في غضون شهر أكتوبر من سنة 1975 أقر الملك الراحل الحسن الثاني بحق المغرب في صحرائه الغربية، وأعلن عن تنظيم مسيرة سلمية مكنت من فتح الطريق لاسترجاع الصحراء بعد أكثر من 75 سنة من الاحتلال الاسباني.
إنها المسيرة الخضراء لتأكيد مغربية الصحراء، والتي شملت 350 ألف مغربي اجتازوا الحدود رافعين القرآن الكريم والأعلام الوطنية.
و بإعلان جلالته عن إطلاق المسيرة الخضراء في نونبر 1975 صنع حدث القرن بامتياز، إن على الصعيد السياسي أو على الصعيد اللوجيستيكي والتنظيمي. انطلق 350 ألف مغربي، في نظام وانتظام، من طرفاية إلى العمق الصحراوي “مدججين” بسلاح خاص غير معهود في الحروب، قوامه كتاب الله (المصحف الشريف) والعلم الوطني والإيمان الراسخ بعدالة القضية. وكانت مناسبة برهن فيها المغاربة عن كفاءة لوجيستيكية عالية وبعد استراتيجي جعلت المسيرة الخضراء تتموقع بين مكوّنات الهوية المغربية. إنها تتويج لحرب خاضها الملك الراحل الحسن الثاني مع الجنرال فرانكو حيث أطلق في وجه الجيش الإسباني حربا سلمية جعلته مكتوف الأيدي.
ألف سؤال وسؤال قد يتبادر إلى الذهن بخصوص المسيرة الخضراء بالنسبة للأجيال التي لم يكتب لها معايشة هذا الحدث العظيم.
لماذا قرّر جلالة الملك تنظيم المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء المغربية؟ كيف اتخذ هذا القرار الذي اعتبره قرار العمر؟ ولماذا أحيطت هذه المبادرة الملكية بجدار سميك من السرية والكتمان؟ من سهر على إعداد خطتها الأمنية والتنظيمية واللوجيستيكية والاجتماعية وضمان نجاعتها و فعاليتها؟
هذه أسئلة وأخرى شغلت بال الكثيرين سيما وأن المسيرة الخضراء لفتت انتباه الجميع، عموم الناس والمتتبعين والباحثين في جملة من الاختصاصات.
وقد رأى الكثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع السياسي وسيكولوجيا الجماعات في المسيرة الخضراء فعلا اجتماعيا وسيكولوجياً خاصاً. ورأى عبد الله ساعف، أستاذ العلوم السياسية أن المسيرة الخضراء كانت أوّل إرتعاشة قومية عاشاها المغرب والمغاربة قاطبة بعد الاستقلال.
يحاول الملف الخاص الذي ندعه بين أيدي القراء الأعزاء استعادة أهم تفاصيل وخبايا هذا الحدث العظيم الذي فجّر إجماعاً شعبياً كبيراً جعل بلادنا تخلق شكلا غير مسبوق من النهوض لترسيخ تطلعات الشعب على أرض الواقع وبتلقائية وصدق.
منذ صيف 1975 تدهورت الأوضاع بالصحراء وبلغ هذا التدهور حدة تطلبت إيجاد مخرج عاجل.
فبعد صدور رأي محكمة العدل الدولية انطلقت المسيرة الخضراء، التي كان الغرض منها الضغط على إسبانيا من أجل جرها للمفاوضات بنية التوصل إلى اتفاق في صالح المغرب. ومنذ الإعلان عن انطلاق المسيرة الخضراء أعلن عن بداية المفاوضات التي آلت إلى اتفاقية مدريد في 14 نونبر 1975.
في البداية التقى أحمد عصمان (وزير أول آنذاك) مع “خوان كارلوس” و”آرياس نافارو”، إلا أن هذا اللقاء لم يثمر، وفي نفس الوقت بعث جلالة الملك الراحل الحسن الثاني أحد وزرائه بمعية عضو من ديوانه إلى الجزائر لمقابلة الرئيس الهواري بومدين على أمل إقناعه، وتبين وقتئذ أن اسبانيا عازمة على الدفاع عن وجودها بالصحراء، حتى ولو أدى ذلك إلى مواجهة مسلحة، وفعلا قامت مدريد باستنفار قواتها المسلحة بالصحراء، ورابط 35 ألف جندي اسباني على بعد أقل من 20 كلم من الحدود الفاصلة بين المغرب والصحراء حينئذ، مع تلغيم جزء منها لقطع الطريق على المشاركين في المسيرة.
