في هذا الجزء الثاني من الحوار الذي أجرته “مشاهد24” مع الأستاذ أمين صوصي علوي، يشرح الباحث المغربي في مجال البروباغاندا التطبيقية أسباب التدخل الفرنسي في ليبيا، وكيف تغيرت السياسة الخارجية الفرنسية حيث أصبحت باريس تخوض حروب واشنطن بالوكالة، ويؤكد أن ما تشهده ليبيا والمنطقة العربية من فوضى وصراعات مقدمات لتحقيق ما بشر به المحافظون الجدد وما روجوا له من نظريات “صراع الحضارات” لتبرير حروبهم ضد العالم الإسلامي تحقيقا لمشروع “الشرق الأوسط الجديد”.
الحديث عن دور برنار ليفي في الحرب على ليبيا يقودنا إلى الحديث عن الدور الفرنسي. شاهدنا كيف أن فرنسا تخلت عن موقفها الرافض للانخراط في الغزو الأمريكي للعراق في 2003 في عهد جاك شيراك، وتصدرت بالمقابل المشهد في ليبيا حيث أصبحت هي من تقوم “بالأعمال القذرة” بينما تراجعت الولايات المتحدة إلى الخلف. ما هو السبب في ذلك؟.
أولا هناك شق تاريخي في المسألة. كما هو معروف شارل دوغول كان ضد بقاء القواعد العسكرية الأمريكية في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قاومها لمدة طويلة ودفع باتجاه خروجها. بعد ذلك ظل الخط الدوغولي في السياسة الخارجية الفرنسية ليس لأن الفرنسيين يحبون العرب كما يظن بعض العرب للأسف الذي يعتقدون أن فرنسا لديها سياسة عربية. كل ما في الأمر أن الفرنسيين كانوا يرفضون الهيمنة الأمريكية ويحلمون بإعادة دور فرنسا التاريخي في قيادة الدبلوماسية العالمية.
الولايات المتحدة صارت هي من تقود الدبلوماسية الدولية في أعقاب الحرب العالمية الأولى بعد أن تخلى الأمريكيون عن السياسية الانعزالية التي اتبعها الرئيس مونرو وبدأوا يسوقون لمبدأ آخر هو التدخل في شؤون الغير. كما تدخلوا في صناعة العلاقات الدولية كما نعرفها اليوم و ذلك منذ ان قدم الرئيس ويلسون 14 بندا من بنود اتفاقية السلام التي بنيت عليها عصبة الأمم بعد نهاية الحرب العالمية الاولى، وهو ما ينفي صحة ما يشاع من أن الولايات المتحدة بدأت تتدخل في شؤون الغير بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، سيطرت الولايات المتحدة على القرار السياسي الدولي. في تلك الفترة اعتمد ويلسون على سياسة متعددة الأطراف، بحيث يتم الاعتماد في الواجهة على الحلفاء في حين تقوم الولايات المتحدة بالريادة من الخلف leading from behind. نفس المبدأ يطبق اليوم في عهد باراك أوباما المنتمي للحزب الديمقراطي شأنه شأن ويلسون.
في عهد أوباما تم الدفع بالحلفاء، حيث أصبحت فرنسا في الواجهة وبقيت أمريكا تقود من الخلف لأن المسألة مرتبطة بكسب الرأي العام. إبان ولايتي جورج بوش الإبن كان يتم اتباع “سياسة حديدية” (Weltpolitik) ، سياسة قائمة على الحرب وعلى منطق القوة، وبالتالي لم يكن لديهم بالضرورة هاجس حشد الرأي العام. لذلك دخلوا في حرب مباشرة ولم يهتموا كثيرا بالرأي العام الدولي. وهكذا اعتمدوا على محور ضيق مشكل في غالبيته من دول أوروبا الشرقية. أما دول أوروبا الغربية التي تراجعت عن دعم الحرب، كان جزء منها مواليا للخط الدوغولي، كما هو الشأن بالنسبة للمسؤولين الفرنسيين مثل جاك شيراك ودومينيك دوفيلبان. هذه المجموعة كانت رافضة للهيمنة الأمريكية.
بالمقابل، كان هناك سياسيون فرنسيون موالون للهيمنة الأمريكية مثل جون فرانسوا كوبي ونيكولا ساركوزي. عندما اندلعت الحرب في ليبيا كان هؤلاء في السلطة، مما سهل عليهم إقحام فرنسا في دعم المشروع الامريكي في ليبيا.
