لم يختلف الاستجواب الأخير الذي أجرته جريدة “الموندو” الاسبانية، مع زعيم جبهة البوليساريو، في شيء عن سيل الأحاديث والتصريحات التي أدلى بها منذ عشرات السنين ووجدت الصدى والترحيب لدى عينة خاصة من الصحف الاسبانية، دون سواها من المنابر الإعلامية ذات المصداقية والمهنية المحايدة . غالبا ما يلتبس الأمر على قارئها فيتساءل هل هو بصدد تصفح نشرة تنظيم سياسي أم أنه يجيل النظر في إشهار مدفوع الثمن؟
ويعيدنا استجواب “الموندو” المنشور يوم 13نوفمبر، في الطبعة الالكترونية للجريدة المحافظة، الى العقود الماضية، منذ اندلاع نزاع الصحراء. نحس وكأننا نقرأ حديثا أجري خلال سبعينيات القرن الماضي، مبنى ومعنى . نفس الجمل والعبارات الجاهزة المكرورة عن “الشعب الصحراوي” والاحتلال المغربي ومسؤولية بل خيانة اسبانيا لأنها عمدت الى تسليم الصحراء الى المغرب، وهذه” جريمة ارتكبتها اسبانيا في حق الشعب الصحراوي ” !!!.
وهذه واحدة من “الكليشيهات” المبتذلة المتداولة في أدبيات دعاية “البوليساريو” الانفصالية منذ عقود.
وكعادة فخامة “الرئيس” الذي يتنقل بين البلدان، بجواز سفر أجنبي، ملبيا دعوات من ناشطين سياسيين وحقوقيين، امتهنوا تجارة وترويج حقوق الانسان، وليس من الحكومات؛ فإن الزعيم الأبدي، لم يتعلم، وقد خالط واحتك بسياسيين مهذبين وحضر مؤتمرات، كيف يصون لسانه من العبث ومن التفوه بعبارات سخيفة في حق المغرب، المتهم من وجهة نظره، بارتكاب “جرائم حرب وعمليات إبادة ضد الإنسانية وممارسة سياسات التهجير والاختطاف والمحاكمات والقمع الممنهج”!!! (الفلسطينيون يتحفظون أحيانا في توجيه هذه الاتهامات الثقيلة الى المحتلين الاسرائليين).
والمثير حقا، من زاوية نظر مهنية صرفة، ان تورد الجريدة كلام الزعيم الانفصالي، وكأنه منزه عن الباطل والمبالغات، خال من التحامل والمغالطات؛ متجاهلة انه، في أحسن الأحوال، يندرج ضمن سجال سياسي بين طرفي نزاع، يفترض ان تقف الجريدة على مسافة منه.
لم تضع “إلموندو” قيدا على لسان عبد العزيز، مثلما لم تعلم كلامه بمزدوجتين أو أشارت بهامش، تمييزا للحق عن الباطل ولتذكير القارئ ان كلام “الزعيم” يحتمل الكذب أكثر من الصدق، وبذلك تنأى بنفسها عن مقولة ” راوي الكفر” كان حريا بالمطبوعة ان تدقق في معاني الكلمات الكبيرة المشحونة بالحقد والمبالغات الساذجة (حرب إبادة وجرائم ضد الإنسانية) يوجهه، عبد العزيز، اعتباطا ضد المغرب؛ كما يقتضي الحياد ان تمنح الجريدة نفس الفرصة والمساحة لوجهة النظر المغربية.
لو أجرت “إلموندو” وهذا من باب الافتراض فقط، حديثا مع التنظيم الإرهابي الانفصالي الباسكي ETA. هل كانت ستترك احد عناصره يسب ويلعن الشعب الاسباني وحكومته لأنهما يرفضان عنف المنظمة الانفصالية. هل ستروي “إلموندو” على لسان الناطق باسمها تهم الإبادة الجماعية للباسكيين ؟
لا تحفظ ولا تشكيك من قبل المحرر، أو مجرد تلطيف من غلو رئيس جماعة البوليساريو، ولا حتى التنسيب من الأحكام الجاهزة الموجهة ضد المغرب، مع أنها تقنيات وأساسيات أخلاقيات المهنة يتعلمها طلبة معاهد الصحافة قبل اشتغالهم، فإذا بها تغيب عن مطبوعة لها انتشار محترم في إسبانيا.
