كان للبعد الديني، بمصادره المختلفة وأصوله المتعددة في المجتمع الأمريكي، وما أفرزه من تيارات، تأثير واسع على السياسة الأمريكية، الداخلية منها والخارجية، في ظل جدلية العلاقة بين السياستين، فالسياسة الخارجية، تحكمها طبيعة الثقافة السياسية، ومكوناتها الدينية والقيمية، وكذلك طبيعة التيارات الفكرية السائدة، والمؤثرة في المجتمع، بجانب طبيعة القيادة السياسية، وما تتبناه من قيم ومعتقدات، وسعيها نحو نقل هذه القيم وتلك المعتقدات من إطارها الفكرى إلى الواقع الفعلي، ولم تكن السياسة الأمريكية، منذ استقلال الدولة وتوحيدها، بمعزل عن التأثر بمثل هذه الأبعاد، إطاراً مرجعياً كانت أم أداة، ومراعاتها في مختلف توجهاتها، وأهدافها وقضاياها، وأدواتها.
ففي وصفهما للولايات المتحدة، يرى مايكل وجوليا كوربت، أنها “أمة علمانية، يسكنها أناس متدينون في معظمهم”،فهي علمانية، حيث لا توجد كنيسة رسمية، وأموال الضرائب لا تذهب لدعم المنظمات الدينية، والناس ذوو الانتماءات الدينية بكل أنواعها، أو اللادينيين، يستطيعون الوصول إلى المنصب العام، والوثائق المؤسسة للأمة كتبها أناس يحملون تصورات دينية مختلفة، والدين يمكن تعلمه، لكن لا يدرس في المدارس العامة، والتعليم العام علمانيًا، والصفوة، والإعلاميون، والأكاديميون، وصفوة رجال الأعمال، هم أكثر علمانية.
وأن وجهات النظر السياسية والاجتماعية حتى للناس “المتدينين” قد تكون علمانية حقيقية، ويعيش أتباع كل الديانات الإنسانية فوق قاعدة من المساواة القانونية بين الجميع، ومع اللادينيين أيضًا. وتؤيد الغالبية العظمى، الحقوق المدنية، مثل حرية التعبير لهؤلاء الذين يعارضون الكنائس والدين، وهناك البعض يصرحون بأنهم على استعداد لإعطاء أصواتهم لمرشح للرئاسة من الملحدين.
وفي المقابل هي دينية، حيث تنمو الكنائس، وأماكن العبادة، بوتيرة مرتفعة، ويعيش أتباع جميع الديانات العالمية فيها، ويجتذب العديد من هذه الأديان الأمريكيين للتحول إليها، وتظهر الكتب ذات الموضوعات الدينية في قائمة الأكثر مبيعًا، ويستمر الناس في الالتفات إلى جماعات الإيمان الخاصة بهم لدعمها، خاصة في أوقات الأزمات، ومناسبات الحياة المهمة، وتزدهر المنظمات المتعلقة بالكنيسة في أماكن الدراسة، وتجتذب البرامج التليفزيونية المتعلقة بالدين أعدادًا كبيرة من المشاهدين، والمواقع الإلكترونية علي الإنترنت تكشف النقاب عن توليفة هائلة من المواقع المخصصة للدين، كما أصبحت المنظمات الدينية المحافظة والأصولية، أكثر فاعلية في السياسة الأمريكية خلال العقود الماضية”.
وفي إطار هذه الخصوصية، يمكن تناول موقع الدين وأصوله في المجتمع الأمريكي، وتطور تأثيره على السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال المحاور التالية:
المحور الأول: جذور البعد الديني في المجتمع الأمريكي
يمكن التمييز في إطار الأصول التي يقوم عليها البعد الديني في السياسة الأمريكية، بين ثلاثة أصول رئيسة، شكلت المجتمع والدولة في الولايات المتحدة، يتمثل الأول في الجذور الدينية، والتي نقلها المهاجرون الأوربيون إلى الأرض الجديدة، سواء كانوا من المسيحيين أو اليهود، ويتمثل الثانى في الأصول التشريعية، التي تضمنها الدستور الأمريكي وتعديلاته المختلفة، بينما يتمثل الأصل الثالث في إسهامات المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة. ويمكن تناول هذه الأصول، وتأثيرات كل منها على السياسة الأمريكية، على النحو التالي:
أولاً: الأصول الدينية:
يتم التمييز في إطار الأصول الدينية التي قامت عليها الولايات المتحدة، بين الأصول البروتستانتية، والأصول اليهودية، والتي ارتبطت بالهجرات الأوربية، التي بدأت مع حركة الكشوف الجغرافية في القرن السادس عشر الميلادى، ومع تفاوت الهجرات وتعدد العقائد والمعتقدات والتيارات الدينية التي حملها المهاجرون، تعددت تأثيرات هذه الأصول على السياسة الأمريكية.
1ـ الأصول المسيحية:
إذا كانت العقائد الدينية والكنائس تعكس المجتمعات التي تهيمن عليها بقدر ما تعكسها هذه المجتمعات بدورها أيضا، فإن الحالة الأمريكية تمثل تعبيرا مثاليا لذلك. فالكالفينية تواءمت لتتناسب مع العالم الجديد، كما أن العالم الجديد فرض نفسه على العقيدة المهاجرة، فتطورت لتستجيب إلى حاجته لمرجعية تحكم حركته الناشئة.
لذا لم يكن غريبا أن “يولد المجتمع والدين في آن واحد”، ولأن المهاجرين الجدد كانوا من البروتستانت فقد كانوا قوة غالبة، فسادت كنيستهم وساد مذهبهم. ومثلما شهدت الولايات المتحدة عقيدة متطورة، فقد تطورت اقتصاديا واجتماعيا في اتجاه مغاير للتطور الأوروبى، آخذاً في الاعتبار تلازم هذا التطور مع العقيدة، فجاءت متحررة من تقاليد الأرستقراطية التي سادت في العصور الوسطى. كما أن توفر الأرض وندرة الأيدى العاملة قد أتاحا للمستوطنين الجدد تحقيق قفزات اقتصادية كبيرة، وهنا التقى الكفاح من أجل الثروة والنجاح، والذى فرضته حالة العالم الجديد، بالأخلاق البروتستانتية.
وبجانب التأثير البروتستانتي، كان للكاثوليكية تأثيرها في المجتمع الأمريكي، وفي صياغة جانب مهم من توجهاته،ففي اجتماع الكونجرس القارى الأول، في سبتمبر 1774،وعندما باتت الحرب مع انجلترا وشيكة، قام القس الأنجليكانى “يعقوب دويتشى”، بقيادة المجلس في الصلاة، ولم يكن من طائفة البيوريتان،وتم اختياره لقيادة الصلاة، رمزاً للوحدة في مواجهة الأزمة، وجاء النص الذى اختار أن يقرأه، ليعبر بوضوح عن أنه تجنيد للكتاب المقدس في وصف الولايات المتحدة في الصراع القادم، فهو يضع الولايات المتحدة مكان إسرائيل، ويطلب دفاع الرب عن إسرائيل في العصور القديمة متوسلاً بأنه سبب لكى يدافع عن الولايات المتحدة الآن.
وبينما كان البيوريتان على دراية بأسلوب التبشير الذى يضع نيو إنجلاند مكان إسرائيل، فإن الأنجليكانين الحاضرين في صلاة القداس، كانوا أكثر دراية مع العادة التقليدية “والتي تم تعديلها ومواءمتها، من الممارسة الكاثوليكية، في العصور الوسطى” في رؤية كنيسة انجلترا، كما لو كانت تحل محل بنى إسرائيل، وبذلك قدمت الولايات المتحدة نفسها مكان بنى إسرائيل، ولم يعد الشعب المختار اليهود، ولا الكاثوليك، ولا الإنجليز، ولا سكان نيو إنجلاند فقط، ولكن كل الأمريكيين.. ومنذ ذلك الحين أصبحت “الكينونة الأمريكية”، تعنى أن تحوز مكانة دينية متمايزة بوصفك واحداً من المختارين”.
ومن هنا يمكن القول أن تأثير الأصول المسيحية (البروتستانتية، والكاثوليكية) على السياسة الخارجية الأمريكية، لم ينعكس فقط في رؤيتها لمكانتها في العالم، والتي سعت إلى ترسيخها، كأمة رسالية، ولكن أيضاً على توجهاتها الخارجية، سواء فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، أو الأطراف الدولية الأخرى، أصحاب التوجهات الدينية الفاعلة، كالدول العربية والإسلامية، كما أنه ورغم حرص الأمريكيين عند تأسيس دولتهم، على الخصوصية والتميز عن التأثيرات الأوربية، فإن جذور الكثيرين منهم، الأوربية، شكلت عاملاً مهماً في خلق نوع من التوافق بين السياسات الأمريكية والأوربية، في القرون التالية، استناداً للتراث المسيحي المشترك، بعنصريه البروتستانتي والكاثوليكي.
2ـ الأصول اليهودية:
ارتبط تدين وتهود الولايات المتحدة بنشأتها. فالمهاجرون الأوائل اعتبروا الولايات المتحدة هي “أورشليم الجديدة”، أو “كنعان الجديدة”، وشبهوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء حين فروا من ظلم الملك الإنجليزى جيمس الأول وهربوا من انجلترا بحثا عن أرض الميعاد الجديدة. وقد وجد المستوطنون في حكايات سفر الخروج من العبر والوصايا، نبراسا في تأسيس ومشروع الولايات المتحدة. وأصبح تحويل العالم الجديد إلى إسرائيل جديدة، هو أساس مشروع المستوطنين البروتستانت الأوائل.
غير أن تهويد المسيحية الأمريكية، ارتبط، في الجانب الأكبر منه،بـ “المسيحية اليهودية”، التي شهدتظهوراً وتصاعداً في فترة الإصلاح والنهضة في أوروبا، ولعبت دورا مهما بعد الاسترداد المسيحي لأسبانيا من خلال اليهود المتحولين إلى المسيحية “يهود المارانو”.ومع بداية القرن السادس عشر، أدى تأثير المسيحية اليهودية إلى انتشار “فكر الألفية”، بتفسيرات جديدة لسفر دانيال “العهد القديم”، ورؤيا يوحنا “العهد الجديد”، وأصبح لليهود دور في خطة الرب لنهاية التاريخ التي تتضمن عودة اليهود إلى فلسطين قبل مجيء المسيح.
ولكن الانطلاقة الكبرى للمسيحية اليهودية ارتبطت بحركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر، إذ أعادت البروتستانتية الاعتبار لليهود وأصبح العهد القديم اليهودى المرجع الأعلى للاعتقاد البروتستانتي، ووصل تهويد المسيحية إلى ذروته مع الثورة البيوريتانية في القرن السابع عشر، إذ غالى البيوريتانيون في إجلال العهد القديم، وطالبوا الحكومة البريطانية بأن تعلن التوراة دستورا للبلاد، واستعاضوا بالعادات اليهودية عن المسيحية، بل إن بعضهم كان يلهج بالعبرية في الصلاة وتلاوة الكتاب المقدس.
وعندما وصل المهاجرون البيوريتانيون الأوائل إلى العالم الجديد، كانت أساطير الشعب المختار وأرض الميعاد ومملكة إسرائيل، تسيطر عليهم، وكانوا يصلون باللغة العبرية ويطلقون على أبنائهم أسماء من قصص التوراة، وكان أول كتاب طبعوه في الولايات المتحدة هو كتاب “مزامير داوود”.
ومع حلول القرن الثامن عشر، أصبح الاعتقاد بالبعث اليهودى في فلسطين يشكل جانبا مهما من اللاهوت البروتستانتي الأمريكي، واحتلت أساطير “المسيح المنتظر”، و”العصر الألفي”، والطهورية، و”مدينة فوق التل”، و”القدر الواضح”، وأسطورة الألفية، مكانا بارزاً في التراث الديني الأمريكي. خاصة وأن هذه الأساطير تكمل كل منها الأخرى، حتى إذا ما توفرت القوة، تجلت الأساطير في تغذية الأفكار ومن ثم الأفعال.
وأصبحت السياسة الأمريكية في مواقفها تجاه الآخرين، تكاد تكون تجليا كاملا لما تفرزه هذه الأساطير من أدبيات. وقد تكونت هذه الأساطير عبر ممارسات طويلة متراكمة. وساهمت هذه الأساطير، ونتيجة لظلالها العنصرية ودوافعها الإمبريالية، بدرجة كبيرة في تكوين الصورة النمطية التي تقسم العالم إلى “طيبين” و”أشرار”.
وتأكيداً على أهمية الأصول التي غرسها المهاجرون، بعقائدهم ودياناتهم المختلفة، والتي، أثرت وما زالت على مجمل التوجهات والسياسات الأمريكية، يرفض “صمويل هنتنجتون”، فكرة أن الولايات المتحدة هي مجتمع من المهاجرين متعددى الأعراق والإثنيات والثقافات، ويرى أن الأمريكيين الذين أعلنوا استقلال الولايات المتحدة، كانوا مجموعة متجانسة من المستوطنين البريطانيين البروتستانت الذين توافدوا إلى العالم الجديد من أوروبا وخاصة بريطانيا لكى يستقروا فيه ويعمروه للأبد. فهؤلاء المستوطنين وضعوا بذور المجتمع الأمريكي انطلاقا من مبادئهم وثقافتهم الأنجلو ـ بروتستانتية.
واستناداً لذلك يرى هنتنجتون أن للولايات المتحدة هوية محددة، هي هوية هؤلاء المستوطنين، التي تقوم على ركائز أربع أساسية، هي العرق الأبيض، والإثنية الإنجليزية، والدين المسيحي البروتستانتي، والثقافة الإنجليزية البروتستانتية، وهذه الخصائص انعكست بوضوح على جميع خصائص المجتمع والدولة بالولايات المتحدة، وظلت سائدة حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبا.
ويؤكد “جراي”: “إن الولايات المتحدة، في عمق تدينها واتساع مداه، تقف منفردة بين البلدان المتقدمة، وأن الحديث عن أن الولايات المتحدة تمثل مجتمعاً علمانياً هو حديث سخيف ومناف للعقل، فالتراث العلمانى في الولايات المتحدة أضعف منه في تركيا .. فقوة الدين في الولايات المتحدة لا تفصح عن أى علامة على الضعف، فاستطلاعات الرأى تبين أن الأمريكيين هم أكثر شعوب الدول البروتستانتية تردداً على الكنيسة، وأنهم أكثر الشعوب أصولية في الدين المسيحي.
وعن تأثير هذه الأصول على السياسة الخارجية الأمريكية، يرى “نيقولاس جويات”، أن هناك اتفاقبين المحللين الأمريكيين على الطابع التبشيرى لهذه السياسة، حتى لو تشككوا في فعالية هذا التبشير في الممارسة، حيث يتصورون أن الحقائق البديهية الخاصة بالتاريخ الأمريكي تؤكد أن الولايات المتحدة كانت المبشر بالمسيحية والديمقراطية في العالم، وأنها عادة ما كانت تتصرف بدافع الشعور بالغيرة أكثر مما تتحرك بدافع المصلحة الذاتية، وبالرغم من أن سجلات التاريخ لا تكاد تؤيد مثل هذا التفسير، فإنه يجب عدم التقليل من شأن تأثير وجهة النظر هذه في الحياة السياسية الأمريكية، كما أن إقصاء أنصار مدرسة “التبشير الأمريكي” عن مجال التحليل، يعني البعد عن جدل مهم حول تاريخ وأهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
فالاقتراب من فكرة التبشير الأمريكي، تساعد على معرفة السياق الذى تتفاعل فيه الرؤى “الواقعية” و”المثالية” للسياسة الخارجية. وتعنى النقاشات حول السياسة الخارجية الأمريكية باتساع نطاق المثالية الأمريكية أكثر من عنايتها بوجود أى دافع “تبشيرى” لها، فالتبشير الأمريكي أمر مسلم به عندهم. في حين لم يبذل الواقعيون جهداً جاداً لدراسة النوايا الطيبة للولايات المتحدة، ولكن فقط للشك فيما إذا كانت الحكومة الأمريكية تملك الموارد الكافية لتحقيق هذه النوايا في الخارج”.
وبين مقولات هنتنجتون وجراي وجويات، يأتي التأكيد على أهمية تأثير الأصول الدينية، في تشكيل توجهات السياسة الأمريكية، وترسيخ مفهوم دورها الرسالي في العالم، والذى من خلاله صيغت سياساتها، وحددت الأهداف والقضايا التي تحكم نطاق حركتها الخارجية، فقد أعطت هذه الأصول للسياسة الأمريكية، نوعا من المثالية التي دعمت الشعور بالعزلة والتفرد، وخلقت اعتقادا عاما في سمو أسلوب الحياة الأمريكية، التي تتضمن مزيجاً من القيم البيوريتانية التي تمجد العمل والانضباط وحسن التدبير، والقيم الليبرالية المستمدة من فلسفة السوق الحرة والحدود المفتوحة، والقيم البراجماتية التي تقيس الأشياء بمقدار ما تقدمه من منفعة، وتفاعل ذلك مع تقليد راسخ في الحياة الأمريكية، وهو الدستور والشرعية وهيبة القانون، والذى أرسته الأصول التشريعية في المجتمع الأمريكي.
ثانياً: الأصول التشريعية:
في ظل الأصول الدينية التي ينتمى إليها المهاجرون الأوربيون إلى الوطن الجديد، وخبراتهم التاريخية، تم النظر إلى الفصل بين الكنيسة والدولة على أنه السبيل نحو تحقيق الدمج للشخصية الدينية والسياسية للوطن الجديد في كيان واحد، وقد اجتمع الكونجرس للمرة الأولى بنيويورك 1789، وأقر عشرة تعديلات على الدستور، صيغت فيما يعرف باسم “وثيقة الحقوق”، يختص أولها بحرية العبادة، وكان نصه “لا يسن الكونجرس أى قانون ينص على إضفاء صفة الرسمية على دين ما، ولا يمنع حرية ممارسة دين”.
وقد نظر البعض إلى الفصل بين الدولة والكنيسة، كما ورد في التعديل الأول للدستور،على أنه كان جهدًا لحماية الدين من الدولة وليس حماية الدولة من الدين، فالتعديل قصد به السماح بأقصى حرية للفرد “المتدين” بعيدًا عن هيمنة الدولة (المؤسسة) على حقوق الأفراد في ممارسة الدين بالطريقة التي يختارونها.
أوباما وزوجته ونائبه جو بايدن وزوجته والرئيس السابق بيل كلينتون وزوجته هيلاري مرشحة الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة بكاتدرائية واشنطن
ويبدأ نص التعديل بـ”المؤسسة” (الكونجرس) لينفي تدخلها في الدين بإنشاء مؤسسة دينية أو بمنع ممارسته بحرية، ولذلك امتنعت الدولة عن تحديد دين رسمى، ولم تتدخل الدولة بفرض كنيسة رسمية، فلا دين رسمى ولا كنيسة رسمية في أمريكا، كما تمتنع الدولة عن تمويل أية مؤسسة دينية من الخزانة العامة، ولا تمول الدولة المدارس الدينية من المال العام، حتى لا ترسخ دينًا أو مذهبًا معينًا، ولا تشترط الدولة حلف يمين دينى للتنصيب في المناصب العامة، ولا تشترط أى تحديد لمرجع دينى.
وقد حفظ ذلك التعديل المجتمع الأمريكي، من التورط في حرب دينية، ولم يكن هذا بالأمر السهل، فالمجتمع الأمريكي يشهد أكبر عدد من الأديان في العالم. كما أن الولايات المتحدة أكثر تدينا من نظيراتها الغربية، فالجمع بين فقرتى حرية الممارسة، والدين المؤسس، كان أكثر تحفيزا للنشاط الديني عن عائدات الضرائب التي تعفى منها المؤسسات الدينية.
ولذلك نشأت تفسيرات كثيرة، واتجاهات متباينة. فالذين يفضلون الفصل بين الكنيسة والدولة، يجدون أنفسهم في صراع متصاعد، حيث يعتمدون على التفكير المتروى والقرارات التي اتخذها الآباء المؤسسون والأحكام المتعاقبة من المحكمة العليا الأمريكية. ويرون أن مثل هذه الجهود ضرورية لإقناع باقى الأمريكيين بمفهوم وحكمة فصل الحكومة عن الدين.
وفي المقابل تعددت المحاولات، لإدخال تعديلات تُحيِّد تأثير التعديل الأول، ولم تكن تلك المحاولات قاصرة على التصويت ضده فقط، بل شملت كذلك أحكام قضائية مضادة من قضاة لهم رؤية مختلفة عما كان في عقول الآباء المؤسسين، وكذلك محاولات إثارة الجدل والنقاش حول مضمونه، وخاصة فيما يتعلق بإشكالية العلاقة بين حرية الدين والمحافظة على حكومة علمانية. ولم يخل دعم الرؤساء الأمريكيين للفصل بين الدولة والدين، من إظهار معظمهم ميولاً دينية، أو أشكالاً من “التدين”، أو على الأقل احترام الدين في الحياة العامة، في الوقت الذى كانوا فيه علمانيين في السياسة والحكم. فقد كان على الرؤساء الأمريكيين أن يتحركوا في الممارسة بين شعب “متدين” ودستور علماني.
وهكذا فإن الحائط الفاصل بين الدولة والدين (بتعبير جيفرسون)، قد يعلو أو ينخفض. ويتوقف الأمر على مدى تدين الشعب ومدى علمانية السياسة والحكم. إلا أن الفصل بين الكنيسة والدولة في المجتمع الأمريكي لم يتحول يومًا إلى فصل بين الدين والمجتمع، أو بين الدين والنخب والقيادة.
وهو ما انعكس على طبيعة السياسة الأمريكية، من حيث الحرص على المزج بين البعدين الديني والمصلحي في تفاعلاتها الخارجية، فالقوانين والتشريعات الأمريكية الخاصة بالحرية الدينية، وإن كانت تنطلق من نظرة الولايات المتحدة لموقعها في العالم، هذه النظرة التي تستمدها من أصولها الدينية والتشريعية، فإن هذه القوانين في الوقت ذاته تمثل أداة من أدوات تحقيق هذه المكانة، ويتم تفعيلها في الحالات التي تشعر فيها الولايات المتحدة أن مصالحها الاستراتيجية معرضة للخطر.