نلاحظ كذلك أن السياسيين الذين رفضوا المشاركة في الحرب ضد العراق تم التضييق عليهم وعزلهم بشكل نهائي كما هو الشأن بالنسبة لدوفيلبان الذي تمت متابعته في عدة قضايا، كما تعرض شيراك لهجمات من طرف الإعلام. إذن، فالخط “المؤمرك” في فرنسا هو الذي أخذ الصدارة.
الخط الدوغولي اختفى في صفوف اليسار و اليمين معا. والدليل أن الحزب الذي يقوده ساركوزي، “الاتحاد من أجل حركة شعبية” سابقا، أصبح يحمل اسم “الجمهوريين” وهو تماه واضح حتى مع القوالب السياسية الامريكية. اليوم ننتظر أن يتم تغيير اسم “الحزب الاشتراكي” بدوره ليصبح ربما حاملا بدوره اسم الحزب الديمقراطي ! إذن نحن أمام توجه “لأمركة” السياسة الفرنسية.
خيار التدخل العسكري مجددا في ليبيا تم التلويح به في أكثر من مناسبة من قبل مسؤولين فرنسيين وأوروبيين، تارة بدعوى وجود جماعات مسلحة في ليبيا وتارة أخرى باسم مهاجمة مواقع تهريب المهاجرين السريين نحو أوروبا. في نظرك هل هذا التلويح يفتح المجال أمام إمكانية تدخل عسكري محدود في الزمن في ليبيا أم أن الأمر يتعلق بدعاية إعلامية لديها أهداف معينة؟.
التواجد العسكري الأمريكي والأوروبي مستمر في ليبيا، لكن ظهوره بشكل معلن هو المطلوب من خلال تبريرات عدة. من جهة هناك دولة غير قادرة على حماية حدودها البحرية، كما أن هناك خطر تسلل “داعش” بين المهاجرين حسب ما يروج له الإعلام، رغم أن هذه النظرية لم تثبت صحتها و الدليل هو أن أغلب المنتمين “لداعش” ممن ظهروا في الدول الغربية هم من أبناء هذه البلدان. هذه في الغالب مقدمة لتواجد معلن لإدارة السواحل الليبية بدعوى الحرب على الإرهاب.
هناك خبر مثير، والغريب أنه لم يتم التركيز عليه كثيرا في الإعلام، وهو تورط السفيرة الشرفية لفرنسا في تركيا في بيع قوارب لمهربي المهاجرين. فإذا كنا نتساءل عن المتورطين في عمليات تهريب المهاجرين، علينا محاكمة كل الأطراف. فكيف يعقل أن تتورط السفيرة الفرنسية، دون ان نشك في تورط الدبلوماسية الفرنسية، في هذه القضية؟.
صحيح هناك مهربون للمهاجرين في ليبيا، لكن يجب أن نعرف من يمولهم وكيف تتم عملية مراقبة السواحل. نقطة أخرى تتعلق بتحول مسألة الهجرة إلى أزمة بالنسبة لأوروبا في حين أنها كانت متوقعة. فمن البديهي عندما تسقط إحدى دول الجنوب ويهتز استقرارها السياسي، أول مشكل سينتج عن ذلك هو عدم القدرة على السيطرة على الحدود وبالتالي، فدخول فرنسا وبقية دول الناتو في هذه المغامرة الجيوسياسية يعني أنه لديهم غرض معين من وراء الفوضى، أو على الاقل أن فوضى الحدود لا تخيفهم لأنهم يمتلكون آليات لادارتها.
في نظري قد يتدخل الناتو بشكل مباشر في إدارة السواحل الليبية و قد نرى في المستقبل القريب أو المتوسط دوريات أوروبية تسيطر على الساحل الليبي.