وفي يوم 3 نونبر التحق رئيس “الجامعة الصحراوية” (الهيأة الصحراوية الوحيدة المنتخبة)، خاطري الجماني، بالمغرب وجدد البيعة بين يدي جلالة الملك في اليوم الموالي، حيث نظم حفل خاص لهذا الغرض بمدينة أكادير.
وألقى جلالة الملك الراحل الحسن الثاني يوم 5 نونبر 1975 خطابا لإعطاء انطلاقة المسيرة الخضراء، إذ أمر المتطوعين ببداية السير في “نظام وانتظام” صبيحة اليوم الموالي (6 نونبر)، وقال في هذا الخطاب: “غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطأون طرفا من أراضيكم وستتلمسون رملا من رمالكم وستقبلون ثرى وطنكم العزيز”.
قبل 6 نونبر بأيام قليلة التقى “كارو مارتينيز”، الوزير بالرئاسة، المكلف بالصحراء، بجلالة الملك الراحل الحسن الثاني بأكادير، وأجرى معه حديثا رأسا لرأس دام ساعات لم يعلم أحد فحواه. وفي اليوم الموالي بدأ تحرك الجيش المغربي بشرق طرفاية نحو الصحراء، 20 ألف جندي بقيادة الكولونيل أحمد الدليمي (ثلث القوات المسلحة وقتئذ) مقسمين إلى 4 وحدات، قادها كل من الكولونيل بنعمان والكولونيل بنكيران والكولونيل المجاوي والكولونيل الوالي) .
آنذاك علم المحافظون الاسبان أن أيامهم بالصحراء أضحت معدودة وأنه لا مناص من الجلاء، فعمل الضباط وضباط الصف الموالين لفرانكو على تسريح 2500 صحراوي يعملون بالمجموعات المتحركة ” تروباس نوماداس” والشرطة الحدودية الاسبانية دون تجريدهم من السلاح ووسائل النقل، حيث نصحوهم بالالتحاق بجهة البوليساريو. و بعض هؤلاء هم الذين شكلوا النواة الأولى لمقاتلي الجبهة.
في خضم هذا الجو العام انطلقت المسيرة الخضراء، التي شكلت في واقع الأمر عدة مسيرات، حيث كان كل إقليم يمثل مسيرة، لها قيادتها وهيكلتها لتدبير شؤونها اليومية، وارتبطت هذه القيادات الإقليمية باللجنة المركزية المكونة من ممثلي مختلف الوزارات والمصالح المركزية.
فتحت كل عمالة وإقليم مكاتب لتلقي طلبات التطوع لانتقاء 350 ألف للمشاركة في المسيرة، وهو العدد الذي يمثل المواليد الجدد كل سنة بالمغرب، مع تحديد “كوطا” مسبقة للنساء، 10 في المائة من مجموع المشاركين ( أي 35 ألف امرأة)، كما تم تحديد “كوطا” إجمالية لكل إقليم، مرتبطة بعدد ساكنته. كما تم تعيين 44 ألف مشارك من الرسميين والمؤطرين والإداريين ، كما ساهم في المسيرة 470 طبيبا وممرضا.
على امتداد 12 يوما عملت 10 قطارات يوميا وبدون انقطاع على نقل المتطوعين من الشمال إلى مدينة مراكش، ومنها إلى أكادير على متن الشاحنات والحافلات التي بلغ عددها 7813. لقد تم نقل المتطوعين من أكادير إلى مخيمات أقيمت لاستقبالهم بضواحي طانطان وطرفاية.
تحركت الموجة الأولى من المتطوعين يوم 23 أكتوبر 1975 انطلاقا من مدينة الرشيدية. وشارك أكثر من 5000 عون مدني (موظفو الدولة والجماعات المحلية) في تأطير المتطوعين علاوة على مجموعة من المنتخبين.
على سبيل المثال لا الحصر، رافق 10 آلاف متطوع من الرباط- سلا، 8 قواد و20 من الشيوخ والمخازنية وطبيبان و12 ممرضا و62 مرشدا اجتماعيا و20 من الوعاظ و63 إطارا وموظفا مدنيا في اختصاصات مختلفة و120 عنصر من الكشفية.
وقام ما يناهز 20 ألف فرد من القوات المسلحة والدرك بتأطيرها وحمايتها والحفاظ على سلامة المشاركين فيها. وبالرجوع إلى الإحصائيات والأرقام المتوفرة تبين أن المسيرة الخضراء تطلبت ما يناهز 20 ألف طن من المواد الغذائية، وأكثر من 2500 طن من المحروقات و230 سيارة إسعاف.