3ـ إسهامات المؤسسين الأوائل:
كان من بين أسباب الثورة، في الولايات الأمريكية، على انجلترا ومحاربتها ثم الاستقلال عنها، الخوف من أن تمد سلطانها الديني على المهاجرين، الذين هاجروا بسببها. وقد اجتمع كثير من المتدينين، الذين عانوا تحت وطأة التعصب في ظل حكم الكنيسة الإنجليكية الرسمية، والعقلانيين، خلف “جيمس ماديسون وتوماس جيفرسون” لمنع إنشاء الكنيسة المؤسسة في فرجينيا، وخاضوا في ذلك معركة ضد “باتريك هنرى”، و”جورج واشنطن”. وكانت أهم حجج “ماديسون”، أنه لا إكراه في الدين، وأن انتهاك الحرية الدينية، بواسطة كنيسة مؤسسة، كما كان يشهد التاريخ الأوروبى والإنجليزى حتى ذلك الوقت، يفتح الطريق لانتهاك الحريات الأخرى، وأن دعم الدين بواسطة الحكومة، يفسده رجاله، كما أن الدين المسيحي لا يحتاج لدعم الحكومة، فقد عاش وازدهر بدونه.
ولم يمثل تفادى المؤسسين الأوائل للاعتبارات الدينية في الدستور تأييدا أو معارضة للقيم الدينية، بل كان مجرد استراتيجية براجماتية لتفادى إثارة التحيزات الدينية. فإذا كانت الولايات المتحدة ولدت وهي تعتقد أنها شعب الله المختار، فمن الصعب رؤيتها في الوقت نفسه باعتبارها كيانا علمانيا تماما، ومن هنا تم النظر إلى الفصل بين الكنيسة والدولة على أنه سيسهل تحقيق الدمج للشخصية الدينية والسياسية للوطن الجديد في كيان واحد.
وفي إطار هذه الجدلية، كان المؤسسون الأوائل للولايات المتحدة، تحكمهم وتحركهم في كثير من الأحيان القيم والمعتقدات الدينية، والتي انعكست على رؤاهم وتصوراتهم لمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية، ولدورها في العالم.
وقد كان لإسهامات المؤسسين الأوائل العديد من التأثيرات على الخط العام للسياسة الأمريكية في العالم، فقد تبنت هذه السياسة مقولات “توماس جيفرسون” حول أنهم “أفضل أمل للعالم”، وهو ما رسَّخ التوجهات الأمريكية بإنشاء سوق حرة عالمية،حيث نظر لهذه السوق على أنها المشروع التنويرى لحضارة كونية تحت رعاية آخر الأنظمة التنويرية العظمى في العالم، وتقف الولايات المتحدة منفردة في هذه المرحلة المتأخرة من العالم الحديث في الدفاع بقوة عن التزامها بهذا المشروع التنويري، الداعي إلى قيام حضارة عالمية وفق عقيدة سياسية حية. إلا أن المشكلة التي تواجهها الولايات المتحدة، هي أن مؤسساتها وسياساتها تقوم على أساس أيديولوجية لم تعد تتفق مع الظروف الحالية، فالأديان التي تستعيد نشاطها، والعداوات العرقية القديمة، والنزاعات الإقليمية، والتكنولوجيات التي تستخدم لأغراض الحرب، أمور لا تتفق مع توقعات التنوير الأمريكية.
ومن خلال تحليل هذه الأصول، يرى الباحث أنه في الوقت الذى رسخت فيه الأصول الدينية، الهوية المسيحية، وتحديداً البروتستانتية، للولايات المتحدة من الناحية الواقعية، مع الاعتراف بوجود تأثير للتيارات الأخرى، وكذلك للأصول اليهودية، فإن الأصول التشريعية وكذلك إسهامات المؤسسين الأوائل، قد رسخت مفهوم الحريات الدينية، وعملت على حمايتها، من الناحية التشريعية. وهذه الجدلية هي التي شكلت المجتمع الأمريكي، وخلقت ازدواجية العلمانية والدين، وكان لها تأثيرها على السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية.
فقد منحت الهوية الدينية خصوصية لهذه السياسة، وشكلت العديد من توجهاتها، في الوقت الذي منحت فيه الحرية الدينية الفرصة للعديد من التيارات الدينية أن تنشأ وتمارس دورها في المجتمع والسياسة الأمريكية، بل ويتسع هذا التأثير ليمتد إلى السياسة الخارجية كتيارات اليمين الديني، وجماعات الضغط ذات الانتماءات الدينية كاللوبي الإسرائيلي، وغيرها.
وقد جاء استخدام الدين، وفق هذه الأصول، في السياسة الأمريكية، مترادفاً مع العديد من المفاهيم التي تبنتها هذه السياسة، مثل “القيم الأمريكية”، “الرسالة الأمريكية”، “الحضارة الأمريكية”، “الثقافة الأمريكية”، النموذج الأمريكي”، “الأيديولوجية الرأسمالية”، وغيرها من المفاهيم التي شكلت تعبيرات مختلفة عن توجه عام يقوم على التبشير بالنموذج الديني أو القيمي وفق التصور الأمريكي، ومحاولة فرضه على العالم، واحتواء كل النماذج الدينية والقيمية الأخرى في العالم، والتي يأتى الإسلام في مقدمها.
احتواء ينطلق من مرجعية دينية قيمية، تعكس الرسالة الأمريكية في العالم، ويسعى إلى تعظيم المصالح الأمريكية في العالم والحفاظ عليها، وهو ما يؤكد ارتباط البعدين الديني والمصلحي في السياسة الأمريكية بصفة عامة، وتجاه العالم الإسلامي بصفة خاصة. وهو الأمر الذي سيتضح بدرجة أكبر في المحورين التاليين عن تطور تأثير البعد الديني في السياسة الأمريكية، من الاستقلال وحتى أحداث سبتمبر 2001.
المحور الثاني: تأثير البعد الديني على السياسة الأمريكية قبل الحرب العالمية الثانية
مر البعد الديني في السياسة الأمريكية، من حيث الممارسة، في مرحلة ما قبل الحادى عشر من سبتمبر، بالعديد من التطورات، اختلفت خلالها التوجهات، وتعددت السياسات، ولكنها في المحصلة النهائية، تصب في اتجاه التأكيد على أهمية هذا البعد، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، سواء تم استخدام الدين بلفظه واصطلاحه، أو تم استخدامه في ثنايا مصطلحات ومفاهيم أخرى تتداخل مع المفهوم، وتعطى نفس مضامينه.
والهدف من رصد هذا التطور هو بيان نمط العلاقة بين البعد القيمى/ الديني/ الأخلاقي، من ناحية وبين المصالح وصراعات القوى واستخدامات القوة، من ناحية ثانية، وهل الأول دافع أم رداء للثاني؟. وفي هذا الإطار يمكن رصد عدد من التطورات الرئيسة، لتأثير البعد الديني في السياسة الأمريكية منذ استقلالها، وحتى الحرب العالمية الثانية، وذلك على النحو التالي:
أولاً: التبشير وتأسيس الإرساليات الأمريكية:
بعد أن تأسست الإرسالية الأمريكية في “بوسطن”، وحددت أهدافها في ارتياد الأراضى المقدسة، للعمل بين ظهرانى اليهود طبقاً للنبوءات التوراتية التي يؤمن بها البروتستانت، عمل المبشرون على عدم دخول بلاد الشام مرة واحدة، بل فضلوا الاستقرار المؤقت في محطة “مالطة” التي كانت تخضع آنذاك للحكم الإنجليزى، ومنها راقبوا أحوال الشام، وأعدوا عدة رحلات استكشافية صغيرة ذهبت إلى هناك، لجمع المعلومات وبيان كيفية العمل، وإعداد المبشرين للعمل في هذه الأماكن، إضافة لإعداد الكتب والكراسات الدينية، وطبعها ونشرها في هذه البلاد.