في نظرك، إذا كان إسقاط نظام القذافي يدخل في إطار إعادة تشكيل الخارطة العربية. ما هي معالم هذه الاستراتيجية في ليبيا وفي المنطقة برمتها؟
الهدف هو تحقيق ما يسمى “الشرق الأوسط الجديد” الذي بشر به المحافظون الجدد. هو شرق أوسط تعمه الفوضى والدمار والحرب البينية. حرب بين كل الطوائف والإثنيات والأديان في المنطقة. حرب طويلة الأمد تختفي فيها الدولة القطرية وتظهر مكانها كيانات مطاطية تتغير أشكالها و احجامها وحدودها بشكل مستمر مثل كثبان الرمل. هذه الفوضى يراد بها ان تصبح المنطقة شبيهة بصحراء مقفرة ممتدة من المشرق إلى المغرب تعيث فيها العصابات و قطاع الطرق فسادا مثل صور فنتازيا الشرق التي رسمها مستشرقوا القرن 19. صورة قاتمة ودموية تبرر الاستعمار والتدخل المباشر وتعطي كافةالمبررات الأمنية لاسرائيل لتقوم بدور شرطي الديمقراطية المدافع عن حقوق الانسان في المنطقة وراعي الأقليات. وقد بدأت بوادر ذلك في تورط إسرائيل في دعم انفصال الأكراد وتكوينهم لكيان مستقل وهو ما تبين من خلال التنسيق بين قيادات الأكراد مثل البرزاني و بين قادة إسرائيل كنتانياهو وبيريز اللذان أدليا بتصريحات داعمة لإقامة دولة كردية.
الدفاع عن الأقليات هو بمثابة حصان طروادة بالنسبة لإسرائيل لقيادة المنطقة. نتمنى طبعا أن تتحسن الأمور وألا يتمكنوا من ذلك، فهذه المؤامرات ليست قدرا حتميا. لكن لا ينبغي أن نستخف بالفوضى التي خلفتها الثورات فحتى الأشخاص الذين كانوا يؤمنون بأن هناك “ربيعا عربيا” بدأ جلهم يراجع نفسه ويشك في من يقف خلف هذه الفوضى.
حضور “داعش” و”القاعدة” ما يزال محدودا في ليبيا مقارنة بسوريا. هل تعتقد أنه، في إطار الاستراتيجية المتبعة لتحويل المنطقة العربية لساحة من الفوضى تكون فيها اليد الطولى للجماعات المتطرفة، هل تعتقد أن الأمور ستسير في اتجاه دعم “داعش” لكي تتمدد فوق التراب الليبي أم أن ليبيا فيها ما يكفي من أسباب الفوضى بوجود معسكرين متصارعين؟.
ليست الفوضى في حد ذاتها هي المطلوبة، بل المطلوب هو الفوضى المتحكم في أطرافها و التي تنتج خرائط جديدة للمنطقة وهو ما اعترفت به كوندليزا رايس في لقاء مع صحيفة و”اشنطن بوست” سنة 2005.
“داعش” تطبق الآن هذه الفوضى بشكل ملفت للنظر وقد تبين لكثير من الأجهزة الامنية بعد القبض على منتمين لهذا التنظيم اعتمادهم على كتاب “إدارة التوحش” الذي كتبه أبو بكر ناجي وهو اسم مستعار لأحد أشهر منظري المخططات الإرهابية. في هذا الكتاب يشرح مراحل التمكين لسيطرة الارهاب (التوحش) وتبدأ بمرحلة “النكاية و الإنهاك” وهي المرحلة الموافقة لما سمته رايس بـ”الفوضى الخلاقة”، وتعتمد إنهاك قوة الدولة وهدم كل أركانها لتأتي بعد ذلك مرحلة “إدارة التوحش” حيث تسيطر الجماعة الإرهابية الاقوى وتبدأ في القيام بمهام الدولة التي انهارت فتقدم الامن و الدواء و الغذاء و بقية المرافق الضرورية مما يجعل الناس مضطرين للالتفاف حولها. وهو ما سيعطي اسرائيل وأمريكا بطبيعة الحال كل الذرائع للادعاء بأن “داعش” تمثل الرأي العام في المنطقة. وتصبح بعد ذلك مسألة الحرب على “الفاشية الخضراء” كما يسميها منظر المحافظين الجدد ويليام كريسطول مسألة وقت.
منذ ظهور نظرية صراع الحضارات مع صامويل هانتغتون وفرانسيس فوكوياما، أصبح من اللازم خلق ضرورات هذه الحرب وضرورات سريعة للتدخل، وإلا سيتعرض الغرب كما يزعم هؤلاء لهجوم مزعوم من قبل “الشرق” المتخلف وستظهر في “الغرب” بؤر إرهاب تصدر للعالم التخلف والجريمة، وبالتالي فهذه الحروب التي يدعو إليها المحافظون الجدد هي حروب استباقية “اضطرارية”.