كيف جاء قرار المسيرة الخضراء؟
لقد تأكد أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني اتخذ قرار إجراء المسيرة الخضراء لوحده، ولم يجتمع مع حكومته، وغاب عن المجلس الوزاري طيلة شهر كامل. لم يجتمع جلالته بالحكومة إلا في 18 أكتوبر 1975، أي 18يوماً قبل الإعلان عن المسيرة.
وحسب الباحث هشام الحصيني صاحب أطروحة “الممارسات التفاوضية لدى الدبلوماسية المغربية المتعددة الأطراف: دراسة في مفاوضات مدريد الثلاثية لسنة 1975 “، أن أحمد عصمان أكد أن المسيرة الخضراء تمت بتنسيق واتصال مع جهات عدّة. وفي مقدمتها إسبانيا، ولا سيما كبار ضباط الجيش الإسباني، كالجنرال “دوفليبيس “، وكذلك السياسيين وعلى رأسهم رئيس الحكومة وقتئذ “أرياس نافارو ” ،هؤلاء كانوا مقتنعين بضرورة الاتفاق مع المغرب والجلاء عن الصحراء، باستثناء وزير الخارجية آنذاك “كورتينا ” الذي فضّل التنسيق والاتصال مع الجزائر.
وكان الوفد المغربي المفاوض مع إسبانيا يضم كل من أحمد عصمان (الوزير الأول) وأحمد العراقي (وزير الخارجية) والعربي الخطابي وكريم العمراني وعبد السلام زنيند.
عندما قرر جلالة الملك الراحل الحسن الثاني تنظيم المسيرة استدعى وزير التجارة ووزير المالية وقال لهما: “إن شهر رمضان قد يكون قاسياً، إذ المحاصيل الزراعية كانت متوسطة، فهل يمكنكما من باب الاحتياط تخزين كمية من المواد الغذائية حتى إذا كنا في حاجة إلى عرضها في السوق أمكننا المحافظة على تبوث الأسعار، وليكن تموين يكفي لشهر أو شهرين”. لم يفطنا الوزيران لشيء وهذا ما كان يرغب فيه الملك.
ثم استدعى جلالته الذين سيصبحون إلى جانبه المسؤولين الثلاثة عن المسيرة الخضراء: الجنرال أشبهار الكاتب العام لإدارة الدفاع والجنرال بناني من المكتب الثالث والكولونيل ماجور الزياتي من المكتب الرابع الذين أدوا اليمين بين يدي جلالته بعدم إفشاء السرّ حتى ولو لم يكونوا متفقين على ذلك. ثم شرح لهم جلالته أن المسيرة ستضم 350 ألف مشارك، وهو العدد الذي يولد من المغاربة سنوياً. فشرعوا فوراً في التخطيط، وقد كانوا يدونون كل شيء بأيديهم، بدءاً بإحصاء كمية الخبز والماء والشموع والخيام…
وظلوا يعملون في السر حتى مطلع شهر أكتوبر 1975. وكان لابد من الإسرار للحكومة بذلك، وكذا لعمال الأقاليم حتى يفتحوا في الوقت المناسب المكاتب لتسجيل المتطوعين.
وتكلف بتأطير المتطوعين كبار ضباط القيادة العليا للجيش والدرك والأمن الوطني والقوات المساعدة، سيما وأن جبهة البوليساريو صعدت من تهديداتها بعرقلة المسيرة والهجوم عليها، مما فرض الحرص على اليقظة. أما بخصوص اللوجستيك فقد اضطلع بها مهندسو الجيش، في حين عمل عمال الأقاليم والعمالات (ممثلو جلالة الملك) على تصريف الخطاب الملكي على أرض الواقع وذلك بتسجيل وإحصاء المتطوعين وجرد الحاجيات وتوفير وسائل النقل من حافلات وشاحنات.
وينضاف لهؤلاء 700 رجل سلطة وخلفائهم الذين استدعوا إلى مقر وزارة الداخلية لإجراء دورة تكوينية وتم نقلهم إلى بنكرير حيث تلقوا دروساً في تنظيم وتأطير الجماهير وذلك في سرية تامة ودون علمهم بغاية ذلك، ولم يستوعبوا الأمر إلا عندما سمعوا الخطاب الملكي على الساعة السادسة والنصف مساءاً يوم 16 أكتوبر 1975.
لقد تم بناء معسكرات بطانطان وطرفاية وأيضا بمراكش وأكادير (مدن المرور واستراحة المتطوعين) وتم تشكيل مخزون كبير من المؤن الغذائية والأدوية.
وتم تسخير 300 شاحنة تابعة للمكتب الوطني للنقل، كانت تتنقل يومياً ليل نهار بين وسط البلاد وطانطان وطرفاية لنقل المؤن والأدوية تحضيراً للمسيرة الخضراء. كما سُخّرت 1200 حافلة لنقل المتطوعين.
