النخبة السياسية وإعاقة الديمقراطية

مع تعثر تجربة التحول الديمقراطي في أكثر من بلد عربي، عاد الحديث عن الثقافة الشعبية، وعدم اتساقها مع القيم الديمقراطية، للبروز بصورة أكبر، في محاولة فهم أسباب التعثر. حصل هذا نتيجة الإحباط ممّا آلت إليه الأمور، أو بسبب النشوة التي تعيشها الأقلام المدافعة عن الاستبداد والأمر الواقع، والتي تبرر انحيازها للاستبداد بعدم جاهزية المجتمعات العربية للديمقراطية، وعدم وجود إيمانٍ بقيمها عند الشعوب العربية.
يتقاطع هذا مع حديثٍ عنصري عند بعض المستشرقين (إيلي خدوري مثلاً)، مفاده أن المفاهيم الديمقراطية، مثل السيادة الشعبية والانتخابات والتمثيل وغيرها، غريبة عن الثقافة العربية الإسلامية، وأن المجتمعات العربية أَلِفَتْ الطاعة العمياء. يتجاهل من يردد هذا الكلام أن ثقافة المجتمعات الأوروبية لم تتشبع بالقيم الديمقراطية (قبل) إتمام التحول الديمقراطي، أي أن رسوخ هذه القيم في المجتمعات الأوروبية لم يكن سبباً للتحول الديمقراطي، بل نتيجةً له، فقد خاضت هذه المجتمعات مخاضاً عسيراً وصراعات مريرة عقوداً طويلة، انتهت إلى تكريس القيم الديمقراطية، وحصل التحول الديمقراطي في مجتمعات أخرى، بسلاسة أكثر وكلفة أقل.
إن طرح شروط للتحول الديمقراطي، من قبيل توفر ثقافة سياسية ديمقراطية شعبياً، أو توفر عناصر اقتصادية، تتعلق بتوسع الطبقة الوسطى والتصنيع وزيادة معدلات التعليم وغيرها، يبدو متهافتاً، بالنظر إلى تجارب دول عديدة، أنجزت التحول الديمقراطي، من دون توفر هذه الأمور، فبلد كالهند لم تتوفر فيه هذه الشروط الثقافية، أو الاقتصادية، حين انتقل إلى الديمقراطية، لكن النخبة السياسية الهندية التي ناضلت من أجل الاستقلال آمنت بالقيم الديمقراطية، فأسست نظاماً ديمقراطياً على الرغم من انتشار الفقر والأمية.
بحسب دنكوارت روستو (يعد بمثابة الأب لنظريات التحول الديمقراطي)، فإن الانتقال إلى الديمقراطية لا يشترط حداً أدنى من النمو الاقتصادي، أو التفاضل الاجتماعي. يؤكد أن الشرط الوحيد المطلوب توفره هو الوحدة الوطنية، والتعريف الواضح للجماعة السياسية التي ينتمي إليها المواطنون (شعبٌ له هوية سياسية موحدة)، فمن المهم أن يتم تحديد الإطار الذي يدور فيه التنافس السياسي، والفضاء الذي يحتوي الممارسة الديمقراطية، والذي تُجمع عليه الأطراف المتنافسة، وتُسلم به. هذا الشرط ضروري، لكنه غير كافٍ، إذ يعيق غيابه التحول الديمقراطي، لكن وجوده لا يكفي، وحده، لإنجاز هذا التحول.
التنافس الديمقراطي بين القوى السياسية يتم في إطار جماعة سياسية موحدة، لها السيادة، وداخل هذه الجماعة التي تتميز بهويةٍ، تشترك كل الأطراف في الانتماء إليها، يحصل التنافس بين القوى المختلفة على تمثيل مصالحها. إن واحداً من أبرز عوائق التحول الديمقراطي، عربياً، هو غياب التعريف الواضح للجماعة السياسية الوطنية في الدول العربية، نتيجة عدم اكتمال عملية بناء الأمة، وغياب الوحدة والهوية الوطنية التي تشكل الأرضية الصالحة لبناء نظام ديمقراطي.
لم تنجح النخبة السياسية العربية التي خلفت أنظمة الاستبداد في الاتفاق على الهوية المشتركة، والجماعة السياسية الوطنية صاحبة السيادة، وأسست هذه النخبة لصراع هويات، على أساس وجود جماعات سياسية، ذات هويات متناقضة، تتصارع على السيادة والنفوذ، فتَحَوَّل التنافس السياسي إلى عداءٍ، واحتراب أهلي ألغى التعددية السياسية، وبات الاقتراع في الصناديق مجرد فلكلور مفرغ من مضامينه.
في العراق، نموذج واضح على هذا الأمر، ولابد من التذكير بأن الاحتلال الأميركي هو من أنشأ النظام في العراق على أساس المحاصصة الطائفية، بعد تدمير الدولة، وانهيار الوحدة الوطنية، فأصبح الصراع الطائفي بديلاً للتنافس الديمقراطي. وأسس حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى، ومن معهم من القوى الشيعية الطائفية، لوجود جماعة سياسية شيعية، تسعى إلى بسط سلطتها على الدولة، بحجة الأكثرية العددية للشيعة، بما يتناقض مع فكرة الأكثرية والأقلية في النظام الديمقراطي، القائمة على أكثرياتٍ وأقلياتٍ، متغيرة وفقاً لبرامج عمل سياسية، وليس لانتماءات طائفية أو إثنية.
استنفر هذا القوى السنية التي باتت تمثل الجماعة السياسية السنية، وأصبح التحشيد والتعبئة على أساس الهوية، لا اعتماداً على برنامج عمل سياسي، يخدم مصالح الشعب العراقي كله، وصارت الأحزاب السياسية تستمد شرعيتها من تمثيل الطائفة ومصالحها، ورُسِمت خطوط التماس بين الجماعات الطائفية، ودخل العراق دوامة صراع هوياتٍ، وحربٍ أهلية، تسخن وتبرد تبعاً للتطورات.
في مصر، حوَّلت النخبة السياسية الانقسام الإسلامي – العلماني، بعد ثورة 25 يناير، إلى صراع هويات، فصار الإسلاميون يعبئون الجماهير ويحشدونها، في المحطات الأساسية بعد الثورة، بخطاب هويةٍ، يؤكد أنهم حماة الدين في مواجهة العلمانيين الذين يشكلون خطراً على الهوية الإسلامية والشريعة، وبالمثل، حشد العلمانيون، (الذين تحولوا إلى ما يشبه الطائفة) جمهورهم ضد الإسلاميين، بخطاب هوية مبني على وطنية شوفينية، تُقصي “الإخوان المسلمين” و”أصحاب اللحى” الذين يشكلون شريحة واسعة من المجتمع المصري. وهكذا، بات صراع الهويات هذا عائقاً أمام اكتمال التحول الديمقراطي، ومفيداً لقوى النظام القديم، لتستعيد زمام المبادرة.
في اليمن والبحرين والكويت ولبنان وليبيا، انقسامات طائفية وقَبَلِيَّة وجهوية، تتبناها النخبة السياسية، فتقود بها المجتمع إلى صراعات هوية، تعيق التحول الديمقراطي. يؤكد هذا الحاجة الماسَّة لنخبةٍ ديمقراطيةٍ، تنجز التحول الديمقراطي عربياً، عبر تبني قيم الديمقراطية والتعددية السياسية، والتأسيس لوحدةٍ وطنيةٍ، ترافق عملية التحول، ورَفْضِ تحويل المنافس عدواً، والتنافس الديمقراطي صراعاً أهلياً.
“العربي الجديد”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *