بقلم: هيثم شلبي
أربعة أيام، كانت كفيلة بإيقاف النظام الجزائري “على قدم واحدة”! أربعة أيام، كانت كفيلة بتبديد كل الدعاية التي بناها نظام الجنرالات في أربع سنوات!! أربعة أيام، كانت كفيلة بتعرية شرعية الرئيس تبون وسيده الجنرال شنقريحة، ومن ورائهما النظام العسكري برمته!!!
أربعة أيام خرج فيها آلاف التلاميذ الجزائريين من المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية إلى الشوارع، في “إضراب وطني” عن التعليم، تعبيرا عن رفضهم دخول أقسام لا تتوفر فيها أبسط مقومات الحياة المدرسية، ودفاعا عن مطالب تربوية وبيداغوجية واجتماعية دقيقة ومفصلة، عجزت عن صياغتها جميع نقابات التعليم “المهادنة” في الجزائر.
فما هي قصة “حراك التلاميذ” أو “انتفاضة الطلاب” في الجزائر، والتي جعلت فرائص النظام ترتعد، وأنزلت -في مشهد نادر- كوادر ومسؤولي وزارة التربية والتعليم إلى الأزقة لمخاطبة التلاميذ المنتفضين، لخطب ودهم تارة، وتهديدهم تارة أخرى؟!
البداية كانت مع دخول العام الحالي على وقع سلسلة من الإضرابات والاحتجاجات القطاعية، من أطباء، وطلبة طب مقيمين، وعمال في قطاعي الصحة والتربية، وأخيرا طلبة الجامعات، في إعلان موحد رسالته الأساسية أن جميع هذه القطاعات لم تعد قادرة على تحمل تبعات التسيير الكارثي للشأن العام بالجزائر، ولا القبول بحرمانهم من أبسط مقومات الحياة الكريمة.
حراكات واجهتها القطاعات المعنية بتخبط، وساهمت وعود الرئيس تبون الكاذبة -وغير المدروسة- في تأجيجها، حيث أن تذكير المحتجين بهذه الوعود يجعل المسؤولين أمام خيارين أحلاهما مر: إما تكذيب الرئيس وتسخيف وعوده للمواطنين، أو تطبيق هذه الوعود على أرض الواقع، وهو ما لا قبل للدولة الجزائرية به. وهكذا، أصبح الحال في بلاد العسكر مطابقا للمثل الشامي: “ذاب الثلج وبان المرج”!! رغم أن ثلوج هذا النظام منتهي الصلاحية والفاقد للشرعية، لم تكن تتعدى قشرة رقيقة من “الصقيع” تذوب أمام أول إشراقات أشعة الشمس الصباحية!!
وبالعودة إلى “انتفاضة التلاميذ” التي طافت صورهم الفضاء الأزرق في الجزائر وخارجها، يمكن الإشارة إلى أبرز مطالبهم التي يعتبرونها مشروعة -وهي كذلك- بما ورد على لسان طالبة في بداية المرحلة الثانوية بثانوية بوحوش إبراهيم بن مسعود بولاية سكيكدة، التي لخصتها في المطالب التالية (كما رفعت إلى إدارة المدرسة التي اجتمعت مع وفد يمثل الطلاب!!): تقليل عدد ساعات الدراسة (حاليا من 8 صباحا وحتى 5 مساء) لتنتهي الدراسة في الثانية مساء، وتقليل حجم المنهج الدراسي المتضخم، وتوفير مختبرات ومكتبات وملاعب تناسب احتياجات الطلاب، وتوفير النقل للطلاب الذين يسكنون في أماكن بعيدة، وتوفير خدمات المطعم داخل المدرسة بشكل لائق، وتوفير دروس الدعم المدرسي داخل المؤسسات التعليمية لمن يحتاجها، وتوفير خدمات التدفئة في فصل الشتاء، وتخصيص الفترة المسائية للأنشطة الثقافية والرياضية والترفيهية فقط!