وقد تم تأمين نقل 23 ألف طن من الماء و17 ألف طن من المواد الغذائية كمخزون احتياطي، كما تم مضاعفة هذه الأرقام بنسبة 2,5 بسبب تمديد فترة المكوث بالصحراء من 21 أكتوبر إلى نهاية نونبر، أي إضافة 63 ألف طن من الماء تقريباً و43 ألف طن من المواد الغذائية. إضافة إلى ذلك تمت تعبئة 10 آلاف خيمة، واقتناء 430 ألف آنية للطبخ وأكثر من 35 ألف غطاء.
من أين استوحى جلالة الملك فكرة المسيرة؟
من أين استوحى جلالة الملك الراحل الحسن الثاني فكرة تنظيم المسيرة الخضراء؟
ظل هذا السؤال شاخصاً في أذهان العديد من المغاربة منذ أن أخذت المسيرة الخضراء مجراها في 6 نونبر 1975، إذ إن البعض منهم، سيما أولئك المحسوبين على زمرة المثقفين، ساروا على درب الاعتقاد أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني حاكى تجارب بعض الزعماء والقادة في تنظيم مسيرات تختلف منطلقاتها ومراميها، خصوصاً فيما يتعلق بالهدف المتوخى منها.
وفي هذا المضمار ذهب البعض إلى الاعتقاد أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني استوحى فكرة تنظيم المسيرة الخضراء من المسيرة الكبرى التي قادها الزعيم الصيني “ماوتسي تونغ” أو من مسيرة الملح الهندية التي قادها وتزعمها “المهاتما غاندي” إبّان الاحتلال البريطاني للهند، لكن لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني رأياً آخر بهذا الخصوص إذ قال جلالته: “في 20 غشت، كان عليّ أن ألقي خطاباً بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب… وعشية ذلك اليوم كنت أتساءل مع نفسي: (ترى ماذا عساي أقول في هذا الخطاب؟)، وفي المساء، بعد أن أديت صلاة العشاء خلدت للنوم، فاستيقظت فجأة في منتصف الليل تراودني فكرة نفذت كسهم إلى ذهني وهي: (لقد رأيت آلاف الأشخاص يتظاهرون في جميع المدن الكبرى مطالبين باستعادة الصحراء، فلماذا إذن لا ننظم تجمهراً سلمياً ضخماً يأخذ شكل مسيرة؟) وهنا أحسست أني قد تحررت من عبئ ثقيل للغاية”.
بعد هذا المنولوغ الذي جلجل في صدر جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، اكتفى جلالته في خطابه لليوم الموالي بالتطرق لبعض القضايا العامة، وباله مشغول بالمسيرة التي شرع في إعدادها توّ انتهاء جلالته من خطابه السامي.
الاجتماع السري مع ممثلي الملك في الأقاليم
جرت العادة بتنظيم اجتماع سنوي بوزارة الداخلية يضم كل عمال الأقاليم لتدارس جملة من القضايا، إلا أنه سنة 1975 توجه العمال إلى الرباط فأخبرهم وزير الداخلية أن اجتماع هذه السنة غير عاد، ثم رافقهم إلى القصر للمثول أمام حضرة الملك.
في تلك الليلة الرمضانية المباركة (26 شتنبر 1975) علم ممثلو جلالة الملك في الأقاليم بأمر المسيرة الخضراء وأقسموا أمام جلالة الملك الراحل الحسن الثاني بالحفاظ على السر، وبمجرد عودتهم إلى أقاليمهم قاموا بحصيلة ما يتوفرون عليه من مخزون المواد الغذائية ووسائل النقل (حافلات وشاحنات) وخيام وأغطية تحت غطاء مهام وهمية لعدم فضح أمر المسيرة.
بعد اجتماع 26 شتنبر توجه 700 رجل ومعاون سلطة بوزارة الداخلية إلى قاعدة بن كرير للخضوع لتكوين مكثف وسريع بخصوص تأطير المجموعات ودروس في المواطنة والوطنية، على غرار ما سبق تطبيقه على المتطوعين لبناء طريق الوحدة في بداية الاستقلال عندما كان جلالة الملك الراحل الحسن الثاني وليا للعهد، حيث ساهم فيها وأنجزت تحت إمرته، وقد خضع 700 من المختارين في ذلك التدريب دون علمهم بأمر المسيرة الخضراء.
