقف عن مواجهة الممارسات الصهيونية في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية، وبالتالي ستنتهي القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني. في هذه الحالة لا نعتقد أن أية دولة او شعب عربي أو إسلامي سيفكر بالحرب او الدخول بمواجهة مع واشنطن وتل أبيب من اجل القدس والمقدسات، حيث سيقول هؤلاء أنهم لن يكونوا فلسطينيين اكثر من الفلسطينيين انفسهم وخصوصا قطاع غزة وأهله الذين يقبلون بدور المتفرج على ما يجري في الضفة والقدس.
هناك وجه آخر من إشكالية الإعمار أو تعثر الاعمار له علاقة بالخلافات الفلسطينية الداخلية حول الإشراف على الإعمار، حيث كل طرف يريد توظيف الإعمار كإنجاز يُثَّبِت سلطته وحضوره السياسي في قطاع غزة. فحركة حماس التي تقول بأنها انتصرت في الحرب تريد أن يؤدي الإعمار إلى تثبيت سلطتها في القطاع أو على الأقل عدم تجاهل سلطتها، فلا نعتقد أن اللقاء بين ممثل الأمم المتحدة وقيادة حماس كان يدور حول كيفية تنازل حماس عن السلطة في قطاع غزة، وفي المقابل فالسلطة الفلسطينية التي ترى نتائج الحرب غير ما تراه حركة حماس تريد ان يكون الإعمار من خلالها وبما يعزز حضورها كسلطة وحكومة شرعية تم التوافق عليها في لقاء مخيم الشاطئ.
وهكذا وبعد الشروط والمطالبات الكبيرة للفلسطينيين في مباحثات وقف إطلاق النار وقُبيل مؤتمر الإعمار كالمطالبة بميناء ومطار ورفع الحصار الخ، تمت الموافقة من السلطة الفلسطينية ومن حركة حماس، ومن خلال لقاءات دولية منفردة علنية وسرية مع كل منهما، على تثبيت وقف إطلاق نار وخطة إعمار لا يتضمنا أي من المطالب السابقة، بل يتم تشديد الحصار اكثر من السابق ويتم رهن كل دولار وكيس اسمنت يدخل للقطاع بالإرادة الإسرائيلية وتحت إشرافها.
وكخلاصة نقول: سيتم تمييع موضوع الإعمار واختزاله بدخول بعض الأموال والمساعدات العينية إلى القطاع مع استمرار الحصار والانقسام، وسيتم إلهاء أهل غزة بتفاصيل الحياة اليومية والبحث عن أمنهم الغذائي والأمني وخصوصا بعد التفجيرات الاخيرة، وسيستمر التراشق الإعلامي والاتهامات المتبادلة بين القوى السياسية، ووسط ذلك سينسى أو يتجاهل الجميع الثمن الباهظ وطنيا واستراتيجيا الذي يتم دفعه مقابل عمليات الإغاثة والترقيع التي تسمى الإعمار.
*عميد كلية الآداب بجامعة الأزهر بغزة