تعبيرا عن ألمهم وحزنهم على ضحايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل، فضل عدد من التونسيين رفع الشعارات وكتابة عبارات التنديد على جدران السفارة البلجيكية، واختار آخرون رمى بعض باقات الزهور على مدخلها.
ورغم اختلاف الأسلوب تلقى الموظفون داخل مقر البعثة الدبلوماسية تلك الرسائل الرمزية بالسرعة المطلوبة، وبقدر من الاهتمام عكسه تصريح السفير برونوفان دير بلوم لصحيفة «الصباح» المحلية، بأنه يشعر بالمساندة من جانب كل التونسيين، قبل أن يضيف أنه اضطر أمام الكم الهائل من رسائل التعاطف التي وردت على موقعه الإلكتروني إلى تكليف أحد الموظفين بمهمة الرد عليها. لكن الهجوم على عاصمة اخرى من عواصم شمال المتوسط بعد باريس عمق مشاعر القلق لدى الجارة الجنوبية الصغرى، التي توصف في الإعلام الأوروبي بالاستثناء الديمقراطي العربي، وجعل الكثيرين يتساءلون باستهزاء ومرارة، بعد أن خابت آمالهم وتوقعاتهم في أن يقف المارد الشمالي إلى جانب تجربتهم، عما إذا صاروا بعد كل الخطوات التي قطعوها منبوذين ومتروكين على الهامش، لا يلتفت اليهم أو يهتم لامرهم أحد من جيران الضفة المقابلة، إلا وقت الضرورة، أي حين تبدأ النقاشات المحمومة حول تفجير أو عملية ارهابية تصيب عاصمة من عواصمهم ويشتبه في أن افرادا تونسيين أو من اصول تونسية شاركوا أو ساهموا فيها، أو كلما اثيرت قضية التدخل المحتمل لتقاسم كعكة ليبية بدأت تطبخ على نار هادئة؟ ليس ذلك فحسب، بل أن البعض صار يعتقد اكثر من قبل انه لم يعد ممكنا الاستمرار في الترويج على أن تونس هي بالفعل قدوة ونموذج اقليمي باستطاعته اغراء باقي الشعوب الغارقة في وحل الحرب والدماء بعد أن انفض من حولها الاصدقاء الديمقراطيون ورموها بحزمة يوروهات شحيحة ومشروطة، مرفوقة بحزم ضخمة وثقيلة من الورق المدجج بالعبارات الانشائية غير القابلة للتحويل في اسواق الصرف.
مربط الفرس في كل ذلك هو أن ترتيب الأولويات لا يسمح للأوروبيين بالتحرك بقدر أكبر من الجدية، ولا يخول لهم تقسيم ادوار كولونيالي معروف أن يفتحوا الملف بمعزل عن خيارات فرنسا التي ترى الشأن التونسي ملكية داخلية تخصه اكثر من باقي شركائها في الاتحاد، وتملك هي وحدها سلطة التقرير فيه وشرحه وتقديمه لهم ورسم خطوط سيرهم وتوقفهم في بلد يحتفل الشهر الجاري بالذكرى الستين لاعلان استقلاله عنها. والعائق الاكبر هو أن باريس لا ترغب بالمغامرة بدعم تجربة لا ترتاح لها تماما ولا تؤمن بها، أو تعتقد اصلا أن لها فرصا حقيقية للنجاح، رغم كل ما يقال داخل الصالونات، وما يكتب باستمرارحول ضرورة الوقوف إلى جانب البلد الصغير والدفاع عن ديمقراطيته الناشئة من مخاطر الانتكاس السريع. فما يهم الفرنسيين والاوروبيين بالاساس هو وجود قدر من الاستقرار النسبي، الذي لا يسمح للتونسيين بفتح اجنحتهم بالكامل والتفكير يوما بالتحليق والانطلاق خارج المدار الباريسي المعهود، ولا يجعلهم يسقطون أيضا في بحور من الدماء والفوضى، كما حصل في اكثر من مكان في جوارهم القريب والبعيد. لا يريدون اضطرابات تطيح بالحكومة وتفتح البلد على المجهول، وتفسد القصة الرومانسية «لثورة الياسمين».