لقاء جلالة الملك الراحل الحسن الثاني مع “صوليس”
جاءت مقابلة جلالة الملك الراحل الحسن الثاني مع الاسباني “صوليس” لتحضير الأجواء من أجل مخرج يرضي البلدين معا، وقد تم الاضطلاع على جانب مما دار في هذا اللقاء، عبر محضر أعده وحرره السفير الاسباني بالرباط، في ظل آخر حكومة لفرانكو بمعية “أنطونيو غاميرو” الذي تولى وزارة الإعلام في أول حكومة، شكلها الملك “خوان كارلوس” بعد توليه العرش رسميا كملك اسبانيا.
ومما جاء في هذا التقرير أن “صوليس” حرص على أن يبحث مع جلالة الملك الراحل الحسن الثاني عن مخرج يحفظ مساعي الأمم المتحدة، ويضمن تخلص إسبانيا من ملف الصحراء. وكان جلالته حريصا بدوره على تسوية ودية للقضية مع إسبانيا، اعتبارا لأن تعاونهما مضمون، خلافا لما كان عليه الحال مع الجزائر، إذ كان جلالة الملك يستبعد أي دور للجزائر ويحبذ الاقتصار على تسوية إسبانية ـ مغربية ـ موريتانية.
في هذا اللقاء، حسب تقرير السفير الاسباني، بدأ “صوليس” حديثه بإبراز تفهم الحكومة الاسبانية لصعوبة إلغاء المسيرة الخضراء التي قرر جلالة الملك تنظيمها، غير أنه صرح بأنه من الممكن إصدار الأمر إلى المشاركين فيها بالتوقف، عند اجتياز الحدود ببضعة كيلومترات لا أكثر.
يوم خطاب 16 أكتوبر 1975
يوم 16 أكتوبر 1975، موعد الخطاب الملكي الشهير، كان الحضور بقصر مراكش كبيراً جداً، إذ حضر العديد من الصحفيين من مختلف الدول ومن مختلف القنوات، خاصة الإسبانيين الذين كان حضورهم لافتاً للأنظار. كان الترقب سيد الميدان بفعل الأجواء المشحونة لمعرفة حكم محكمة العدل الدولية بلاهاي. وكان الجميع متلهفا لسماع الخطاب الملكي لمعرفة هل سيعلن المغرب الحرب على إسبانيا أم لا؟
وفي هذا المضمار يقول محمد أقاصيب، مخرج بالتلفزة المغربية: “قال لنا صحفياً فرنسياً ونحن داخل القصر الملكي بمراكش، إذا أطل الحسن الثاني بلباس عسكري، فإنه سيعلن الحرب، وإذا أطل بلباس مدني فسيكون العكس، فإذا بالملك يطل بلباسه الأنيق كعادته معلناً في خطابه عن المسيرة الخضراء” .
ويضيف محمد أقصايب:
“في يوم الغد أُعطيت التعليمات لتبقى وحدة التلفزة المغربية مرابطة بالقصر الملكي بمراكش لمواكبة أنشطة الملك الصحفية. وحينما أنهينا تغطية حوار جلالته مع جريدة إسبانية ولمّا رغبنا في الانصراف خاطبنا جلالة الملك الراحل الحسن الثاني بلباقة ضاحكاً: “بلا ما تخرجو الماتريال ديالكم، راه جميع الخطب واللقاءات ديالي غادي نديرها هنا في القصر داخل هذه القاعة خليو داك كشي ديالكم هنا راه في الأمان”.
وبخصوص البث يؤكد محمد أقاصيب:
“كنا نسرع و نسابق الزمن لحمل الأشرطة المصورة إلى طائرة عسكرية بطرفاية لينقلها الطيّار العسكري إلى مطار أكادير، ومن هناك تنقلها القوات المسلحة إلى القاعدة الجوية العسكرية بسلا ليتسلمها زملاؤنا بالرباط قصد حملها إلى التلفزيون لبثها، وكانت هذه العملية تتم على مدار 24 ساعة على 24 ساعة. وساعد على دقة التنظيم وسير التعاون بين التلفزة ومصالح الجيش أن مدير التلفزة حينئذ، قويدر بناني، هو شقيق الجنرال عبد العزيز بناني.
قرار الحسن الثاني فاجأ مخابرات الدول العظمى
خطرت فكرة تنظيم المسيرة الخضراء للملك الراحل الحسن الثاني شهورا قبل إعلان محكمة “لاهاي” الدولية عن رأيها الاستشاري في ملف الصحراء، علما أن طرح هذه القضية على المنتظم الدولي ظل مطلبا ثابتا تكرر لعدة سنوات.
كما أن خطاب المسيرة لم يكن مرتبطا برأي المحكمة الدولية ولا باستفحال مرض فرانكو، وإنما كان ذانيك الحدثان بمثابة ساعتين، لكل منهما توقيتها الخاص، لكن عقارب كل من الساعتين سجلت التقاء الموعدين.