ووفق هذا التصور، فإن النفوذ الأمريكي في المشرق العربي بدأ بداية ذات واجهة دينية، حيث كان البروتستانت الأمريكيون يؤمنون بالعقيدة الألفية، التي تدعو اتباعها لانتظار عودة المسيح قبل نهاية الألفية، وتقوم على عدة مقدمات، منها عودة اليهود لفلسطين، الوطن القومى لهم وفق هذه العقيدة، ونشر البروتستانتية، لتقليل عدد أعداء المسيح بعد عودته، وكان هذا هو السبب لاختيار الإرساليات لبلاد الشام كبداية لنشاطها في العالم العربي.
وكان هدف المبشرين الأمريكيين في الشام موجهاً في الأساس نحو العمل بين اليهود أكثر من الرغبة في إنشاء طائفة بروتستانتية في الشام، فقد تغيرت الفكرة المسيحية الأوروبية السائدة في القرون الوسطى عن اليهود، بصفتهم شعباً غريباً ينبغى تجنبه واضطهاده، تغيراً جذرياً بعد حركة الإصلاح الديني في أوروبا، وارتبط بهذه الحركة إحياء التاريخ اليهودى القديم، وأعلن “لوثر” أن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية للكنيسة البروتستانتية، لأنها لغة الكتاب المقدس، وارتبط بذلك إحياء الوعود التوراتية التي يؤمن بها اليهود، وتسربت للبروتستانتية مع الإصلاح الديني، ومن هذه الوعود أن فلسطين هي أرض شعب الله المختار “اليهود”.
وبذلك أصبحت فلسطين بالنسبة للأمريكيين تمثل موقعاً جغرافياً للتقوى، ومكاناً للقدسية، والأرض التي ولد فيها يسوع وبدأت فيها المسيحية، لارتباطها بـ”العقيدة الألفية” التي يؤمنون بها. وكان المبشرون، الذى يعتبرون الشرق الأدنى أرض الإنجيل، هم الذين حددوا أسلوب العلاقات العربية ـ الأمريكية خلال القرن التاسع عشر.
ونتج عن النشاط التبشيرى للإرسالية الأمريكية في الشام وجود طائفة بروتستانتية، اعترفت بها الدولة العثمانية كأحد الطوائف الدينية المسيحية في عام 1848م، إلا أنه على الرغم من ذلك، فقد أدرك المبشرون الأمريكيون أن عملهم وسط المسلمين، محكوم عليه، من وجهة نظر البعض، بالفشل بالرغم من وجود عدد قليل من المسلمين الذين اعتنقوا البروتستانتية، لذا ركزوا جهودهم على دعوة الطوائف المسيحية الأخرى مثل الأرثوذكس والكاثوليك، بينما ركزوا جهودهم في وسط المسلمين على الجانب الحضارى فعملوا على التبشير بالحضارة الغربية لخلق تيارات تدين لهم بالولاء الفكرى، وأصبح الوجه الحضارى وسيلة لتهيئة النفوس لقبول ما يبثه المبشرون من أفكار.
ومن هنا يمكن القول أن الثروات الطبيعية ومكانة الولايات المتحدة، لم تكن فقط عوامل تدعم فكرة التبشير الأمريكي في بقاع العالم، ولكن أيضاً الشعور بأن الولايات المتحدة يمكن أن تتحرر من قيد السياسات الخارجية، دون أن يلحقها ضرر، وأن تعيش مكتفية بسياساتها الداخلية.وهذا الشعور بالحصانة يترجم إلى شعور بقدرة الولايات المتحدة أن تختار متى وأين وكيف تنشغل بالعالم الخارجى، وهنا يكمن مصدر الخطاب التبشيرى، وأيضاً الانفتاح على العالم وفقاً للأحداث الخارجية والأولويات الأمريكية.
فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة مرتبطة في أذهان الكثيرين بانتشار الرأسمالية الكوكبية، فقد قدمت هذه الرأسمالية، باعتبارها منحة أمريكية للعالم، وقوة للتقدم الحضارى، وهكذا يتم نشر صورة ذهنية للولايات المتحدة، تقوم إما على التقدير العميق للتبشير الأمريكي، من جانب الأمم الأخرى، وإما على التخلى عن العالم، وفي الحالتين تشكل الولايات المتحدة دولة معطاءة، وقوة نزيهة في الشؤون الدولية، واثقة من مكانتها في العالم، وسعيدة بمساعدة الأمم الأخرى، إذا كانت راغبة في ذلك.
وهنا يمكن القول أن البعد الديني، كان ركيزة أساسيةأسست عليها الولايات المتحدة نفوذها، خلال المرحلة الأولى من مراحل انطلاقها نحو العالم، ففي الوقت الذى تبنتفيه “مبدأ مونرو” في سياستها الخارجية وظلت حريصة على ألا تزج بنفسها في مشاكل الصراعات خارج أراضيها، خرجت منها الإرساليات الدينية إلى العالم. وعندما قررت الخروج من عزلتها، وجدت إرسالياتها منتشرة في العديد من دول العالم فمدت لها حمايتها ورعايتها واستفادت من وجودها ومعرفتها بالمجتمعات التي توجد بها، وكذلك من أنشطتها المختلفة، وتحول الدور الديني والثقافي للإرساليات الأمريكية إلى دور سياسى مدعوم من جانب الإدارة الأمريكية، وأصبحت هذه الإرساليات مقدمة للتوسع الأمريكي في العالم، وأصبح المبشر الأمريكي،أحد أدوات نشر النفوذ السياسى للولايات المتحدة.
ثانياً: الحملات الصليبية الأمريكية:
كان للمنظمات التطوعية، والحملات الصليبية الأمريكية دور كبير في نشر البروتستانتية الأمريكية، فمن خلال هاتين الوسيلتين تحركت شبكات هائلة من البروتستانت ضمت جميع الطوائف الرئيسية من أجل خدمة ودعم الإرساليات المسيحية. ويلخص شعار “حركة الطلاب المتطوعين”، الروح الخاصة بالبروتستانتية الأمريكية في الفترة بين 1817 و1890، فلم تكن تلك الفترة مرحلة من التقوى والحماسة فقط، لكنها كانت أيضاً فترة الإنجاز. فقد بدأ نشاط البروتستانت الأمريكيين في الإرساليات خارج الوطن مع بدايات القرن التاسع عشر، لكن حماسهم اشتعل بعد عام 1890م، وقادوا مع نظرائهم من البريطانيين،حملة إرساليات مسيحية كبيرة، للدرجة التي أطلق معها “كينيث سكوت لاتوريت”، على الفترة من عام 1815م إلى 1914م اسم “القرن العظيم للإرساليات المسيحية”.
كما شهدت هذه الفترة توسعاً أمريكياً خارجياً، غلفته الاعتبارات الدينية، وهو ما برز جلياً في الاحتلال الأمريكي للفلبين عام 1898، فقد عرض “هوارد زن”، تصوير الرئيس الأمريكي “ماكينلى”لقراره بشأن ضم الولايات المتحدة للفلبين، بأنه “كان رسالة من الله”. إلا أن الفلبينيين لم يتلقوا نفس الرسالة من الله كما حدث مع الرئيس ماكينلى، ففي فبراير عام 1899، ثاروا على الحكم الأمريكي كما ثاروا من قبل على الحكم الأسبانى.
