غطى غبار عاصفة هوجاء ضربت قبل أيام حزب نداء تونس الحاكم، على زيارة رسمية قادت الاسبوع الماضي رئيس الدولة وزعيم الحزب إلى العاصمة السويدية ستوكهولم.
وكان واضحا للمتابعين أن معظم التونسيين لم يهتموا كثيرا لما أفضت إليه محادثات رئيسهم مع الملك كارل غوستاف، أو ما تمخضت عنه النقاشات والجلسات بين كبار المسؤولين في كلا البلدين من نتائج، بقدر ما كانوا يتطلعون إلى أمر واحد لا غير وهو خروج السبسي مؤسس الحزب ورئيسه الشرفي بموقف حاسم وقاطع، ما بدا نزاعا حزبيا محدود النطاق قبل أن يتحول إلى مشكل وطني بالغ التعقيد. وبالطبع لم تغب تلك الانتظارات عن ذهن السبسي طوال الأيام الثلاثة التي استغرقتها سفرته الاسكندنافية، لكن الإشكال الذي واجهه كان أن مجال الخيارات لم يكن واسعا اومفتوحا أمامه بالكامل، فقد وجد نفسه شبه محاصر بين فكي كماشة، على اعتبار انه ملزم بحكم منصبه على رأس الدولة بواجب التحفظ عن الخوض في شؤون الحزب، ومطالب في المقابل بمقتضى موقعه ورمزيته عند الندائيين بأن لا يقف طويلا على ربوة الحياد. لقد تردد في البداية وشعر بالاستياء من تهجم بعض القيادات على شخصه وإقحامه عنوة في صراع القيادات، وخرج الناطق الرسمي باسم الرئاسة ليقول ساعات بعد أعمال العنف التي حصلت في الأول من الشهر الجاري، في اجتماع للحزب بمنتجع الحمامات بأن» الرئاسة تستنكر الزج بالسبسي في الصراعات الداخلية لحزب حركة نداء تونس»، وأن «رئيس الدولة يبقى على المسافة نفسها من جميع الاطراف والاحزاب». لكنه شعر بان ذلك لن يكون مجديا على المدى الطويل، مادامت كرة الثلج تتدحرج نحو الأسوأ، ومادام واجبه الابوي نحو حزبه يدعوه لفرض قدر من الهدوء داخل بيت أشرف قبل ثلاث سنوات على بنائه، وصار في غيابه مهددا بالتداعي والسقوط. لقد استدعى قيادات ونوابا للحزب في البرلمان لعقد جلسة مصارحة ومصالحة بين الاخوة الاعداء، لكنه صدم لما رفض البعض منهم مجرد الحضور إلى القصر. وظل حريصا حتى في ستوكهولم على ألا يفلت فرصة الرد على اعلامي سأله في مؤتمر صحافي عقد على هامش الزيارة الرسمية، عن موقفه مما بات معروفا بأزمة حزب النداء الحاكم ليجيبه بشيء من الدبلوماسية وكثير من الحكمة بأن «ما حصل لن يؤثر على مستقبل تونس»، ثم يستطرد بعد ذلك ويضيف أنه قد يكون هناك مسؤولون داخل الحزب ليست لديهم نظرة مستقبلية لتونس أو أنهم لم يفهموا بعد شعارا ظل يردده طوال الحملة الانتخابية وهو أن «الوطن قبل الاحزاب».
اقرأ المزيد: انشقاق حزب “نداء تونس” يدخل البلاد في مأزق سياسي
أما من كان المقصود بذلك بالتحديد وهل كان الرئيس يعني طرفا معينا من أطراف الأزمة، أو ما أطلق عليه الإعلام المحلي شقا من شقي حزب النداء، ويحمله المسؤولية قبل غيره عما آلت إليه أوضاع القوة السياسية الأكثر عددا وتمثيلية في البرلمان والحكومة، فذلك ما لم يكشف عنه الباجي صراحة، وتركه للتأويلات، رغم أنه لمح في تصريح آخر إلى انه استدعى للقصر النواب البارزين، اما الباقون أي من رفضوا دعوته «فلم يعد يعرفهم» كما قال.
تلك الردود جعلت الكثيرين يطرحون تساؤلا ملحا، عما اذا كان الندائيون الآن بانقساماتهم وطوائفهم مازالوا قريبين من رئيسهم، أو مستعدين لسماع ما يقوله لهم، بعد أن وصف البعض منهم سياسته للوفاق مع الاسلاميين بالخيانة؟
ولعل الامر اللافت في ازمة النداء هو أن السبسي ذاته صار عنوانا بارزا من عناوين المأزق الحالي لحزبه، بعدما كان في السابق نقطة قوته الوحيدة تقريبا. وبات واضحا بالمقابل أن قبضة «البجبوج» كما كان يلقبه انصاره بدأت في التراخي بمرور الوقت، وصارت قدرته على تجميع الخيوط وتحريكها في الوقت والوجهة التي يختارها تتقلص بالتدريج، وحتى الإجماع الذي حصل حول شخصه قبيل الانتخابات صار يتحلل ويتفكك حتى من داخل دوائر كانت تعد إلى عهد قريب وثيقة الصلة بالرجل. كيف تحول التسعيني من منقذ وملهم إلى محرك رمزي لواحدة من أخطر الأزمات الحزبية التي عرفتها تونس في مرحلة ما بعد بن علي؟ قد تكون رحى السلطة انهكته وافقدته بريقه السابق، وقد تكون لعبة السياسة هي التي عجلت بذلك التحول الدراماتيكي السريع في مواقف المحيطين به. المهم أن النتيجة في كلتا الحالتين واحدة، وهي انه صار اليوم محور أزمة تظهر في الصدام العلني العنيف لقوتين داخل الحزب، من أجل الظفر بدفة قيادة قد تكون وازنة ومهمة في المستقبل لمن يراودهم حلم رئاسة البلاد ودخول قصر قرطاج.