حسب رشيد الحديكي، صاحب مؤلف متميز بخصوص السياسة الخارجية في عهد جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وهذا ما أكده كذلك الصحفي البريطاني “سيتفان هوغيس ” (Stephane Hughes)، تولدت فكرة تنظيم المسيرة الخضراء لدى الملك الحسن الثاني في مايو 1975 على الأقل”، إذ في حديثه يوم 8 مايو مع إذاعة “فرانس بريس”، لمح إلى ذلك عندما سأله الصحفي عن دواعي وأسباب تجمع القوات المسلحة المغربية على طول الحدود مع الصحراء آنذاك، وكان جوابه أنه بمثابة إجراء وقائي لحماية مسيرة سيقوم بها المغاربة والملك في مقدمتهم، في اتجاه الصحراء، وذلك تحسبا لو قام بعض “المعقدين” بإطلاق مسلسل “تقرير المصير” بالصحراء.
بدأ التخطيط الفعلي للمسيرة الخضراء يوم 21 غشت 1975، حينما أسرّ جلالة الملك الراحل الحسن الثاني بعزمه على تنظيم مسيرة إلى الصحراء لثلاثة عسكريين، “الكولونيل أشهبار ،الكولونيل بناني والكولونيل الزياتي ،حيث كلفهم بالاعتكاف لإعداد مخطط شامل للمسيرة.
وبهذا الخصوص يقول رشيد الحديكي ” على امتداد 20 يوما كان تبادل المعلومات بخصوص الإعداد للمسيرة، بين الرباط والأقاليم، يتم كل ليلة بواسطة أشخاص، لم يسمح لهم باستعمال الورق والكتابة ولا الاتصال عبر الهاتف أو الراديو أو التليكس، فكل المعلومات كانت تمرر بطريقة شفوية تحت جناح الظلام وفي سرية تامة.
وبعد سويعات من إعلان محكمة “لاهاي” عن رأيها يوم 16 أكتوبر 1975، كشف جلالة الملك الراحل الحسن الثاني للعالم عن قراره الرامي إلى تنظيم المسيرة الخضراء، لقد فاجأ الجميع بما في ذلك مخابرات الدول العظمى.
في البداية حدد موعد انطلاق المسيرة يوم 26 أكتوبر للمزيد من الضغط على مدريد لقبول الدخول في مفاوضات، وكان أول رد فعل قامت به الحكومة الاسبانية، أنها سحبت ملف الصحراء بين يدي وزير خارجيتها المعروف بقربه للجزائر، وسلمته إلى الكاتب العام للحزب الوطني (وكان وزيرا آنذاك) “خوسي صوليس رويز”، الذي طار إلى الرباط يوم 21 أكتوبر لمقابلة الملك بمراكش وتحادث معه عدة ساعات. بعد ذلك أعلن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني عن إرجاء انطلاق المسيرة إلى يوم 26 أكتوبر، وعندما اتضح أن المسار يتجه نحو الحصول على اتفاق بين الرباط ومدريد أرجئ موعد الانطلاقة مرة أخرى إلى 6 نونبر لإعطاء مزيد من الوقت قصد التوافق بخصوص المفاوضات.
آنذاك لم تبق الجزائر مكتوفة الأيدي، وإنما كان رد فعلها فوريا، إذ بدأت تلوح بتهديد توقيف صادراتها من النفط والغاز إلى اسبانيا، الشيء الذي دفع التيار المناهض للمغرب في صفوف الحكومة الاسبانية، إلى الدعوة لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن للتصدي للمسيرة الخضراء، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة الاسبانية عن عدم استبعادها لاستعمال السلاح إذا تجاوز متطوعو المسيرة الحدود الوهمية.
في 5 نونبر حضر “أندري ليوين” المبعوث الأممي إلى المغرب وقابل جلالة الملك، وبعد محادثات طويلة حصل الاتفاق على أن خرق الحدود سيكون رمزيا، ولن تصل المسيرة إلى “الدوارة” حيث كانت ترابط الجيوش الاسبانية.
وفي صبيحة اليوم الموالي (6 نونبر) أصدر جلالة الملك الراحل الحسن الثاني أمره بانطلاق المجموعة الأولى من المشاركين، وضمت 44 ألف متطوع، آنذاك وافقت اسبانيا على إجراء المفاوضات وأصدرت الأوامر لجنودها بالصحراء بعدم إطلاق النار.
حضر مبعوث اسبانيا إلى المغرب يوم 8 نونبر من أجل إخبارجلالة الملك الراحل الحسن الثاني بأن الحكومة الاسبانية مستعدة للتفاوض، وانطلقت المفاوضات يوم 12 نونبر بمدريد، في حين عاد المشاركون في المسيرة إلى مخيماتهم بطرفاية وطانطان ومكثوا هناك ينتظرون تعليمات جديدة.
