تشهد الساحة السياسية في موريتانيا هذه الأيام تصريحات من هنا وهناك حول مدى إمكانية تعديل بعض أحكام الدستور ، وخصوصا منها ما يتعلق بفترة الانتداب الرئاسي أو عدد المأموريات.
ونظرا إلى أن الموضوع قانوني ودستوري بالدرجة الأولى أردت أن أدلي بدلوي فيه من الناحية الدستورية والقانونية لتوضيح بعض الملابسات والإشكالات الدستورية والقانونية التي يطرحها.
وعليه فسأركز في هذه العجالة على موضوعين أساسيين:
الأول: القيود التي ترد على سلطة تعديل الدستور ومدى قيمتها من الناحية القانونية والدستورية (مبدأ الحظر).
الثاني: كيف يتم تعديل الدستور ومن يحق له المبادرة بالتعديل.
بالنسبة للموضوع الأول تنص بعض الدساتير على منع تعديل أحكام الدستور أو بعضها، ويأخذ هذا المنع أو الحظر – كما يسميه فقهاء القانون الدستوري – صورتين: حظر موضوعي وحظر زمني؛
وسأتناول الصورتين بالتفصيل وتنزيلهما على مقتضيات نصوص الدستور الموريتاني وبعض الدساتير المقارنة.
1- الحظر الموضوعي: وهو المنع الذي يرد على نصوص معينة في الدستور تعالج وتجسد أحكاماً ومبادئ معينة، يعتقد المشرع ضرورة حمايتها، وذلك عن طريق حظر تعديلها، إما بصورة دائمة أو مؤقتة.
وعلى هذا الأساس فالحظر الموضوعي يأخذ شكلين، فهو إما أن يكون حظراً دائماً أو مؤقتاً
– فالحظر الموضوعي الدائم يعني تحريم تعديل موضوعات أو مواد من الدستور تحريما مطلقاً، وذلك نظرا لحساسية تلك المواضيع لكونها تتعلق بحماية الدعائم الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي للدولة.
ويعتبر الدستور الموريتاني من بين الدساتير التي أخذت بمبدأ الحظر الدائم لتعديل بعض أحكام الدستور. ومن أمثلة هذا الحظر ما نصت عليه المادة 99 من الدستور الموريتاني في فقرتها الأخيرة: “لا يجوز الشروع في أيّ إجراء يرمي إلى مراجعة الدستور، إذا كان يطعن في كيان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزتها أراضيها أو من الصبغة الجمهورية للمؤسسات أو من الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وذلك طبقا لما تنص عليه المادتان 26 و28 المذكورتان سالفا”.
تنص المادتان اللتان أحالت عليهما المادة أعلاه على ما يلي: “ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس (5) سنوات عن طريق الاقتراع العام المباشر”. (فقرة أولى من المادة 26).
وتنص المادة 28 بشكل واضح على ما يلي: “يمكن إعادة انتخاب الرئيس لمرة واحدة”.
ومن خلال استقراء مقتضيات نصوص المواد الآنفة (26 – 28 – 99) يتضح أن حظر جواز مراجعة إعادة انتخاب الرئيس لأكثر من مرة واحدة الذي نصت عليه المواد أعلاه من ضمن المواضيع التي لا يجوز المساس بها في أي مراجعة للدستور، أي أنها داخلة تحت يافطة ما يسميه فقهاء القانون الدستوري بـ”الحظر الموضوعي الدائم” – الذي سبقت الإشارة إلى مضمونه -.
إقرأ أيضا: هل يعجز النظام الحاكم في موريتانيا عن تسيير شؤون البلاد؟
ومن بين الدساتير التي أخذت بالحظر الدائم لتعديل بعض أحكامها، الدستور الفرنسي 1958 والذي نصت الفقرة الأخيرة من المادة 89 منه على أنه: “لا يجوز اقتراح أي تعديل يهدف إلى تغيير شكل الحكم الجمهوري”.
