عندما تأسس حزب نداء تونس ، كان أشبه بالعمل الجبهوي الذي ضم شخصياتٍ من مشارب متنوعة، وقوى حزبية مختلفة، اتفقت على غاية واحدة، هي إطاحة خصم سياسي، ونعني به أحزاب الترويكا التي وصلت إلى الحكم، إثر أول انتخابات ديمقراطية تشهدها تونس، باعتبارها من ثمار ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011. وبعد تمكّن هذا الحزب من الفوز بالأغلبية البرلمانية، وبمنصب رئاسة الجمهورية، تفجرت كل المشكلات والخلافات الكامنة فيه دفعة واحدة، حيث أصبح التعايش بين مراكز القوى المشكلة له مستحيلاً. ومن هنا، ظهرت التشققات على السطح، لتفرز قوة سياسية جديدة، حاولت أن تستعيد الشعارات التي قام عليها حزب نداء تونس. ولكن، بصيغة مختلفة، ونعني بها خصوصاً فكرة إحياء ما سماها أصحابها البورقيبية، غير أن التجربة الجديدة سرعان ما بدأت تعاني هي نفسها من التآكل وعوامل القصور الذاتي، لجملة أسبابٍ بنيوية تنبع من طبيعة التشكيل السياسي الجديد نفسه.
تشكل حزب “مشروع تونس”، ومنذ تم الإعلان عن فكرته الأولى، على أساس المناكفة والخصومة السياسية مع الحزب الأم الذي انفصل عنه، وهو ما تجلى في انشقاق نواب برلمانيين شكلوا كتلة جديدة تحت مسمى “كتلة الحرة”. ولم يكن الخلاف حينها على أساس الأفكار أو البرامج، بقدر ما حمل سمة الصراع الشخصي بين حافط قائد السبسي ومناصريه من جهة ومحسن مرزوق وأتباعه من جهة أخرى.
وقد حاول مرزوق، بعد الإعلان الرسمي عن كيانه الحزبي، في 2 مارس/ آذار 2016، أن يؤكد على خصوصية حزبية مفترضة، غير أن برنامج الحزب لم يحمل تصوراً جديداً، في أبعاده المجتمعية والسياسية والاقتصادية، مقارنة بغيره، بقدر ما تشكل حول شخص مرزوق الذي يقدمه أنصاره على أساس أنه بورقيبة الجديد، ومن سيتصدّى للأحزاب الإسلامية. وسرعان ما بدأت تظهر الخلافات داخل الكيان الجديد على خلفياتٍ متعددةٍ، حيث عبر أحد القيادات التي شاركته الانسحاب من “نداء تونس” عن خيبة أمله من الحزب الجديد قائلاً إنه لا وجود لمشروع في حزب محسن مرزوق، مؤكداً أنها مجرد أفكار ولها هدف واحد، هو تكوين حزب جديد. مضيفا أن لمرزوق “نزعة استفرادية، ويريد السيطرة على الحزب، وأن يكون الرجل الأول فيه، في حين أننا أصحاب مشروع لا نبحث عن المواقع والمناصب”. (تصريح الطاهر بن حسين لصحيفة الصريح في 29/02/ 2016)، ومما زاد في إثارة الشبهات حول حزب مشروع تونس انسحاب أحد قياداته النشيطة، والتي ساهمت في التأسيس، ونعني به زياد الخليفي، انطلاقاً من اتهامات متبادلة بينه وبين زعيم الحزب، على خلفية فساد أخلاقي مفترض.
وبغض النظر عن هذه التجاذبات الداخلية التي عرفها هذا الكيان السياسي الجديد، كان من الواضح أنه يعاني من عدم وضوح الرؤية، ويحاول البحث عن دورٍ يثير من خلاله الانتباه إلى وجوده في الساحة السياسية، وربما هذا ما يفسر طرح كتلة الحرة التابعة له مشروع قانون لمنع ارتداء النقاب في الأماكن العامة. وعلى الرغم من أن الموضوع لم يشكل أولوية سياسية عاجلة، أو قضية مركزية تشغل الرأي العام، بالمقارنة مع قضايا البطالة والفساد والإرهاب، فقد حاول الحزب الجديد التركيز على قضية منع النقاب، والسعي إلى تحويلها رافعةً سياسيةً، تمكّنه من فرض نفسه طرفاً سياسياً فاعلاً ومؤثراً. وبغض النظر عن النتائج المحتملة للتصويت على مشروع القانون، فإن سعي “مشروع تونس” إلى إقراره هو محاولة سياسوية لإيجاد حالةٍ من التجاذب، على خلفيات إيديولوجية أكثر مما هو قانون، يمكن أن يغيّر الواقع، بالنظر إلى محدودية عدد النساء اللاتي يرتدين النقاب في تونس.
إقرأ أيضا: لماذا يريد نداء تونس ورئيسه تعديل الدستور
غير أن التطور اللافت الذي سيكون له أثر سلبي واضح على حزب مشروع تونس هو ما تم تسريبه، أخيراً، ضمن ما يطلق عليها “أوراق بنما”، حيث ذكر موقع أنكيفادا أن محسن مرزوق اتصل، عبر البريد الإلكتروني، بمكتب المحاماة موساك فونسيكا المعني بكل “أوراق بنما” في ديسمبر/ كانون أول سنة 2014، من أجل السؤال عن كيفية تكوين شركة استثمار مالية غير موطنة (أوفشور)، لتحويل أموال وتهريبها إلى الخارج من دون تتبعات ضريبية. وقد أثار الخبر موجة من التعليقات في وسائل الإعلام التونسية المختلفة، بالنظر إلى حساسية قضايا الفساد لدى الرأي العام التونسي، فما الذي يدفع قيادياً بارزاً، ومسؤول الحملة الانتخابية الرئاسية للباجي قائد السبسي، في حينه، إلى إنشاء شركة وهمية في ملاذ ضريبي آمن؟
وتأتي هذه التسريبات في ظل صراع محتدم بين القوى الحزبية المختلفة في المشهد السياسي التونسي، وحيث لم يعد بالإمكان ممارسة التعتيم، أو منع انتشار المعلومات وتداولها. وهو ما يطرح أسئلة أساسية: هل يتمكن محسن مرزوق من الخروج من هذه الأزمة، من دون آثار جانبية، تمس مصداقيته، بوصفه سياسياً يريد أن يطرح نفسه بديلاً ممكناً للحكم؟ وهل انتهى مشروع تونس قبل أن يبدأ؟ وفي ظل حالة الارتباط العضوي بين شخص رئيس الحزب والكيان الحزبي الذي يتزعمه، ماذا بقي لحركة “مشروع تونس” أن تقدمه للساحة السياسية؟ أسئلة كثيرة مطروحة، والأيام المقبلة كفيلة بالإجابة عنها، لكن الأكيد أن ما تعرفه تونس من حراكٍ ديمقراطيٍ وحرية تعبير تجعل من الصعب تبرير الأخطاء الكبرى للسياسيين، أو خداع الناخبين بشعاراتٍ جوفاء، يرفعها السياسيون فيما يمارسون نقيضها واقعاً.
كاتب وباحث تونسي/”العربي الجديد”