بعد مرور ثلاثة أيام أسفرت المفاوضات عن اتفاق جلاء الصحراء مقابل التزام المغرب.
آنذاك صرح الجنرال “سالازار” قائد القوات الاسبانية للصحفي البريطاني “ستيفان هوغيس”، قائلا :” همي الوحيد هو انسحاب رجالي من الصحراء بكرامة، مرفوعي الرؤوس وترك المغاربة والجزائريين يتنازعون فيما بينهم”.
حين فكر الحسن الثاني في الاستقالة
لم يكن قد دار ببال المغاربة أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني الذي حكم المغرب ما يزيد عن ثلاثة عقود ونيف، قد تخالجه فكرة التنحي عن حكم المغرب، من كان يظن أن هذا الملك العظيم قد يترك فكرة من هذا النوع تحتل تفكير جلالته لحظة، لتصبح شغله الشاغل آنذاك، خاصة وأنه سعى بكل الوسائل إلى تثبيت دعائم الحكم بمملكة العلويين وتحديث المغرب.
صرح مؤنس جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، الراحل “بين بين”، الذي نذر حياته في سبيل ترويق مزاج ملك المغرب آنذاك، أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني كان على أهبة تقديم استقالته والتنحي عن الحكم إذا ما فشلت المسيرة الخضراء في بلوغ أهدافها المنشودة، أي استرجاع الأقاليم الصحراوية. لكن كيف تسللت فكرة التخلي عن حكم المملكة إلى مخيلة جلالة الملك الراحل الحسن الثاني؟
“ماذا كنتم ستفعلون لو أخفق رهانكم على المسيرة الخضراء”؟ كان هذا السؤال واحد من عشرات الأسئلة التي ألقاها الصحفي الفرنسي “إيريك لوران” على جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وبغض النظر عما أفضى به ملك المغرب آنذاك من أجوبة لإطفاء حرقة السؤال، غير أن مضمونها حسب المتتبعين، أخذ طابع اعترافات لم يكن من السهل أن تنطلق على لسان ملك عظيم، فماذا كان سيفعل جلالة الملك الراحل الحسن الثاني لو اخفق رهانه على المسيرة الخضراء؟ يقول جلالته جوابا على ذلك في كتاب “ذاكرة ملك”: “عندما عدت إلى الرباط قادما من أكادير صعدت إلى شرفة القصر لأتأمل اخضرار ملعب الغولف، ونظرت إلى البحر نظرة مغايرة وأنا أخاطب نفسي (لقد كان من الممكن أن لا تعود إلى الرباط إلا للم حقائبك استعدادا للمنفى)، فلو فشلت المسيرة لكنت استقلت، إنه قرار أمعنت التفكير فيه طويلا بحيث كان يستحيل علي أن أترك على الساحة ضحايا لم يكن لهم سلاح سوى كتاب الله في يد والراية المغربية في اليد الأخرى. إن العالم كان سيصف عملي بالمغامرة… وكما نقول عندنا في اللهجة المغربية “ما كان بقي لي وجه أقابل به الناس”.
إن فكرة التنحي عن العرش التي جثمت بثقلها على ذهن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، كان من شأنها أن تشكل أزمة دستورية وسياسية، لكن جلالته كان قد وضع كل الاحتمالات من أجل ذلك.. وجوابا عن الكيفية التي كان من الممكن أن يتصرف جلالته على ضوئها سياسيا ودستوريا، فقد قال ” كنت سأشكل مجلسا للوصاية في انتظار أن يبلغ نجلي سن الرشد، وكنت سأذهب للعيش في فرنسا أو في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالضبط في نيوجيرزي، حيث أتوفر على ملكية هناك”، لكن هل كان جلالة الملك الراحل الحسن الثاني على أهبة الرحيل عن المغرب في حالة فشل المسيرة الخضراء؟، “أجل… وفي هذه الحال كان غيابي سيكون جسديا فقط، لأن المرارة لن تفارقني لاسيما وأنني ذقت طعم المنفى”، يقول جلالته.
أيام عصيبة
حسب المقربين، تغير مزاج جلالة الملك الراحل الحسن الثاني منذ بداية أكتوبر 1975، حيث أضحى سريع الغضب لا يأكل ولا ينام إلا نادرا، يكاد لا يفارق سماعة التلفون.
