أبانت الهجمة الإرهابية التي تعرضت لها حافلة الأمن الرئاسي الثلاثاء 24 نوفمبر الجاري في تونس، على أن آلة الإرهاب تطرح معنى جديدا للعنف المتمدد عالميا بتعمد مخططي الهجمة الضرب داخل العاصمة التي تشهد رقابة أمنية كبيرة وعلى مدار الساعة، واستهداف أحد الأجهزة الأمنية الحساسة.
تأتي الهجمة على الأمن الرئاسي كاستهداف غير مباشر لمؤسسة الرئاسة، لأن مخططي العملية يدركون جيدا أنها مؤسسة مؤهلة وقادرة على توجيه الأمن الاجتماعي وخلق معادلات مبتكرة للاستقرار السياسي على جميع المستويات، وتستطيع تقديم رؤية متجددة للأمن داخل البلد.
وفي هذا الظرف العصيب الذي تمر به تونس اعترف الرئيس الباجي قائد السبسي بأن “تونس تعيش حربا ضدّ الإرهاب ذات أبعاد دولية، وأنّ تونس ستواجهها بكل عدتها ورجالها”، ما يعني أن الإجراءات الردعية المحلية لم تعد كافية بل أصبحت مؤسسات الدولة مطالبة أكثر بتطوير مقاربتها لمحاربة الإرهاب والتعامل بِنَفَس طويل وصارم مع الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الهشة، بالإضافة إلى تكثيف وتنسيق الجهود مع غيرها من الدول على مستوى تبادل المعلومات.
فهل إعلان الرئيس التونسي فرض حالة الطوارئ في البلاد لمدة شهر، وإقراره حظر تجوال ليلي في العاصمة الكبرى تونس يمكن أن تكون له نتائجه الإيجابية على استتباب الأمن؟ الواضح أن هذين الإجراءين جزء من استراتيجية الدولة للحفاظ على استقرارها في محيط متزعزع أمنيا وخصوصا على الجانب الشرقي من البلاد وهو ليس أولوية براغماتية بقدر ما هو سلوك أمني عقلاني يتجاوب مع السياقات المحلية والدولية.
جاء انفجار الحافلة التابعة للأمن الرئاسي كتطور نوعي ومنسق في عمل الإرهابيين، وفي إطاره العام تزامن مع تفجيرات باماكو والعريش وباريس، ليؤكد العاملون على التنظيم الإرهابي الأم أن معركته أضحت عالمية وذئابه المنفردة تنفذ سياسة المركز عبر وسائط تواصل متطورة ومعلومات محيّنة على مدار الساعة.
إقرأ أيضا:“داعش” تتبنى الهجوم على الأمن الرئاسي بتونس
والسياق الذي جاء فيه تفجير حافلة تقل أمنيين بتونس ينذر بتحولات حاسمة في طريقة تعاطي التنظيم الإرهابي مع الوضعية الداخلية لهذا البلد المغاربي واستثمارها لصالحه لإيجاد قاعدة تتعاطف مع عملياته الإرهابية خصوصا عند أجيال من الشباب ترى أن من حقها العيش بكرامة ولها كافة حقوق المواطنة.
إن الإرهاب الجديد استطاع تطوير أدوات اشتغاله ونفاذه إلى أهدافه بدقة متناهية، ففي هجومه على متحف باردو ومنتجع سوسة في يونيو الماضي، أراد تدمير السياحة كمورد اقتصادي مهم لتونس، وباستهدافه حافلة تابعة للأمن الرئاسي في عملية 24 نوفمبر، كانت رسالته تقول إن الاحتياطات الأمنية والإجراءات القانونية وغلق بعض المساجد بالعاصمة لم تصمد أمام الأسلوب الجديد.
أمام هذه الظرفية مطلوب من الحكومة التونسية التركيز على السياسة الاجتماعية للمساهمة الجدية في تطويق الأحزمة الناسفة للإرهابيين التي تلعب من داخل الهوامش الفقيرة، وحتى لا تكون الأزمة الاجتماعية بذاتها إنتاجا متواصلا لإكراهات سلبية أخرى.
يمكن القول إن التحالف الدولي ضد الإرهاب واستهداف التنظيم الأم في المركز بسوريا والعراق، استنفرا كل الخلايا الإرهابية التابعة له عبر خارطة هجمات عالمية تم تحديدها سلفا بأهدافها الثابتة والمتحركة، وطريقة تنفيذها وتوقيت استهدافها. فاستهداف قلب العاصمة تونس هو استعراض للقوة أراد من خلاله الإرهابيون خلخلة العقيدة الأمنية لدى الدولة وزعزعة ثقة المواطن في سلطات بلاده، بعد 10 أيام من إعلان السلطات رفع حالة التأهب الأمني في العاصمة ونجاحها في تقويض مجموعة من الخلايا الإرهابية.
غالبا ما يتحيّن الإرهابيون الفرصة للقيام بعملهم التدميري عبر تكتيكات مخيفة لإعاقة محاولات الدولة التونسية إنعاش اقتصادها بتجاوز الآثار السلبية للهجمة الإرهابية الأولى التي استهدف منفذوها قطاع السياحة، حيث أن ما يحدث من عنف وفوضى على الجانب الليبي، لا يمكن إغفال تأثيره السلبي على مجريات الأحداث في تونس.
استراتيجية الجماعات الإرهابية هي عدم ترك تونس تهنأ بتجربتها الديمقراطية الفتية، التي أرستها بعد 2011، وذلك بإدخال البلد في حالة طوارئ دائمة مع ما لهذه الخطوة من تداعيات غير صحية على القطاع السياحي بالأساس، وجعل الجيش والقوات الأمنية في حالة استنفار دائم بخوضها قتالا دائما مع المجموعات الجهادية.
ولكون تونس تعيش ظرفية اقتصادية هشة وخلافات الفرقاء السياسيين لا تنتهي، ومؤسساتها تسرع الخطى لتأطير الجانب الديني حتى لا يزيد استفحالا، وتسعى للمحافظة على أمنها الداخلي في خارطة جهوية غاية في الخطورة، فإن كل هذا سوف لن يثنيها عن مواصلة إنجاح تجربتها دوليا وجهويا في إطار من الشراكة الأمنية المتوسطية، ولكي تقطع الطريق على من يحاول العبث باستقرارها.
المهم بعد عملية حافلة الأمن الرئاسي وقبلها مذبحة باردو وسوسة في يونيو الماضي، هو تحفيز الوعي الجمعي التونسي بأهمية تقديم ذاته كمعبر وحيد نحو الانصهار الكلي في قيم التعايش والتضامن والتكافل ضمن نموذج تونسي لا يرضخ للإكراهات والأزمات، حتى تنجح التجربة التونسية في البرهنة على استثنائيتها وتوازنها في الرد على كل التهديدات وهذا ما عبّر عنه رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر بالقول إن “العلميات الإرهابية لن تجعلنا نتراجع ونخاف، لا بد أن نواصل عملنا متضامنين ونقول للإرهاب نحن دائما إلى الأمام.
*كاتب صحفي/”العرب”