وفي حديث الزعيم الانفصالي ما هو أمقت من الشتم والانفعال وافتعال المظلومية . يبدو أنه لم يتعلم سواه طوال أربعين سنة. دربه على السب ملقنوه وحشوا ذهنه بمفردات ذلك القاموس المتخلف، فأصبح مثل الببغاء.
تبدو في الأسئلة الموجهة للرئيس رائحة التواطؤ والإعداد القبلي .هذا اذا لم تكن الأجوبة مكتوبة ومعدة من قبل، أو ان التوافق بين الصحافي والمستجوب قد حصل بشأنها . تفاهم لا يمكن ان يعلم ملابساته متصفح الجريدة، لكن من السهل على القارئ الفطن استنتاج المقاصد والغايات.
ليس المقصود هنا، الدعوة الى مصادرة حق وحرية صحافي (إلموندو) في استضافة من يشاء، وقد عثر في مدريد، على صيد إعلامي ثمين. والأمر كذلك بالفعل، فقد أصبح عبد العزيز، بحكم الأقدمية، موضوعا صحافيا مثيرا ومغريا بل مضحكا، لو عرف الصحافي كيف يحاوره ويستخرج منه المستملحات واللطائف .أما وقد تعامل معه كرئيس قوة عظمى، فقد افسد الفرجة.
ويعلم العام والخاص، ان الزعيم الأبدي مريض. انتشرت أخبار على نطاق واسع بخصوص معاناته، ذهبت الى حد إعلان وفاته؛ كما بات يقينا ان الجبهة الانفصالية تعرف خلافات داخلية عميقة في صفوفها، جراء انسداد الأفق السياسي في وجهها، عدا الفضائح والفساد المنتشر في أوصال المنظومة الانفصالية الذي كشفته مصادر وجهات مستقلة.
إقرأ أيضا: عبد العزيز المراكشي يهاجم فرنسا واسبانيا لمساندتهما المغرب
واحد من تلك المحاور، كان يمكن ان ينتج عنه حوار صحافي مثير، يسأل الصحافي بحرية وبجرأة ويجيب المستجوب بما يعتقده حقا، إنما في قالب لغوي ومهني معقول .
لم يكتف رئيس “جمهورية تندوف” بنقده السقيم ضد المغرب، وانما ذهبت به الحمية الى وضع اسبانيا في نفس الكفة مع المغرب، اذ بدورها أجرمت في حق الشعب الصحراوي، وما فعلته بخصوص اتفاقية مدريد، يعد فضيحة وإهانة للشعب الاسباني، من قبل حكومته في ذلك الوقت، حين كانت جمهورية “البوليساريو” مجرد برنامج في إذاعة طرابلس.
لا يراعي، عبد العزيز، حرمة شعب يشتمه فوق أرضه، وقد دخل بتأشيرة سائح وليس رئيس دولة . جاء ليطلب الصدقات ويستجدي المنظمات الاحسانية التي طالما اغدقت عليه المساعدات؛ دون ان ينتبه الى ان “العنتريات الكلامية” مجالها رمال” تندوف” وليس بهو الفندق الذي يقطن فيه بمدريد.
لكن “الرئيس” رغم كل ذلك، يمعن في قلة احترامه للدولة الاسبانية، يطالبها بالتكفير عن خطيئتها عام 1975 . يقترح عليها ما يجب ان تفعله حكومتها وبرلمانها لتبرئة ذمتها، بل يشير عليها من موقع القوة والتجربة المديدة، بماذا يتوجب عليها ان تفعله في مجلس الأمن الدولي، لإرضاء مطالب الجمهورية الفتية المستندة الى أوتاد الخيام. يضيف بكل سذاجة انه يأمل خيرا في العاهل الاسباني الذي يزعم انه التقاه اكثر من مرة في مؤتمرات خارج إسبانيا دون ان توضح الجريدة سياقات اللقاء المزعوم، على اعتبار ان البلاط الملكي الاسباني، لم يسبق ان أصدر بيانا صحافيا بهذا الخصوص. فلماذا يفتري، عبد العزيز، على “فيليبي السادس”؟!
لابد من التنويه ومن باب الموضوعية، بما ورد في الاستجواب المذكور، من حديث “الرئيس” عن التغيير ودعوة الشباب الى القيام بذلك، وتأكيده على ضرورة تسمية أمين عام جديد للجبهة التي سوقت الوهم لأكثر من أربعة عقود، فهو ” التركة النضالية” التي تركها، عبد العزيز، وأضرابه.