يسعى التحالف الحاكم في تونس، بحرص شديد، إلى العودة إلى الحضن الخليجي، وتعمل الدبلوماسية التونسية، هذه الأيام، على استعادة علاقاتها الجيدة مع دول الخليج من دون استثناء. عاد رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، من زيارتين رسميتين إلى الكويت والبحرين، واعتبرهما المتحدثون باسم قرطاج “موفقة وإيجابية”، وهو الانطباع نفسه بشأن المحادثات التونسية السعودية التي تمت قبل أكثر من شهر في الرياض. وقد بدأت الاستعدادات لإتمام بقية الجولة التي ستقود الرئيس التونسي إلى الإمارات وقطر وسلطنة عُمان.
ليست هذه السياسة التي يراهن عليها كثيراً الرئيس التونسي محل إجماع في تونس، إذ لا يزال يثور جدل بين الأطراف المختلفة حول الجدوى من هذه الزيارات، ولا يتردد بعض السياسيين في التشكيك في نيات هذه الدولة أو تلك تجاه تونس والثورة. انتهى عهد الإجماع الإجباري، وأصبح كل شيء في هذا البلد محل خلاف، بل وصراع بين الأفراد أو الفرقاء.
يهاجم بعضهم قطر، وينتقد آخرون الإمارات. وهناك من يحمّل المملكة العربية السعودية أوزار العمليات الإرهابية التي حصلت في تونس. لكل مقياسه ولكل حساباته. وبين هذا وذاك يقف الجميع شبه عاجزين عن إنقاذ الباخرة التونسية من الغرق البطيء الذي يهدّدها من جوانب متعددة.
ليست هذه الظاهرة جديدة، فالدبلوماسية التونسية اهتزت بعد الثورة مباشرة، وأخضعت للتجريب والاجتهاد، نظراً لمتغيرات كبرى عاشتها البلاد طوال السنوات الخمس الماضية. وهو ما جعل السياسة الخارجية تفقد بعض ثوابتها، وتحشر باجتهادٍ من هذا الوزير أو ذاك في ملفات خطيرة ودقيقة، تديرها أطراف إقليمية ودولية، وفق مصالحها وحساباتها المتعارضة.
إقرأ أيضا: كيف السبيل للخروج من الأزمة الاجتماعية التي تضرب تونس؟
حدثت في تونس ثورة، على الرغم من استمرار الجدل حول طبيعة ما عاشته البلاد قبل خمس سنوات. كما اهتزت المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، بسبب اتساع رقعة التداعيات التي ترتبت عن الحدث التونسي، وانتقاله إلى دول أخرى أساسية، مثل مصر وسورية. وفي هذا السياق، اعتقد تونسيون بأن الثورة تقتضي تبني آليات الدبلوماسية الثورية. وتوهم هؤلاء أن تونس يمكن أن تتحمل تبعات مثل هذا التحول في علاقاتها الإقليمية والدولية. ومن دون الوعي بخطورة المرحلة، وهشاشة الوضع الداخلي لتونس، انخرط هؤلاء في محاولة تصدير ما حصل إلى الخارج، بحجة أنه قابل للتكرار في بقية الدول الأخرى، وإنْ بطرق مختلفة. لكن، سرعان ما تم احتواء هذا النمط من التفكير. وجاءت الرسالة الأولى والمهمة من الجار الجزائري الذي رد بعض مسؤوليه بحدّة على أي محاولةٍ للتدخل في شأنهم الداخلي. ثم تعاقبت رسائل أخرى من جهاتٍ عديدة، ساعدت كثيراً على محاولة التدارك وتصحيح مسارات الدبلوماسية التونسية، وهي أخطاء حصلت، بسبب قلة الخبرة وعدم التأكد من قدرة بعض المسؤولين الجدد على التحكم في ميولهم الشخصية والأيديولوجية والحزبية، خلال إدارة العلاقات الخارجية للبلد.
تراهن تونس على جميع من يحترمون سيادتها، ويستعدون لدعمها في هذا الظرف الصعب من دون منٍّ أو ابتزاز. وفي المقابل، تستند دبلوماسيتها إلى الثوابت التالية: عدم التدخل في شؤون الآخرين. رفض التدخل في شؤونها الداخلية. تجنب الانخراط في سياسات المحاور والتحالفات الإقليمية والدولية. اعتماد مبدأ تحقيق المصالح المشتركة مع الدول الأخرى. اللجوء إلى الوسائل السلمية، من أجل احتواء الخلافات وحل النزاعات.
إذا أخذنا بالاعتبار هذه المبادئ، يمكننا أن نتفهم ما قاله الرئيس، الباجي قايد السبسي، في زيارته البحرين، أخيراً، من أن الثورة التونسية “داخلية ولم تكن معدَّة للتصدير”. وهذا يعني أن التونسيين عندما انتفضوا على نظام بن علي لم تكن غايتهم تغيير بقية الأنظمة العربية، بقدر ما كانوا يريدون إنهاء حالة الظلم والاستبداد في بلادهم. أما ما ترتب عن ذلك من عدوى أو تداعياتٍ، فتلك مسؤولية الأنظمة التي اقتدت بنظام بن علي، فأصابها ما أصابه.
كاتب من تونس/”العربي الجديد”