– أما الحظر الموضوعي المؤقت فيعني عدم جواز المساس ببعض نصوص الدستور خلال فترة زمنية بسبب وجود ظروف معينة، فإذا زالت تلك الظروف ارتفع الحظر. ومن أمثلته ما جاءت به المادة (176) من الدستور الكويتي والتي نصت على عدم جواز اقتراح تعديل صلاحيات الأمير المبينة في الدستور خلال فترة النيابة عنه.
2- الحظر الزمني: وهو الذي يهدف إلى حماية أحكام الدستور من التعديل خلال فترة من الزمن، قد تكون محددة أوغير محددة، لكنها في كل الأحوال تكون مؤقتة. ومن أمثلته ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة 40 من الدستور الموريتاني، والتي جاء فيها: “لا يمكن إدخال أي تعديل على الدستور سواء عن طريق الاستفتاء أو عن طريق البرلمان خلال فترة الإنابة”.
ومن خلال مقتضيات الفقرة أعلاه يتضح أن الدستور حظر أي تعديل على الدستور خلال فترة وجود رئيس بالنيابة يتولى تسيير الأمور الجارية، وذالك في حالة شغور منصب الرئيس أو حدوث مانع اعتبره المجلس الدستوري نهائيا.
لكن مبدأ الحظر بأنواعه التي تطرقنا لها آنفا، – والتي أخذ بها الدستور الموريتاني وكذلك العديد من دساتير دول العالم – أثارت إشكالات عديدة لدى فقهاء القانون الدستوري حول مدى قيمتها القانونية والدستورية، وذهبوا في ذلك إلى عدة اتجاهات، نذكر منها:
– اتجاه يرى بأن جميع النصوص الدستورية التي تحظر تعديل أحكام الدستور بصفة دائمة أومؤقتة أوفي حالة الظروف الاستثنائية ليس لها أية قيمة قانونية أوسياسية ولا تتمتع بأية قوة إلزامية، لأن هذا يتنافى مع مبدأ سيادة الأمة وحقها في التعديل متى تشاء؛
– اتجاه آخر يرى أن النصوص الدستورية التي تحظر تعديل بعض أحكام الدستور بصفة دائمة، أو خلال مدة زمنية محددة أوفي حالة ظروف استثنائية تتمتع كبقية القواعد الدستورية الأخرى بالقوة القانونية الملزمة، غير أنه يجوز تعديلها، وذلك مراعاة لمبدأ سيادة الشعب وحقه في في تعديل وإلغاء ما قرره في أيّ وقت شاء.
وأعتقد أن هذا الاتجاه الأخير أقرب إلى المنطق، نظرا لمجموعة من العوامل يضيق المقام عن عرضها وتفصيلها تتعلق بوضع الدستور وطريقة وضعه والجهة التي وضعته.
ونظرا إلى أن الدستور يستمد قوته من الشعب الذي وضعه بإرادته، وله الحق في تغييره أو تعديله متى ارتآى مصلحة في ذلك. ضف إلى ذلك أن القواعد القانونية تمتاز بالدينامية وعدم الجمود، فهي تساير أحوال مجتمعاتها.
أما بالنسبة للموضوع الثاني وهو كيفية تعديل الدستور ومن يحق له ذلك، فقد نصت المادة 99 من الدستور في فقرتها الأولى على أنه: “يملك كل من رئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان مبادرة مراجعة الدستور”.
ومن خلال مقتضيات نصوص الدستور يتضح أن رئيس الجمهورية يمكن أن يقوم بمبادرة مراجعة الدستور بطريقتين:
-إما أن يعرض تلك التعديلات على الشعب مباشرة عن طريق الاستفتاء؛
– أو يعرض تلك التعديلات على البرلمان مجتمعا في مؤتمر؛ إذ تنص المادة 101على أنه: “لا يقدم مشروع المراجعة للاستفتاء إذا قرر رئيس الجمهورية أن يعرضه على البرلمان مجتمعا في مؤتمر. وفي هذه الحالة لا يصادق على مشروع المراجعة ما لم يحصل على أغلبية ثلاثة أخماس (3/5) من الأصوات المعبر عنها. ويكون مكتب المؤتمر هو مكتب الجمعية الوطنية”.