وفي المقابل قادالفيلسوف وليم جيمس، حركة تضم عدد من رجال الأعمال والساسة والمثقفين كونوا “جماعة مناهضة الإمبريالية” عام 1898، وقاموا بحملة طويلة يكشفونللرأى العام الأمريكي فظائع الحرب في الفلبين وشرور الإمبريالية. وكانوا جميعهم متفقين مع مقولة وليم جيمس: “لعن الله الولايات المتحدة لسلوكها المشين في جزر الفلبين”.
وعلى الرغم من هذه الجهود فقد شعر بعض زعماء البروتستانت،خلال هذه المرحلة بمرارة شديدة بسبب الكيفية التي بددت وحشية الحرب فيها آمالهم العريضة بوجود حضارة مسيحية. ودون الاتجاه نحو البديل الطائفي لكنائس السلام، كان الملجأ هو العمل في سبيل الإصلاح من داخل الثقافة ذاتها. وكان الهدف الذى راود البروتستانت الأمريكيين، أن يتمكنوا من تحقيق قدوم ألفية سعيدة عن طريق الإصلاح.
ثالثاً: الرسالة الإلهية ومبادئ ويلسون:
عندما أدخل الرئيس “ودرو ويلسون” الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى عام 1917، أيد معظم أنصار السلام قرار الرئيس. وجادلوا بأن السلام الشامل لا يمكن تحقيقه إلا بانتصار أصحاب المبادئ، الذين هم أنصار السلام في خاتمة المطاف، وأيد أنصار السلام الرئيس “ويلسون” على أمل أن يأتي عصر ألفي جديد،وأن هذه الحرب ستنهي جميع الحروب.وجرف الحماس للحرب كنائس الولايات المتحدة، ولم يكن رجال الدين أقل حماساً من غالبية الأمريكيين الآخرين، وبلغ الأمر ببعض هؤلاء أن طرزوا العلم الأمريكي فوق الصليب بحيث يصعب التمييز بينهما. وارتبط الحماس الوطنى، بأسباب وثيقة الصلة بتراث الأمة الديني. ورغبتها في فرض أسلوب ديمقراطى أمريكى في الحياة، وفقاً للمثل الأعلى للحضارة المسيحية والجمهورية.
وتبنى عدد من رجال الدين حماسة ويلسون في إعادة تجديد قدسية السياسة الخارجية الأمريكية. فقد كانت القوات المسلحة الأمريكية هي “الكنيسة الأمريكية في فرنسا”، وصور كُتاب الترانيم الجمهورية الأمريكية “كمحاربة من أجل تحقيق الحرية للعالم أجمع” في “معركة يخوضها الله”.
وفي إطار هذه المؤشرات لتأثير البعد الديني في السياسة الأمريكية، في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، يمكن القول أن الدور الأمريكي الفاعل في الشأن الدولى، خلال هذه المرحلة، ارتبط بعدة أمور، ساعدت على إخفاء الوجه الاستعمارى، منها، مؤسسات التبشير، والتي كانت تكتسى ثوب المؤسسات الإنسانية والعلمية، وفي مناخ من الدعوة الأخلاقية، وتزامن ذلك مع مرحلة صياغة قيم إنسانية حضارية في مواثيق أممية، كدعوة الولايات المتحدة، لتأسيس عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة.
وخلال هذه الفترة كان الخطاب الديني ـ الثقافي أبرزمضامين الدور الأمريكي في العالم. ولم تكن تُستخدم السياسة إلاّ وسيلة لوضع الخطاب الأيدولوجي موضع التنفيذ. فالفكر الديني يقود السياسة الأمريكية إلى حيث يصبح ممكناً تحقيق النبوءات التوراتية، التي تشكل الولايات المتحدة أداة تحقيقها، انطلاقاً من رؤيتها لدورها الرسالى في العالم، فقد كان هذا الفكر دافعاً لتشكيل العديد من التوجهات والسياسات الأمريكية (وهو ما برز في المنطلقات القيمية لهذه التوجهات)، من ناحية، كما كان أداة لوضع هذه السياسات موضع التنفيذ (وهو ما برز في الآليات التي اعتمدت عليها السياسة الأمريكية خلال هذه المرحلة كالتبشير والإرساليات البروتستانتية، والحملات الصليبية، والمبادئ الويلسونية).
المحور الثالث: البعد الديني والسياسة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، انقسم العالم بين معسكرين، وفقاً للمعيار الأيديولوجي، الأول شرقي، يهيمن عليه الاتحاد السوفيتي، ويتبنى الأيديولوجية الشيوعية، والثاني غرب، تهيمن عليه الولايات المتحدة، ويتبنى الأيديولوجية الرأسمالية، وفي سياق مواجهتها للأيديولوجية الشيوعية، تبنت الولايات المتحدة عدد من السياسات والأدوات، كان البعد الديني والأيديولوجى أهم ركائزها، كإطار مرجعى يستمد منطلقاته من الأصول الدينية التي قامت عليها، وكأداة فاعلة، تستقطب العديد من القوى والتيارات الدينية في العالم، وخاصة العالم الإسلامي، وذلك على نحو يبرز كيفية التفاعل بين البعد الديني/ القيمي، والبعد المصلحي/الإستراتيجي، خلال هذه المرحلة.
أولاً: مواجهة الأيديولوجية الشيوعية:
شكلت الأيديولوجية الشيوعية طرف النقيض للرأسمالية الغربية، وكانت بمثابة التحدى الأكبر للرسالة الأمريكية في العالم، وخاصة بعدما اجتذبت أنصار ومؤيدين على نطاق واسع في العالم، حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها، ومن هنا تعددت السياسات الأمريكية لاحتوائها، ثم القضاء عليها، وفي إطار هذه السياسات تعددت المؤشرات على تأثير البعد الديني، كإطار وأداة، ومن بين هذه المؤشرات:
1ـ اللجنة الأمريكية للحرية الثقافية: تأسست اللجنة الأمريكية للحرية الثقافية، عام 1951، لاحتواء تأثير الشيوعية في المجتمع الأمريكي، وأكدتالعلاقاتبين اللجنة وكبار العاملين في المخابرات، على تورط اللجنة في الحرب الثقافية ضد الاتحاد السوفيتى، في الداخل الأمريكي، فقد كان الهدف منها اختبار مصداقيةنظرة المثقفين الأمريكيين للولايات المتحدة ومؤسساتها. حيث كانت الفكرة العامة عن الولايات المتحدة بين اليساريين الأمريكيين، أنها معادية للفن والثقافة، ولكن بدأ المد يتغير، وأصبح كثير من الكتاب والمثقفين يشعرون بأنهم أكثر قربا من وطنهم ومن ثقافتهم.. ومن الناحية السياسية،أصبح هناك اعتراف بأن نوع الديمقراطية القائمة في الولايات المتحدة ينطوى على قيمة جوهرية وإيجابية،وأنها ليست مجرد أسطورة رأسمالية، لكنها حقيقة، ويجب الدفاع عنها ضد الشمولية الروسية.
