يخطو حزب، بوديموس، الاسباني بغير حذر فوق أرض ملغومة. ربما اقترب حد التماس مع الخطوط الحمراء المحيطة بالمؤسسة العسكرية، المحظور على المنتسبين إليها، ممارسة اي نشاط سياسي ما داموا في خدمة العلم الوطني، يدافعون عن حوزة البلاد يحمون وحدتها، يطيعون الأوامر والتوجيهات الصادرة عن السلطة التنفيذية ممثلة في مجلس الوزراء.
ويقضي العرف العسكري في إسبانيا، ان يبقى كبار الضباط والقادة العسكريون، خاصة من تقلدوا مناصب رفيعة في مراتب الجيش؛ ان يظلوا رهن اشارة المؤسسة العسكرية بعد انتهاء مدة خدمتهم وإحالتهم على التقاعد الذي لا يصبح نافذا ونهائيا إلا بعد فترة انتظار تطول لمدة ست سنوات، يتقاضى المتقاعد خلالها تعويضا إضافيا ما دام رهن إشارة القوات المسلحة إذا ارتأت عودته الى العمل مجددا، بشكل من الأشكال لأداء الواجب الوطني.
وينضبط لهذا التقليد أصحاب الرتب العليا والنياشين اللامعة من ارتقوا حتى الذروة في صفوف الجيش؛ ولذلك فإن ترشح القائد العام السابق للقوات المسلحة الاسبانية الجنرال، خوصي خوليو رودريغث، وهو في نهاية العقد السادس من العمر (مواليد 1948) لخوض الانتخابات التشريعية المقبلة على لائحة الحزب المثير للجدل منذ ظهوره قبل حوالي سنتين؛ يشكل خرقا للعرف بل تمردا عليه ينذر بأوخم العواقب.
إقرأ المزيد: الدستور الاسباني…هل استنفد كل أغراضه؟
لماذا لجأ تنظيم، بوديموس، إلى قائد الجيش الإسباني. هل أراد قصدا إغضاب الحكومة وعاهل البلاد، القائد الأعلى للقوات المسلحة؟ ام افتعل حالة سياسية يستغلها لإثارة الانتباه إليه اثناء الحملة الانتخابية، ليرفع شعبيته المتدهورة حسب استطلاعات الرأي؟أم أنه اختيار بريء من أية شبهة؟
تعاملت الحكومة بحسم مع الجنرال الذي زين كتفيه بأربع نجمات ساطعة ،تثمينا لمساره المهني الناجح في خدمة القوات المسلحة. فقررت إعفاءه والتشطيب عليه من السجل، بعبارات غير ودية، معناها الإخلال بشرف العسكرية. صدر قرار الإعفاء في الجريدة الرسمية بعد أن صادق عليه ملك البلاد.
بررت السلطات، اجراءها الصارم لكون الجيش، مؤسسة سيادية وطنية مستقلة، تتموقع فوق وخارج الاحزاب والتنظيمات المذهبية، يلزم على المنتمي لأسلاكها وأفرعها التقيد بذلك السلوك؛ريثما تنتهي مهمته ويستعيد حريته بالكامل كمواطن مدني عادي، يحق له الانخراط في أنشطة سياسية وفكرية ،بعد سقوط واجب التحفظ عنه.
الجنرال الذي بقيت له اشهر قليلة كمتقاعد احتياطي، احتج على إجراء الحكومة مِؤكدا انه انضبط وجه رسالة لوزير الدفاع الاسباني يطلب فيها اعفاءه ،وبالتالي فإن ترشحه على قائمة حزب، بابلو إيغليسياس، لا يتعارض مع القانون العسكري.
والحقيقة ان الجدل الجاري بين الطرفين، ودخول حزب، بوديموس،على الخط، يعد، بنظر محللين، سابقة خطيرة ومؤشرا على أزمة عميقة تجتاز إسبانيا؛ أشد ما يقلق الناس فيها انها تحوم حول حمى المؤسسة العسكرية الحصينة، ضامنة الاستقرار المتمتعة باحترام المجتمع.
ليس الملتحق الجديد بالحزب، شخصا عاديا، هو قائد سابق للجيش الاسباني لحوالي اربع سنوات من 2008 الى نهاية العام 2011،في ظل الولاية الثانية لحكومة، خوصي لويس ثباطيرو . اختارته وزيرة الدفاع السيدة، كارمي شاكون، من خارج اللائحة المقترحة عليها من الدوائر ذات الصلة بالمنصب مثل القيادة العامة والقصر الملكي والاستخبارات. لم تسند له الوزيرة المسئولية لتعاطفه مع اليسار وإنما لكونه ضابطا كفئا وممتازا. خدم في سلاح الطيران واشتهر باستيعابه لتكنولوجيا السلاح .حلق بأنواع الطائرات المتطورة من قبيل الميراج والفانتوم. وفوق ذلك، فهو عسكري كتوم، يؤمن بالحوار والتريث قبل اتخاذ اي قرار مفصلي.منضبط لرؤسائه ومصغ لمرؤسيه .كما قال عن نفسه. مثل بالنسبة لوزيرته الحصارالمخفف لحماستها.