وبعيدا عن مشروعية هذه المطالب التي أخرجت التلاميذ للشوارع، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
“انتفاضة التلاميذ” تكسر أحد أهم “طابوهات” النظام العسكري، والمتعلق “بحرمة الخروج للشوارع”، وإعادة “شبح الحراك” إلى التداول المجتمعي، وهو الخطر الذي يبرر حالة “الرعب” التي يعيشها النظام منذ بدء هذا الحراك.
هذه الانتفاضة، أظهرت أن آلة القمع الرهيبة التي وظفها النظام الجزائري ضد مواطنيه، وإن قمعت ظاهريا رغبتهم في تجديد الحراك، والنزول للشارع للمطالبة بحقوقهم، بعد إدخال مئات الناشطين إلى السجون، وتطبيق قوانين تقمع حرية الناس في التعبير على مواقع التواصل، فإنها لم تضمن ولادة جيل خاضع ومدجن، لدرجة تطمئن الجنرالات إلى مستقبل وجودهم في السلطة.
أظهر التلاميذ مستوى مدهش من الوعي بحقوقهم، وهو ما تجسد -على سبيل المثال- في أحد الشعارات التي رفعوها في الشارع: “يا مسؤول شوف فيا، هذا حقي ماشي مزية”، وهو ما ينسف كل ما حاولت “الجمهورية الجديدة” بناءه منذ انتهاء الحراك الشعبي مع مجيء كورونا. إن وجود جيل جزائري يمتلك مثل هذا الوعي بحقوقه يجعل الجنرالات متأكدين أن أيامهم قد أصبحت معدودة، وأن تجدد الحراك ربما يكون أقرب مما يخشاه أشد متشائميهم!!
في ارتباط مع النقطة السابقة، تكررت بعض الشعارات في مظاهرات مدن تبعد عن بعضها آلاف الكيلومترات، دليلا على ترابط الحراك ووحدة المطالب، وتحديدا الشعارات التي تندد بإدارة “الكهول” لمقاليد الحكم في الجزائر، وهي النقطة الحساسة نظرا لشيخوخة جميع من يتقلدون المسؤوليات المدنية والعسكرية في الجزائر.
وللتدليل على هذا الأمر نكتفي بشعارين تكرر مشهد رفعهما في أكثر من مدينة: “قرارات كهولية ضحيتها التلاميذ”، و”الكهول يقررون والتلاميذ يعانون”، ولا ندري وقع هذه الشعارات على الجنرال شنقريحة، و”مولاه” الرئيس تبون، اللذان يدخلان عامهما الثمانين أكثر إصرارا على الاستمرار في حكم الجزائر، دون أن يحسا بوجود أي مفارقة في الأمر.
لقد أظهر الحراك الطلابي بشكل واضح وجلي، أن النظام العسكري قد فشل فشلا ذريعا في “توحيش” الشباب الجزائري وتجهيله، عبر استخدام جماهير كرة القدم الشبابية كنموذج لباقي شباب الجزائر، وهو ما أظهر الحراك الطلابي زيفه وفقدانه للمصداقية.
ظهر واضحا تخبط المسؤولين في الدولة الجزائرية تجاه هذا الحراك، ما بين خاطب لود التلاميذ خوفا من تصعيد الموقف؛ وما بين من استخدم لغة التهديد وتحديدا تجاه نزول الحراك للشارع “حفاظا على أمن التلاميذ”، وهي العبارة التهديدية الواضحة لأولياء أمور هؤلاء التلاميذ؛ وما بين صنف ثالث “لا مبالي” عبر عنه أحدهم مخاطبا التلاميذ: “ما عجبكمش الحال، بطّلوا” أي اخرجوا من التعليم!! هذا التخبط يشير من جهة إلى هشاشة بنية النظام وتدني مستوى مسؤوليه، ومن جهة ثانية إلى تضارب التعليمات التي تصلهم من “الجهات العليا”!!
