يتّفق العالم كلّه، بما فيه البلاد العربية، على أهمّية متابعة وترقّب الانتخابات الأميركية ، لما لهذه الانتخابات من آثار على أزماتٍ دولية عديدة. لكن معايير التأييد الخارجي لأيٍّ من المرشّحين تختلف تبعاً لاختلاف مصالح الدول أو أزماتها العالقة مع واشنطن.
طبعاً، لا يصحّ القول أن لا فرق بين إدارةٍ أميركية وأخرى، أو بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، كما كان خطأً كبيراً أيضاً التوهّم عام 2008 بأنّ إدارة أوباما ستكون حركةً انقلابية على السياسات العامّة الأميركية.
ففوز باراك أوباما في انتخابات العام 2008 لم يكن ثورةً ولا انقلاباً بالمعنى السياسي على ما هو قائم في الولايات المتحدة من مؤسّسات تصنع القرار عموماً، بل يمكن اعتبار أنّه كان بمثابة «حركة تصحيحيّة» من داخل النظام الأميركي نفسه، بعد أن أوصلت إدارة بوش الابن هذا «النظام السياسي الأميركي» إلى منحدرٍ ما كان يجب أن تهوي إليه. فهكذا كان أيضاً تقييم عدّة أسماء بارزة من «الحزب الجمهوري»، واضطرارها آنذاك لتأييد انتخاب أوباما بسبب السياسات المتطرّفة لإدارة بوش.
إنّ الانقلاب الذي حدث فعلاً عام 2008 كان في مفاهيم اجتماعية وثقافية أميركية. فقد فشل القس جيسي جاكسون في السابق بالحصول على دعم الحزب الديمقراطي له بالترشّح لانتخابات الرئاسة لأنّه أميركي أسود، رغم موقعه الديني المسيحي وجذور عائلته العميقة في أميركا. أيضاً، فشل المرشّح الديمقراطي للرئاسة عام 1988 مايكل دوكاكس أمام منافسه جورج بوش الأب، بسبب عدم ثقة قطاعٍ كبير من الأميركيين بوطنيته الأميركية لأنّه ابن مهاجر يوناني حديث، وأنّ عائلته لم تتأصّل في التاريخ الأميركي، ولم تنحدر من «الأنجلوسكسون» الأبيض المسيحي البروتستانتي، وكان جون كنيدي أوّل رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة الأميركية، ولم يأتِ بعده كاثوليكيٌّ آخر للرئاسة الأميركية.
إذن، ما حدث في العام 2008 كان انقلاباً على مفاهيم وتقاليد أميركية، غير منسجمة أصلاً مع طبيعة الدستور الأميركي، ولم تعد لها قيمة لدى الجيل الأميركي الجديد، في ظلّ مجتمعٍ تتزايد فيه أعداد المهاجرين غير الأوروبيين، والذين سيشكّلون خلال عقودٍ قليلة قادمة غالبية عدد السكان، وهؤلاء المهاجرون الجدد والأقليّات غير الأوروبية والجيل الأميركي الجديد كانوا أساس الحملة الانتخابية لباراك أوباما، والقوة الشعبية الفاعلة في انتصاره الكبير في العام 2008 ثمّ في التجديد له في العام 2012.
الرئيس أوباما كان حالة تصحيح لمسارٍ أميركي شرَد كثيراً في سنوات بوش الثماني، حيث أضرّ هذا «المسار البوشي» بالمصالح الأميركية عموماً، وطغت عليه الصبغة الأيديولوجية في مجتمعٍ لا يستسيغ «الحكومات العقائدية». ففوز أوباما في العام 2008 كان إعادةً لنهج «الاعتدال الأميركي»، بعد سنواتٍ من سياسة التطرّف وبعد فشل مشروع «الانفرادية» الأميركية في تقرير مصير العالم.
لكن هذا «الاعتدال» كان حالةً نسبية في المجتمع الأميركي، ولم يكن عامّاً وشاملاً لكل الأميركيين، فالتطرّف في المجتمع الأميركي ازداد فاعليةً وبروزاً خلال السنوات السبع الماضية، وهو حاضرٌ الآن في المرشّحين للرئاسة وفيمن يدعمهم، وستكون له تأثيراتٌ كبيرة في أصوات الناخبين بشهر نوفمبر القادم.
إقرأ أيضا: هيلاري كلينتون: يمكن لشخص مسلم رئاسة الولايات المتحدة
إنّ الوجه الجميل لأميركا ظهر في العام 2008 بانتخاب مرشّح للرئاسة هو ابن مهاجر إفريقي مسلم أسود اللون، ولا ينحدر من سلالة العائلات البيضاء اللون، الأوروبية الأصل، والتي تتوارث عادةً مواقع النفوذ والثروة، لكن خلف هذا الوجه لأميركا يوجد وجهٌ آخر، بشعٌ جداً، يقوم على العنصرية ضدّ كل المزيج الذي رمز له فوز أوباما في العام 2008، فهي عنصريةٌ عميقة ضدّ الأميركيين ذوي البشرة السوداء.
هكذا هي الآن المعركة الانتخابية غير التقليدية التي تحدث في الولايات المتحدة، فهي ليست فقط حول الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي تطغى أحياناً على سطح الإعلام، بل هي أيضاً حول المسائل المرتبطة بالدين والعرق والثقافات. إنّها معركة كيفيّة رؤية أميركا للمستقبل وللاتّجاه الذي سيسير نحوه المجتمع الأميركي. فهو بالنسبة للجمهوريين المحافظين أشبه بانقلابٍ مطلوب على الانقلاب الذي حدث في العام 2008، حينما أُنتخب باراك، ابن المهاجر الإفريقي حسين أوباما، كرئيسٍ للولايات المتحدة.
أمّا بشأن السياسات الخارجية، فهناك مساراتٌ متباينة ستحدث تبعاً لاحتمال فوز أيٍّ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بل حتى أيٍّ من الأسماء المرشّحة باسم الحزبين، فلكلّ مرشّح رؤية خاصة لأجندة حزبه ولكيفية تنفيذها في حال وصوله للرئاسة. وكما كان فوز أوباما (الأميركي ابن الإفريقي المسلم) هو حالة جديدة في «البيت الأبيض»، فإنّ احتمال فوز الحزب الديمقراطي بالرئاسة الأميركية سيحمل جديداً أيضاً إن كان الفائز هو هيلاري كلينتون، كأوّل امرأة تصل لهذا المنصب في أميركا، أو إن كان الفائز هو بيرني ساندرز، الذي سيكون أوّل أميركي يهودي يحكم «البيت الأبيض».
ومن الملفت للانتباه ما حدث في ولاية ميشغان من انتخاباتٍ تمهيدية داخل الحزب الديمقراطي، حيث كانت التوقّعات والاستطلاعات تشير إلى تقدّم كلينتون على ساندرز، لكن النتائج جاءت معاكسة، وقيل إنّ عدد الأصوات التي حصل عليها ساندرز من الأميركيين ذوي الأصول العربية هي التي رجّحت كفّة فوزه. ففي ولاية ميشغان تعيش أكبر جالية عربية في الولايات المتحدة، ولها تأثيرات مهمّة في الحياة السياسية والاقتصادية بهذه الولاية.
مدير «مركز الحوار العربي» واشنطن/”البيان”