لماذا ارتكب اللواء، رودريغيث، ما يبدو أنه زلة افقدته الهالة والاحترام اللذين طالما تمتع بهما، لدرجة أن وزيرة الدفاع التي عمل الى جانبها في تناغم تام، فإذا بها تنتقد خطوته غير الموفقة وهو المعروف بوفائه لها.
ليس من السهل دائما معرفة نوايا مسؤول عسكري كبير، خاصة إذا كان حذرا ومتحفظا بطبعه، كما هو حال الجنرال الراغب في فك ارتباطه بالمؤسسة التي قضى بها أزهى فترات العمر.
تصريحات “رودريغيث” الاخيرة لوسائل الاعلام الإسبانية ودفاعه عن حزب، بوديموس، بدل الاصطفاف في الحزب الاشتراكي العمالي الذي وضع ثقته فيه.كل ذلك يثير عددا من الأسئلة وربما يعيد الى الذاكرة الخلفية السياسية والفكرية للقائد العسكري السابق، المشهور بمناهضته لديكتاتورية “فرانكو” وللنزعة الانقلابية لمجموعة ضباط قادهم العقيد المتمرد “انطونيو تيخيرو” احتلوا وحاصروا البرلمان عام 1981 ، بكامل أعضائه وهم في جلسة عامة. في تلك اللحظات الحرجة التي مرت بها اسبانيا أحس من كان يلقب بـ”خوليو الأحمر” بالقلق والاحتناق وهو ضابط طيار، في القاعدة الجوية بمدينة “سرقسطة” التي ترشح فيها أخيرا بزي مدني، على لائحة حزب “بوديموس”
كان بإمكان الحكومة الاسبانية غض الطرف عن الموضوع، ما دام الجنرال قد تقدم بطلب استقالته فتعتبره منفصلا عن أسرة الجيش. أما وقد اختارت إدانة سلوكه علنا، فإنها في الحقيقة ومن ورائها المؤسسة العسكرية، توجه تحذيرا مبطنا لقادة ، بوديموس، لتجاوزهم الحدود فصاروا يلهون بلعبة السياسة بمحاذاة ثكنات الجيش.
ربما دفع ، بوديموس، قائد الجيش السابق لتوريطه في تصريحات مستفزة عن الازمة المستفحلة في إقليم كاتالونيا، حيث قال ان المشكل يجب حله بالسياسة وليس بالقانون، مضيفا أنه لا بد من عرض مقترح معقول على الاقليم.
وهذا الموقف من الجنرال، لا اعتراض عليه لو صدر عن شخصية ذات رأي مستقل، لكن وضعه في سياق مواقف “بوديموس” المؤيدة لإجراء استفتاء تقرير مصير في الاقليم، يقلب المعنى رأسا على عقب.
يجوز أن الحكومة تسعى إلى تعرية الحزب الجديد لتظهره أمام الناخبين معاديا للملكية، جمهوري النزعة، معارضا لوحدة البلاد فيبتعد عنه الناخبون وتتقلص شعبيته ليصبح بحجم اليسار المتطرف.
هي تساؤلات جائزة ومشروعة في إطار التدافع السياسي بين الأحزاب والقوى المجتمعية في إسبانيا يخشى العقلاء أن يوقظ النقاش المحتدم الحالي، ذكريات الماضي الأسود؛ ذلك أن المشهد السياسي قبيل الانتخابات التشريعية، يشبه في بعض سماته الوضع الذي سبق تمرد الجنرال “فرانكو”عام 1936 على السلطة الشرعية وفرضه بالسلاح، ديكتاتورية دامت حوالي أربعة عقود.
الفوضويون الجدد، الرافضون للمؤسسات يستوحون أفكارهم الشعبوية من التراث الفوضوي العدمي الذي سهل مأمورية الطاغية “فرانكو”.
ليست إسبانيا مهددة، وعودة الديكتاتورية مستحيلة والاختيار الناضج للشعب سينتصر في النهاية ويكون مصير، بوديموس، شبيها بسورة الربيع العربي. سيكون الشغب السياسي الذي أحدثه سببا في مشاكل قد تعرقل محاولات اعادة البناء الديمقراطي وإصلاح منظومة الحكم.
وفي جميع الأحول فإن رفاق قائد الجيش السابق، أعلنوا منذ اندلاع أزمة كاتالونيا، وقوفهم إلى جانب الشرعية الدستورية، ولو اضطرهم اللجوء إلى التدابير الاستثنائية.