إعلام النظام -كالعادة- لجأ إلى تبرير الحراك وفق “نظرية المؤامرة” المعهودة، وأن تأجيج الحراك الطلابي يعود إلى صفحات “مجهولة” على الفيس بوك والفضاء الأزرق! وهي الحجة التي لا يعرف الإعلام الدعائي للنظام غيرها.
لكن ما كان مصدرا للتهكم، فهي المبررات التي ساقوها من أجل تبرير “استهداف” الجزائر من هذه الصفحات المجهولة: أنها جاءت تعبيرا عن “الغيظ” من هزيمة الصهاينة في غزة، وردا على مواقف النظام الجزائري “المشرفة” من الأزمة (متناسين أن هذا النظام منع أي نوع من التظاهر من أجل غزة مهما كان حجمه، وعلى مدى قرابة عام ونصف)، وهو ما يشير إلى مسؤولية “إسرائيل” عن الحراك الطلابي؛
والتبرير الثاني أن هذه المؤامرة جاءت تعبيرا عن “الغيرة” من احتلال “القوة الضاربة” للمركز الثالث في أقوى اقتصادات أفريقيا، في غمز واضح بمسؤولية “المغرب” هذه المرة عن الحراك. تبريرات أججت غضب المعلقين الجزائريين على الحدث في صفحات التواصل الاجتماعي، بما يرسل رسالة تحذير واضحة للنظام العسكري بعدم استسهال اتهام المغرب أساسا، وبدرجة أقل فرنسا وإسرائيل بالمسؤولية عن كل كوارث إدارة الشأن العام في الجزائر.
هناك محاولات “خجولة” من النظام للتجاوب مع مطالب الطلبة المنتفضين، حيث تم دفع وزير التربية محمد صغير سعداوي للخروج بتصريح يقول: “نحن بصدد إعادة النظر في توزيع البرامج الدراسية، وتخفيف حجم الدروس في المرحلة الإعدادية والثانوية”. هذه اللفتة “النادرة” من نظام عسكري لم يقبل الاستماع يوما لأي من المطالب الشعبية، يظهر مدى “الرعب” الذي دب في أوصال النظام العسكري، ورغبة جنرالاته في طي ملف هذا الحراك بأسرع وقت ممكن.
أخيرا، وفي ارتباط مع النقطة السابقة، فإن عدم استخدام السلطة العسكرية للعنف في مواجهة المحتجين، دليل آخر على أن الجنرالات يأخذون الحراك الطلابي بمنتهى الجدية، ولا يفكرون -حتى الآن على الأقل- في تصعيد العنف تجاهه، خوفا من انضمام ولاة أمور التلاميذ إلى فلذات أكبادهم، لاسيما إذا تم تسجيل ضحايا، وهو ما سينقل هذه الانتفاضة من مستوى التلاميذ إلى مستوى عموم الشعب، وذلك بسبب درجة الاحتقان التي يغلي بها الشارع الجزائري، والتي عبرت عن نفسها بهاشتاغ “مانيش راضي” الذي لم يكد الجنرالات يفيقون من تبعاته بعد!
ختاما، وسواء نجح الجنرالات ومسؤولي النظام في احتواء الانتفاضة الطلابية “الجريئة” أم أخفقوا، فإنهم لن ينجحوا في محو رسالة هذا الحراك أو التخفيف من أثره. وأيا كانت لحظة تجدد الحراك الشعبي الشامل، فسيسجل التاريخ أن الفضل في تحرر الجزائر من طغمته العسكرية الحاكمة يرجع إلى هؤلاء الفتية، من طلبة الابتدائي والإعدادي والثانوي، الواعين بحقوقهم، والمدركين للغة التي يفهمها نظامهم العسكري، والمصرّين على انتزاع حقوقهم المشروعة كبشر، غير مكتفين بما يلقيه إليهم جنرالاتهم من فتات ثرواتهم المنهوبة!