إذا من خلال هذه المادة يتضح أن الرئيس بإمكانه اقتراح مراجعة الدستور في حالتين متساويتين؛ إما أن يعرضه على البرلمان مجتمعا في مؤتمر، وإما أن يعرضه على الشعب مباشرة عن طريق الاستفتاء، وما أقره البرلمان أو الشعب يصبح قاعدة دستورية، وما قررته القاعدة الأخيرة يلغي ويحل محل القاعدة السابقة. – ما لم ينص على استثناء يخالف ذلك –
وسأختم بخلاصة سأكون فيها صريحا تتمثل في:
– أن مبدأ الحظر الدائم الذي أخذ به الدستور الموريتاني في بعض أحكامه لا يغلق كل الأبواب بشكل مطلق أمام مراجعة الدستور أو بعض أحكامه، سواء تعلق الأمر بتعديل فترة مدة الانتداب الرئاسي، أو عدد المأموريات أو غير ذلك مما تم التنصيص على حظر تعديله. بل إن الأمر رغم ما يترتب عليه من عدم احترام للدستور ومقتضياته فإنه يتوقف فقط على أمرين:
– مدى رغبة الرئيس من عدمها في تعديل فترة الانتداب الرئاسي أو عدد المأموريات.
– مدى احترام الشعب ونوابه للدستور باعتباره يتضمن مبادئ وأحكام مقدسة لا يجوز المساس بها.
لكن للأسف كل الدلائل تشير إلى عدم إيمان شعبنا ونوابنا بتلك العقيدة الدستورية الصلبة، وذلك نظرا للخلل البنيوي الذي ما زال يعاني منه هذا الشعب، ونظرا كذلك إلى واقعه الاجتماعي والسياسي الهش، فمثلا:
– لو طرحنا احتمال نية الرئيس في تعديل الدستور؛ فإنه لو لجأ إلى عرض اقتراح التعديلات على الشعب بواسطة استفتاء، فلن يجد صعوبة في التصويت عليه بـ”نعم” نظرا لأننا نعرف حال شعبنا ومدى رضوخه لكل التأثيرات الوظيفية والاجتماعية والسياسية، وعدم تقديسه لعقوده ودساتيره، لكن الاستفتاء قد يكون من الصعب اللجوء إليه نظرا لتكاليفه المادية واللوجستية الكبيرة، والتي قد لا تكون ميزانية الدولة في الظرف الحالي قادرة على تحمل تلك الأعباء بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها، ويمر بها كذلك العالم أجمع. وبالتالي فإن احتمال عرض التعديل على البرلمان هو الاحتمال الأقوى.
– إذا كان الرئيس ينوي التعديل أو يرغب فيه وقرر عرض اقتراحات التعديل على البرلمان فسيتم التصويت عليه بـ”نعم” بكل تأكيد – للأسف – فالرئيس يتمتع بأغلبية برلمانية بإمكانها أن تشرع له كل مايريد تمريره؛ وكلنا يعرف وضعية نوابنا فهم جزء من مجتمع ما زالت تسيطر عليه النزعة النفعية المصلحية الشخصية “الضيقة” – للأسف -!
وعليه فما دامت عقيدتنا الدستورية هشة، ولا ننظر إلى الدستور باعتباره ميثاقا وعقدا نحتكم إليه جميعا ولا يجوز المساس بأركانه، فيمكن الجزم بسهولة تعديل الدستور بمختلف أحكامه سواء منها ما تم التنصيص على حظر مراجعته وما لم ينص على حظر تعديله.
كاتب صحفي /”الأخبار” الموريتانية