ولا يرغبون بالمقابل ايضا بشد أزر النظام وتقوية اقتصاد يتحكمون في مفاصله الصغيرة والكبيرة. ما الذي يريدونه اذن بالضبط؟ انهم يرغبون بضمان أمنهم وتأمين حدودهم، حتى لا تزحف إليهم أنباء الضفة الجنوبية أو الوافدون اليها من الصحراء، ولكنهم لم يفهموا حتى الآن أن ذلك لن يحصل بدون ـدعم التجربة التونسية بالافعال لا بالاقوال والخطب الرنانة والشعارات الفارغة. تلك الحالة من الانفصام والنفاق وصفتها صحيفة «لوموند» في افتتاحيتها العاشر من هذا الشهر بفقدان البصيرة وقالت «إن الغرب لم يستوعب أن مساعدة تونس ماليا واقتصاديا هي أولوية في مكافحة ما يسمى بداعش»، قبل أن تضيف بان هناك «موارد مالية هيكلية يسندها الاتحاد الاوروبي لاعضائه من اوروبا الشرقية بشكل شبه آلي وكان حريا به أن إلى يوجهها إلى تونس وذلك في مصلحته». ولكن الأمر لم يكن صحوة ضمير أو كشفا لحقائق خفية غابت عن عيون وأذهان المسؤولين والقادة بقدر ما كان جرس إنذار أخير، بأن الأمور قد تفلت نهائيا من أيدي الأوروبيين إذا ما استمروا على ترددهم وتمكنت قوى اخرى في مقدمتها امريكا، وحتى روسيا من ملء الفراغ والدخول إلى ساحة ظلت محسوبة على دول القارة العجوز. وما يطمئن الأوروبيين والفرنسيين بوجه خاص هو أنهم يدركون في قرارة أنفسهم أن مجال المناورة ضيق وفرص الاختيار محدودة امام البلد الصغير، حتى يقرر بين عشية وضحاها فك ارتباطه العضوي بهم وانفصاله بالكامل عنهم وقص حبل سري ظل يربط تونس بباريس منذ العصر الكولونيالي. المشكل الأساسي هنا ليس فقط أن الروابط الاقتصادية والسياسية العميقة هي التي تجعل التونسيين مرتهنين في قراراتهم ومواقفهم للإرادة الأوروبية بقدر ما هو أيضا وبالأساس مشكل ثقافي كما وصفه عميد السلك الدبلوماسي المعتمد بتونس، حين تحدث قبل أيام في تصريح إعلامي عن المعوقات التي تحول دون تطور المبادلات بين تونس وأفريقيا. فقد ترسخت بمرور الوقت لدى أجيال متتالية أوهام صارت قناعات وثوابت، وهي ألا بديل عن فرنسا، أو كما قال الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يوما عن الاستقلال انه «الاستقلال مع فرنسا وليس عن فرنسا» ولم يكن ممكنا أو متاحا رؤية العالم أو حتى فهم وتقبل القدر الجغرافي والتاريخي الذي جعل تونس بلدا عربيا مسلما ولم يضعه لا في قلب اوروبا ولا حتى على اطرافها.
إقرأ أيضا: تفجيرات بروكسيل.. نفس الرسائل الإرهابية العبثية!
وما فعلته فرنسا هي أنها اقتطعت من تحولوا لاحقا إلى نخب البلد وحكامه من تلك التربة الأصلية وحولتهم إلى مبشرين وناطقين باسم حداثة موهومة وزائفة ظل مشكلها الاول والاخير هو تطويع الهوية واجتثاثها وتذويبها في الانوار الباريسية التي ابهرت التونسيين وجعلتهم يندفعون نحوها مثلما تندفع الفراشات إلى النار. ولم يكن وفقا لكل ذلك ممكنا ألا يحصل نوع من التماهي الحاد والمطلق احيانا بين الضفتين بشكل مغشوش وغير متكافئ ينصاع فيه الطرف الاقل وزنا وقوة إلى رغبة وإرادة الطرف الأكثر تأثيرا ونفوذا. وحتى حين بكى التونسيون أطفال غزة وانفطرت قلوبهم لمأساة العراق، وبعدها خراب سوريا ومحنة اليمن، لم يكن كل ذلك سوى قوس حرص الأوروبيون على أن يغلق بأسرع وقت حتى ينحصر الانتباه بشكل كامل ومطلق إلى ما وصفوه بالخطر المشترك الذي يتهدد الجميع ولا يفرق بين ديمقراطيات عريقة وتجارب انتقال ناشئة. لقد نزل غول تنظيم «داعش» على الطرفين الاوروبي والتونسي في وقت دقيق ومفصلي ليقلب الموازين ويعدل الخيارات، ويجعل التقارب بينهما أكثر من ضروري، ولكن الامر لا يتعلق فقط بمجرد التنسيق أو الدعم الأمني، بل ايضا بفهم العدو وتحديد اسباب ظهوره وتمدده المفاجئ. ولا يبدو أن هناك رغبة أو حرصا على أن يحصل ذلك في المدى القريب، لكن ما يلفت الانتباه هو ذلك الربط المتعمد بالاسلام، وهو امر يحصل في تونس واوروبا على حد سواء. لقد قالت فيديريكا موغيريني الممثلة العليا للامن والسياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي في مؤتمر نظم في وقت لاحق في بروكسل حول الإسلام وأوروبا إن «للإسلام مكانه الطبيعي في المجتمع الأوروبي والدليل على ذلك تأثيره الواضح على اسلوب حياتنا». قبل أن تضيف أن «الاسلام هو اوروبا واوروبا هي الإسلام»، وحتى بعد التفجيرات الأخيرة فقد جددت تأكيداتها على أن الاسلام جزء من الحل لمشكلة الارهاب. وبالطبع لا يتعلق الامر هنا بمجاملات دبلوماسية أو عملية استيعاب واستدراج ذكي لجالية اسلامية يتزايد عددها ودورها في القارة العجوز فقط، بل ايضا بمحاولة جدية لتفصيل اسلام على المقاس الاوروبي، وهو الامر ذاته الذي يحصل الان حتى داخل تونس من خلال ظهور ما يشبه الفتاوى الغريبة حول أن الخمر حلال أو أن البغاء والمخدرات لم تحرم بنص القرآن، وغيرها من الاقوال التي تقدم كاجتهادات لعلماء ومفكرين حداثيين. وليس من الواضح أن تلك المحاولات قد تكون المدخل الانسب لحل المشكل وتصفية الخطر المشترك بين الضفتين، بل انها قد تصب مزيدا من الزيت على النار وتعجل بحصول انعطافة تاريخية في علاقة قديمة مايزال حبلها السري حصينا ومتينا حتى الان. وفي تلك الحالة سوف لن يذكر التونسيون تفجيرات بروكسل على انها فقط مأساة اوروبية تستحق الرثاء والبكاء ووضع باقات الزهور أمام السفارة البلجيكية، بل مقدمة لتصحيح خلل مزمن في علاقة موبوءة مع السادة الكبار في الضفة الشمالية .
كاتب وصحافي من تونس/”القدس العربي”