لقد تحول الهمس إلى صراخ حقيقي وخرج الامين العام للنداء ليقول في تصريح لصحيفة «الصباح» المحلية بأن هناك مشروعين مختلفين داخل الحزب، أحدهما وطنيا والاخر انتهازي، قبل أن يضيف أن هناك من يحاول فرض واقع التوريث واعتبار «شرعية السلالة اهم من شرعية السياسة». ولم يكن محسن مرزوق بحاجة لتفسير إضافي لتصريحه بأن ابن رئيس الدولة، وهو في الوقت نفسه نائب رئيس النداء، كان المقصود المباشر والوحيد بكلامه. اما على الجانب الآخر فقد خرج قيادي من انصار حافظ قائد السبسي ليقول لاحدى الاذاعات المحلية الخاصة ان» مرزوق بصدد تنفيذ اجندة خاصة بطموحاته الشخصية، وقد اتضح انها تستهدف مباشرة رئيس الجمهورية ومؤسسات الرئاسة» وانه « كشر عن أنيابه بعد زيارته الاخيرة إلى امريكا، والظاهر انه عاد منها بخريطة طريق واضحة المعالم جوهرها الاطاحة برئيس الجمهورية». من يصدق الناس بعد هذا «الحيص بيص» الكرنفالي؟ هل يصدقون من يتخوف من التوريث، أم من يدق نواقيس انقلاب وشيك؟ لا معلومات أو استطلاعات تحدد حتى الآن لأي جانب أو جهة يميل التونسيون أو انصار النداء على وجه التحديد، وهم من صوت له في اخر انتخابات جرت قبل عام من الان. لكن ما يظهر في التفاعل اليومي للناس وما تحاول وسائل الاعلام الايحاء به هو أن هناك قلقا متزايدا من تأثيرات الازمة على الحكومة وعلى توازنات هشة ودقيقة حصلت بعد الانتخابات، بفعل ما صار معروفا بتوافق الشيخين. ويبدو أن تسارع الاحداث صار يغذي تلك المخاوف والشكوك ويزيد في تأجيجها. فقد عادت فوبيا سيطرة الاسلاميين على السلطة واستغلالهم للنزاعات الداخلية التي تشق الحزب المنافس للظهور، بعد أن خرجت معظم وسائل الاعلام المحلية قبل عام لتعلن نهاية الاسلام السياسي في تونس، بتراجع حركة النهضة إلى الصف الثاني في عدد المقاعد التي حصلت عليها في البرلمان الجديد. ولم يتأخر الشيخ راشد الغنوشي في التقاط الرسالة وفهمها جيدا، بقطع الطريق على التنبوءات والتكهنات اليومية لرجال القانون والسياسة حول طبيعة المشهد المقبل على ضوء تصاعد احتمالات انشقاق حزب النداء إلى نصفين، حين قال لإذاعة شمس الخاصة بأنه «لا برنامج لحزبه للانفراد بالحكم أو لقيادة الحكم اليوم»، وان الوضع الحالي، أي صيغة الائتلاف الحاكم، «مناسب ليستمر»، على حد تعبيره. لكن يبدو أن هناك رغبة في الزج مجددا بمن قدموا السلطة لمنافسيهم على طبق إلى المواقع ذاتها التي تركوها قبل شهور قليلة ليختاروا بدلا منها أسلوب الشراكة في الحكم. إنها سياسة عرض الهدايا المسمومة على المنافسين.
وما يلوح من ردة فعل الطرف الآخر حتى الان هو انه لا يبدي اهتماما زائدا أو حماسا كبيرا للانقضاض السريع على ما يعتبره البعض فرصة لاسترجاع ما تم التفريط فيه كرها أو عن طيب خاطر.على أن لعبة» البينغ بونغ» الظاهرة والخفية بين الحزبين الكبيرين في تونس لا تبعث بالتأكيد برسائل ايجابية للخارج. ففيما يستعد الرباعي الذي رعى حوار انتقال السلطة من الاسلاميين إلى خصومهم لاستلام جائزة نوبل للسلام، تعجز الوساطات حتى الان عن تطويق انفجار مدو وصاعق داخل حزب الرئيس. والمفارقة هنا هي أن الحزب المأزوم تأسس لأجل هدف واحد لا غير وهو التصدي لما وصف حينها بهيمنة الاسلاميين على السلطة، لكنه بات الآن في حاجة اكثر من اي وقت مضى لنصائحهم وخبراتهم في التعامل مع الاختلافات الداخلية وتطويقها، حتى تتحول ازمته مثلما توقع السبسي أو تمنى إلى «سحابة صيف عابرة» ولا يحجب غبار عواصفها في المرات المقبلة ازمات تونس ومشاكلها الاصلية والحقيقية مثلما حجب في المرة الاخيرة بالكامل زيارة الرئيس الاسكندنافية.
٭ كاتب وصحافي من تونس/”القدس العربي”