على الرغم من أن الوقت لا يزال مبكرا للخوض في محاولة تحديد الجهة التي تقف وراء هجمات باريس الإرهابية، لاسيما وأن الهجمات لا تزال بدون جهة تتبناها، إلا أن أصابع الاتهام سرعان ما تتوجه إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لكن لماذا داعش؟
إضافة لأوجه الشبه بين ما جرى اليوم وبين هجوم شارلي إيبدو، مما يشرعن توجيه الاتهام مباشرة لجماعات إرهابية تنتسب إلى الإسلام المتشدد، فإن دائرة الاتهام تكاد تقتصر على داعش دون غيرها، وتحديدا أكثر، إلى عناصر محلية تنتمي إلى التنظيم الإرهابي من حملة الجنسية الفرنسية. ولعل ما يضفي على هذا الاتهام مزيدا من المصداقية، أن فرنسا لم تستهدف منذ سنوات أنصار القاعدة في أفغانستان، وأنها لم تتحرك ضد معسكرات داعش إلا في أواخر سبتمبر الماضي، بغارة نفذتها ستة من طياراتها المقاتلة، مع غارة مماثلة بعدها بعشرة أيام عندما قامت ثلاث طائرات باستهداف معسكرات تدريب تابعة لداعش في سوريا، مما أسفر عن مقتل أقل من خمسين عنصرا إرهابيا في الغارتين، هذا على الرغم من وجود فرنسا ضمن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة منذ أكثر من عام، حيث كانت مهمات فرنسا تقتصر على الاستطلاع.
قرار باريس في التحرك والانتقال من الرصد والاستطلاع إلى الهجوم المباشر، حتى مع محدودية ما قامت به خلال الغارتين، وجد تبريره في تصريح لافت لوزير الدفاع الفرنسي الذي اعتبر أن هجوم مقاتلات بلاده على معسكرات تدريب داعش، جاءت “ضد مواقع يعد فيها داعش عناصره لتهديدنا”، مضيفا “نعلم أن في سورية وخصوصاً على مشارف الرقة معسكرات لتدريب المقاتلين الأجانب ليس ليقاتلوا من أجل التنظيم في المنطقة بل للمجيء إلى فرنسا وأوروبا وتنفيذ اعتداءات” وخاتما بوضوح أن “عدو فرنسا هو داعش”.
هذا التصريح للمسؤول الفرنسي ربما يشكل أحد مفاتيح فك لغز هجمات باريس، إذ أن قرار باريس المفاجئ لا بد أنه قد جاء بعد معلومات استخباراتية مؤكدة حول نية بعض حملة جنسيتها من منتسبي داعش التحول إلى الداخل الفرنسي لنقل المعركة إلى البلد الذي جاؤوا منه، وهو ما استدعى القيام بضربة استباقية، الأمر الذي يمكن أن يجعل من هجمات باريس الحالية، الرد الانتقامي على غارتي فرنسا اليتيمتين على معسكرات تدريب داعش.
فتح المعركة بين فرنسا وداعش داخل العاصمة باريس، يمكن أن يشكل مقدمة خطيرة لأحداث أكثر خطورة، من قبيل نقل المعارك وفتحها بين داعش وفرنسا إلى باقي المدن الفرنسية الكبيرة، وربما تشي بقرار اتخذ داخل تنظيم الدولة بنقل المعركة إلى الداخل الأوروبي والأمريكي، بدل الاستمرار في تجميع أنصاره داخل سوريا والعراق، لسهولة استهدافهم هناك، وهو ما يجعل بريطانيا وباقي الدول الأوروبية ترفع درجة التأهب تحسبا لتكرار السيناريو الباريسي. نقل المعركة للداخل الأوروبي ربما يشكل طورا جديدا في الحرب المفتوحة على داعش، لكن بقواعد اشتباك جديدة، تسعى فيها لتخفيف الضغط عنها في العراق وسوريا، مؤملة أن تكون في موقع أقوى ساعتها.
روسيا بدورها، وبعد ما جرى بباريس، مطالبة بأخذ تهديدات داعش قبل يومين على محمل الجد، بفتح معركة داخل أراضيها، وذلك لوجود مواطنين ينتمون لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في صفوف التنظيم الإرهابي، يمكنهم فتح جبهة في الداخل الروسي، بعد أن أسقطوا طائرة تابعة له في سيناء في ضربة مزدوجة لروسيا ومصر معا.
الأكيد، وبعيدا عن لغة التخمين، أن توسيع رقعة الحرب على الإرهاب لتتجاوز جغرافيا العراق وسوريا، يلقى بأعباء كبرى على الأجهزة الأمنية الغربية والعربية، ويعقّد مهمة التصدي للإرهاب العابر للحدود، ويفرض رفع مستوى التنسيق بين الأجهزة الأمنية إلى مستويات غير مسبوقة، بعد أن اتسعت دائرة المواجهة ليصبح العالم برمته مسرحها.