2ـ مشروع بالون الإنجيل: أطلقت الولايات المتحدة في مواجهتها مع الاتحاد السوفيتى، سلاحاً جديدا عرف باسم”قانون الرب”.وفي إطاره تم إعداد مائة ألف بالون محملة بالأناجيل تم إرسالها عبر الستار الحديدى عن طريق “مشروع بالون الإنجيل”، وطبع شعاره على مرسوم “الكونجرس” الصادر في يونيو 1954 الذى وسع قسم الولاء لكى يتضمن عبارة “أمة واحدة تحت راية الرب”. وقرر “الكونجرس”، عام 1956، أن تصبح عبارة “نحن نثق بالرب” هي الشعار الرسمى للدولة”.
وفي هذا السياق، ووفقاً لسوندرز، تم إخضاع القوة السياسية لتراث مسيحى قديم جوهره “إطاعة قانون الرب”. وبإعمال السلطة الأخلاقية الجوهرية، حصلت الولايات المتحدة على تصديق على “قدرها الجلى”. ومع تصاعد قوة الدافع الديني، قامت السياسة الأمريكية على افتراض رئيسى مفاده: “المستقبل سوف يحسم بين المعسكرين الكبيرين: أولئك الذين يرفضون الله وأولئك الذين يعبدونه”. وقد اختزل هذا المفهوم العلاقات الدولية لتكون صراعا بين قوى النور وقوى الظلام.
3ـ فيلق السلام في عهد كيندي: ارتكزت معارضة الرئيس “كيندي” للشيوعية الدولية على المثالية الأمريكية، وكان يدعو إلى رؤية جديدة لأسلوب الحياة الأمريكية المبنى على العدالة لجميع الشعوب. ومثل فيلق السلام، الذى بادر إلى إرساله إلى الخارج لمساعدة بلدان العالم الثالث صيغة مماثلة للحركة التبشيرية الأمريكية. حيث وفر “فيلق السلام” فرصا جديدة للشبان الأمريكيين لكى يقدموا للعالم نمطاً للخدمة شكل جزءا من التراث الوطنى الأمريكي.
4ـ دعم التنظيمات الإسلامية: حيث اتجهت الولايات المتحدة، إلى توفير الدعم المالى والإستراتيجي، للتنظيمات الإسلامية في أفغانستان، في مواجهة الاحتلال السوفيتي للأراضي الأفغانية، بين عامي 1980 و1989، معتمدة في تقديم هذا الدعم على عدد من الدول الإسلامية الحليفة لها.
ثانياً: المثالية الأخلاقية:
شهدت مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، تصاعد تأثير تيارات اليمين الديني والسياسي في السياسة الأمريكية، سواء من خلال ترسيخ وجودها القاعدى والفكرى في المجتمع الأمريكي كمرحلة أولى للتغلغل والانتشار، من ناحية، ثم دعم عدد من المرشحين للرئاسة أو للكونجرس، من ناحية ثانية، ثم وجود عدد من أنصارها في الإدارات الأمريكية، بداية من إدارة الرئيس رونالد ريجان (1980)، والإدارات التي تعاقبت بعدها، من ناحية ثالثة. وكان من نتائج نشاط هذه التيارات وصول كل من المرشح الديمقراطي، جيمى كارتر، والمرشح الجمهوري، رونالد ريجان، إلى الرئاسة في الولايات المتحدة، لما عرف عنهما من دعم لأفكار هذه التيارات، وتأييدها في السياستين الداخلية والخارجية، ونجاح هذين المرشحين، يعكس وجود توافق بين الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة حول منظومة القيم المثالية والأخلاقية التي تنطلق من جذور مشتركة، وتتبناها الولايات المتحدة في سياستها الخارجية، أياً كان الحزب الذى يتولى الإدارة فيها.
1ـ البعد الديني في ظل إدارة كارتر (1976 ـ 1980):
منذ بداية حملة انتخابات الرئاسية 1976، برز وزن الأبعاد الأخلاقية والدينية في فكر المرشح الديمقراطى “جيمى كارتر”، فقد حرص على تأكيد أنه رجل الشعب البسيط، الذى يقف في وجه الانحراف، كما اهتم بإبراز حقيقة تدينه وانتمائه إلى أسرة تحترم القيم الدينية، وتحرص على أداء الشعائر، حيث كان يتولى بنفسه، إلقاء دروس الأحد في كنيسة قريته “بلين” بولاية جورجيا، وكان يقضى في الصلاة وقتا أطول مما يقضيه في تصريف شئون الحكم، عندما كان حاكما لولاية جورجيا 1970 ـ 1974. ولم يكن أقل حرصا على إيضاح إيمانه بالحقوق المدنية للزنوج، ودوره في فتح أبواب الكنيسة لهم، وعدم قبوله قصر عضويتها على البيض فحسب، وانتشار دعوته تلك في عدد كبير من كنائس الولايات الجنوبية.
وجاء النزوع الأخلاقى المتزايد لدى (كارتر)، كرد فعل لتلك الوقائع التي تركت آثارا سلبية في نفوس الأمريكيين، وفي مقدمتها فضيحة وترجيت، والتورط في جنوب شرق آسيا، وفضائح التجسس والمؤامرات والاغتيالات التي اتهمت فيها المخابرات المركزية في الولايات المتحدة اللاتينية وأفريقيا وآسيا. وقد انعكس هذا النهج الأخلاقى على السياسة الخارجية لـ “كارتر” وهو ما عبر عنه بالسعى إلى حماية حقوق الإنسان، وتأكيده على أن الولايات المتحدة ستواصل سعيها لإقامة عالم متعدد الثقافة، متعدد الأديان، يتعايش بحرية.
كما برز تأثير البعد الديني في مواقف “كارتر” إزاء إسرائيل، حيث قال في خطاب ألقاه في مايو 1978: “إن دولة إسرائيل هي أولاً وقبل كل شيء عودة إلى الأرض التوراتية التي أخرج منها اليهود منذ مئات السنين … إن إنشاء دولة إسرائيل هو إنجاز النبوءة التوراتية وجوهرها”. واعترف في الخطاب نفسه أن عليه “التزاماً كاملاً ومطلقاً نحوها كإنسان وكأمريكي وكشخص متدين”.
وإذا كان البعض يرى أن الارتباط بين البعدين الأخلاقى والإستراتيجى أكسب سلوك كارتر الخارجى، مصدراً للقوة، بحيث لم يقف البعد الأخلاقى عند كونه مجرد تعبير عن معنويات مجردة. وإنما يجد سندا له في إستراتيجية متكاملة، تقف وراءها مصالح الولايات المتحدة وحلفائها. إلا أن السياسة الخارجية الأمريكية في عهده، تعرضت للنقد، حيث يرى منتقديه أن مثاليته الأخلاقية، كانت سبباً ضعف الموقف الأمريكي في مواجهة الاتحاد السوفيتي، والذى قابل هذا الضعف بتشدد في المواقف تجاه القضايا محل الاهتمام المشترك، وأن هذا الضعف كان سبباً في هزيمة كارتر وانتصار ريجان في انتخابات 1980.
2ـ البعد الديني وإدارة ريجان (1981 ـ 1988):
لم يكن المرشح الجمهورى رونالد ريجان، ظاهرياً، الشخص الذى يمكن لليمين الدينيتأييده في انتخابات الرئاسة عام 1980،لكنه استفاد من منهج الرئيس الأسبق، ريتشارد نيكسون، بالاعتماد على توظيف “إستراتيجية جنوبية” تتبنى سياسات عنصرية مثيرة للفتنة بغرض إقناع الديمقراطيين المنتمين لجماعة “جورج والاس” بالتصويت لمرشح جمهورى. وقد حقق هذا الأسلوب نصراً كبيراً في مؤتمر المعمدانيين الجنوبيين عام 1979،وحل الأصوليون محل المعتدلين في مجالس المعاهدة الدينية والمجالس التبشيرية، كما ركزوا اهتمامهم على الحزب الجمهورى في المحليات وعلى مستوى الولايات وعلى المستوى الوطنى.
