الرئيس غائب مرة أخرى. أين اختفى؟ تكثر التكهنات وتتعدد بين من يتحدث عن مستشفى “فال دوغراس” بباريس ومستشفى مدينة غروبل ومن يجزم بوجوده في سويسرا.
الأكيد أن الاختفاء القسري لعبد العزيز بوتفليقة راجع إلى تدهور حالته الصحية التي لم تتحسن كثيرا منذ إصابته بنوبة دماغية عابرة قبل سنتين.
المنطق السليم يقول بأن مرض الرئيس واختفاءه عن المشهد السياسي في الجزائر، باستثناء بعض الحالات التي يظهر فيها في مناسبات معدودة على رؤوس الأصابع مبرر كاف لتنحيه عن السلطة.
بيد أن جناحا في النظام الجزائري يصر على السباحة ضد تيار المنطق والعقل ومصلحة البلاد وحتى القوانين السماوية التي تقضي بأن يبتلى الإنسان بشيء من المرض والشيخوخة وأن يدركه الموت بعد حين.
ترشح بوتفليقة إلى عهدة رابعة، سواء كان امتدادا لطموح شخصي للخلود في السلطة أو بإيعاز من محيطه الذي استفاد من استمرار الرئيس 15 سنة في قصر المرادية، كرس وضعا شاذا يراه البعض جريمة مقترفة في حق الشعب الجزائري.
مجيء بوتفليقة على كرسي متحرك وهو يدلي بصوته في الانتخابات الرئاسية في أبريل 2014، في الوقت الذي تكفل رئيس حكومته عبد المالك سلال بخوض الحملة الانتخابية بدلا منه، شكل مشهدا سورياليا لسياسي أنهكه الشيب والمرض، يريد أن يحكم بلدا غالبية سكانه من الشباب.
ففي الوقت الذي يظهر كيف أن دول العالم المتقدم تختار سياسيين شبابا لقيادة دفة الحكم بها، كما هو الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، أصر جناح السلطة القوي في الجزائر على جعل البلاد ورئيسها مادة لسخرية الصحافة الدولية في مشهد عبثي لم تنجح عبارات المدح التي دبجت حول السلامة العقلية لبوتفليقة من قبل مسؤولين أجانب في أن تحجب حقيقته المرة والصادمة.
الأسوأ من ذلك فإن غياب بوتفليقة عن المشهد السياسي جاء في وقت تعيش فيها الجزائر والمنطقة المغاربية والعربية مخاضا عسيرا. أزمة اقتصادية عصيبة تمر منها البلاد وتنذر باضطرابات اجتماعية، ومحيط إقليمي يغلي وتهديدات إرهابية متزايدة وتذمر متنام من قبل النخبة السياسة بسبب ما تقول إنه شغور في منصب الرئاسة واستيلاء سلطة موازية على مؤسسات منتخبة واستفرادها بالقرار السياسي.
ما زاد من عبثية المشهد السياسي في الجزائر هو ما كشفت عنه ما يسمى “مبادرة 19” التي طالب من أطلقوها مقابلة بوتفليقة وحديث بعضهم عن كون الرئيس لا يعلم حقيقة ما يجري في البلاد، وهو ما دفع أطرافا في الحكومة والحزبين الموالين للسلطة، “الأفالان” و”الأرندي”، للرد على المبادرة وأصحابها.
الترويج لهذا الخطاب يضع أصحاب المبادرة والرئيس معا أمام المساءلة الأخلاقية. فمن جهة يبدو من الخطير الترويج لكون بوتفليقة يجهل ما يقع في الجزائر وأنه يتم حجب الحقيقة عنه، لأن ذلك لا يبرئه بل على العكس يضعه في موقف مساءلة بحكم أنه الرئيس وأنه المسؤول أمام الشعب عن إدارة شؤون البلاد والوفاء بالتزاماته أمام من انتخبوه لعهدة رابعة.
من جهة أخرى فإن الحديث عن إزالة الغشاوة عن أعين الرئيس وإطلاعه على مجريات الأمور في بلد من المفروض أنه يحكمه هو تغافل عن كون بوتفليقة جزءا من المشكل وتغييب لمطلب تنحيه عن السلطة، لأنه من البديهي أن الرجل عاجز على ممارسة مهام الرئاسة سواء كان يعلم بحقيقة ما يقع في الجزائر أم لا.
وبالتالي فالمفروض هو المطالبة بتفعيل الفصل 88 من الدستور لأن البلاد أمام حالة عجز حقيقية للرئيس عن أداء المهام التي انتخب من أجلها.
استمرار هذا الوضع السوريالي يرهن حاضر الجزائر ويهدر الكثير من الزمن السياسي في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى مواجهة تحدياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
بقاء الرئيس متواريا عن الأنظار بينما يقوم شقيقه السعيد والمقربون منه بإدارة خيوط اللعبة بعيدا عن أي محاسبة دستورية قد لا يرهن الحاضر فحسب، بل يجعل مستقبل الجزائر مفتوحا على سيناريوهات أكثر قتامة.
إقرأ أيضا: بوتفليقة و فرنسا: خطوة إلى الأمام .. خطوتان إلى الوراء