وقد شهدت سنوات حكم ريجان صعوداًكبيراً للتيارات الأصولية الصهيونية المسيحية، واكتسب التيار المحافظ اليمينى مداً ملحوظاً في الحزبين الأمريكيين الرئيسيين، وأخذ يدعو لأن تتبع الولايات المتحدة سياسات خارجية أكثر اعتمادا على القوة، مدفوعا بالإيمان العميق برؤى نبوئية لنهاية العالم، في بناء جسور قوية بين القناعات والسياسات على نحو يصبح العالم معه ساحة حرب بين قوى الخير وقوى الشر بالمعنى الحرفي. وترافق مع هذا تأثر التيار الليبرالى الأمريكي بالطبيعة التبشيرية للخطاب السائد على الساحة الأمريكية، فأصبح يدعو لفرض الديمقراطية على الآخرين بالقوة والحماس نفسه الذى تطالب به التيارات التبشيرية بفرض المسيحية على الآخرين.
وباجتماع هذه التيارات أصبح العالم أمام قوة دافعة هائلة للولايات المتحدة لتبشير العالم برسالتها، وهذه الرسالة هي بالنسبة للتيار المسيحي الصهيونى “هرمجدون النووية”، وبالنسبة للتيار التبشيرى الديني “المسيحية”، وبالنسبة للتيار الليبرالى “الديمقراطية”، وبالنسبة لليمين المتشدد “الهيمنة الأمريكية”. والمحصلة النهائية أن الولايات المتحدة تبدو كما لو كانت تتقمصها روح “رسالية” منوط بها”إنقاذ العالم” و”تطهيره”.
وفي عدة مناسبات،أكدالرئيس ريجان اقتناعه بقرب هرمجدون والمجيء الثانى للمسيح وفقاً لمشيئة الرب، كما ورد في نبوءات الكتاب المقدس.وأظهر بصورة دائمة التزامه القيام بواجباته تمشيا مع إرادة الرب، أى العمل بما يحقق نبوءة الرب انسجاما مع إرادته السامية حتى يعود المسيح ليحكم الأرض.ومن ثم فإن توجهه ريجان للإنفاق العسكرى وتردده إزاء مقترحات نزع السلاح النووى يتفقان مع رؤيته المستمدة من الكتاب المقدس.إذ إن هرمجدون التي تنبأ بها حزقيال لا يمكن أن تحدث في عالم منزوع السلاح.
الأمر الذى يؤكد تأثير البعد الديني في توجهات السياسة الأمريكية خلال هذه المرحلة، فالأفكار والمعتقدات الدينية التي يؤمن بها ريجان كانت دافعاً له لتنبي العديد من السياسات الخارجية، كما أنها شكلت في الوقت ذاته مبرراً لتصعيد المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، هذا المواجهة التي قادت في النهاية إلى انهياره، ونهاية الحرب الباردة بين المعسكرين، وانتصار المعسكر الغربي، بأطره القيمية والثقافية، تحت قيادة الولايات المتحدة.
المحور الرابع: البعد الديني والسياسة الأمريكية بعد نهاية الحرب الباردة:
انعكست تأثيرات نهاية الحرب الباردة، على السياسة الأمريكية، خلال عقد التسعينيات، وخاصة في ظل إدارة الرئيس كلينتون (1993 ـ 2000)، فقد كان لا يثق بدور القوة العسكرية منفردة،وتصرف كما لو أن أسلافه ساهموا في الحرب الباردة باهتمامهم المفرط بالاعتبارات الإستراتيجية. ونتيجة لذلك، كثرت في خطاباته في الخارج اعتذارات عن الانتهاكات الأخلاقية الأمريكية وذلك بإلقاء اللوم على الانشغال الأمريكي بالحرب الباردة.
وجمع هذا التوجه بين رفض التاريخ والتحول بعيدا عن الأفكار التقليدية للأمن، وإعلانهالصريح بأن الإخفاقات الأمريكية ساهمت في ظهور الحرب الباردة، وأن معظم التوترات الدولية كانت اجتماعية في الأساس وأنه يتعين أن تركز الدبلوماسية على ما يسمى بالقضايا اللينة. وأصبحت السياسة الأمريكية مدفوعة، بشكل متزايد من قبل السياسات المحلية. وأكد المذهب الجديد للتدخل الإنسانى في السياسة الأمريكية، على أن القناعات الإنسانية جزء لا يتجزأ من التقليد الأمريكي، بحيث تتعين المخاطرة بالثروة وحتى الأرواح، للدفاع عنها في أى مكان من العالم. ولذلك جاءت الدعوة إلى الدفاع عن حقوق الإنسان والقيم الإنسانية، ولو بالقوة باعتبارها مبدأ عاما للمصلحة القومية الأمريكية.
وفي إطار هذه التحولات التي مرت بها السياسة الأمريكية، حتى نهاية الحرب الباردة، نجد أنه بالرغم من انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، إلا أن هذا الانتصار، تواكب مع عدد من التحديات التي كان على الولايات المتحدة مواجهتها، في إطار سعيها لتحقيق أهدافها، ومن بين هذه التحديات: أن انتصارها لم يترتب عليه نهاية المشاكل التي تواجهها في النظام الدولي، كالقضايا الأمنية التقليدية، وقضايا توازن القوي، هذا بجانب تصاعد تأثير أنواع جديدة من القضايا غير العسكرية، على السياسة الأمريكية.
ومن ناحية ثانية، شهد الأداء الاقتصادي تدهورا كبيرا، وفق مؤشرات نمو الناتج القومي الإجمالي ومعدل الادخار، ومستويات الاستثمار، ونوعية التعليم، والتجديد التكنولوجي، والموارد المخصصة للبحوث، وأمام هذا التدهور، وتنامي شعور المواطن الأمريكي بأنه لا يوجد تهديد خارجي يهدد الوجود الأمريكي، اتجهت تيارات من الشعب الأمريكي نحو ضرورة تأكيد الاهتمام بالقضايا الداخلية في المقام الأول حتى وإن ترتب على ذلك الحد من حجم النشاط الأمريكي في الخارج. وفي مواجهة هذه التيارات جاء تأكيد كلينتون على أن السياسة الخارجية والقضايا الداخلية، كل لا يتجزأ، وقال: “كونوا على يقين بأن السياسة الخارجية والسياسة الداخلية هما أمران مرتبطان لا انفصال بينهما في عالم اليوم، فإذا لم تكن قويا في وطنك فإنك لن تستطيع أن تقود العالم الذى بذلنا الكثير من أجل تشكيله، وإذا انسحبنا من العالم فسيوقع ذلك الضرر بنا اقتصاديا في عقر دارنا”.
وهو ما يؤكد المفهوم الجديد للسياسة الخارجية، بأن ما يؤثر على الأوضاع الداخلية ينعكس على السياسات الخارجية للدولة، وتزداد قوة هذا التأثير مع وجود تيارات داخلية قوية تسعي لأن يكون لها دور ليس فقط في السياسة الداخلية، ولكن أيضاً في السياسة الخارجية، وهو ما شهدته الولايات المتحدة خلال هذه المرحلة، مع تصاعد قوة تيارات اليمين الديني والسياسي، وتنامي تأثيراتها على السياسة الأمريكية.
* المركز الدبلوماسي