كان الحسن الثاني يتابع لحظة بلحظة تحركات المتطوعين الـ 350 ألف في المسيرة الخضراء منذ انطلاقة المجموعات الأولى من مختلف جهات المملكة وتجميعها بمخيمات أقيمت بضواحي طرفاية وطانطان، ثم الانطلاق نحو “الطاح” لاختراق الحدود بعمق 15 أو 20 كلم، وإقامة مخيم هناك على مسافة قريبة من موقع تمركز الجيوش الاسبانية. آنذاك تمكنت عناصر من الجيش المغربي من التسلل إلى الصحراء، وقبل ذلك بيومين (فاتح وثاني نونبر) حدثت اشتباكات في شمال الصحراء بين عناصر القوات المسلحة ومقاتلي البوليساريو، الأول أسفر عن سقوط 50 قتيل والثاني عن 37 قتيلا.
يقول الصحفي الاسباني “خافيير توسيل” في إحدى مقالاته الشهيرة، نشرها تحت عنوان “المسيرة الخضراء التي حركت مسلسل استرجاع المغرب لصحرائه الغربية”: لقد جرت مقابلة في 21 أكتوبر 1975، بين الحسن الثاني والمبعوث الاسباني، “خوصي صوليس” لتدارس عواقب قرار المغرب بتنظيم مسيرة جماهيرية سلمية نحو الصحراء الخاضعة آنذاك للحكم الاسباني.. وأضاف أن الملك الحسن الثاني وصف ذلك اللقاء بأنه حديث من “أندلسي إلى أندلسي “”.
وكان صوليس غير مؤهل ديبلوماسيا للقيام بهذه المهمة، إذ لم تكن تربطه أي علاقة بجلالة الملك الراحل الحسن الثاني، ولا يعرف الكثير عن المغرب، فكل سوابقه بهذا الخصوص تدل أنه خرج للصيد ذات مرة رفقة جلالته، إذ لم يبرم أي اتفاق خلال هذا اللقاء، إلا أنه حدد مسار كل الأحداث اللاحقة، وانتهى الأمر بجلاء اسبانيا عن الصحراء.
يقول “توسيل”: خلال هذا اللقاء تبادل الملك والمبعوث الاسباني عبارات كيفت الأجواء ووجهت الخواطر نحو البحث عن انفراج للأزمة التي نشبت بين المغرب وإسبانيا، هذا في وقت كان الجنرال فرانكو قد دخل فترة الاحتضار.”
علما أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، حينما قابل “صوليس” لم يكن يعرف بخطورة الحالة الصحية لفرانكو، وقبل أسابيع كانت هناك دعوة أوربية لقطع العلاقات مع مدريد على إثر إعدام أعضاء من منظمة “إيطا” الباسكية، إذ شنت آنذاك حملة عالمية قوية ضد حكم فرانكو بعد الأحكام القاسية الصادرة في حق أولئك، ضمنهم سيدة حامل. ندد الإعلام ومعه مختلف المحافل الدبلوماسية، شرقا وغربا، بفرانكو، باستثناء بلدين اثنين في العالم أجمع، الشيلي (في عهد بينوشي) والجزائر “(في عهد الهواري بومدين). آنذاك انفردت جريدة “المجاهد” الجزائرية بالقول إن نظام فرانكو ضحية لحملة صهيونية بسبب موقفه المؤيد للعرب، ومن الأسباب التي دفعت الجزائر إلى اعتماد هذا الموقف الغريب آنذاك، الحفاظ على ود وزير الخارجية الاسباني “كورتينا إي ماوري” الممثل للتيار المراهن على الجزائر، المناهض للتيار داخل حكومة فرانكو، الذي كان يريد التخلص من ملف استعماري ظلت اسبانيا تجره معها وجلب لها متاعب في المجتمع الدولي وعمق عزلتها، وكاد أن يلقي بها في فتن داخلية على غرار ما وقع في البرتغال بعد اندلاع ثورة القرنفل.
كان للجزائر آنذاك دافع خاص، الحفاظ على التفاهم مع “كورتينا إي ماوري” بخصوص الصحراء، إذ كان هذا الأخير بصفته وزيرا للخارجية يعتمد بقوة على التزكية الجزائرية لموقف إسبانيا الهادف إلى إنشاء نظام انفصالي بالصحراء، ضدا على المغرب الذي طالب استعادة السيادة على أقاليمه الجنوبية، معززا آنذاك بموقف مبدئي من لدن الجامعة العربية، التي صرح أمامها الرئيس الجزائري الهواري بومدين، في قمة 1974 قائلا بأن الجزائر لا مطلب لها في الصحراء، لا برا ولا بحرا، وإنها تؤيد الاتفاق المغربي الموريتاني، بل زاد على ذلك بتأييدها للمغرب في استعادة سبتة ومليلية من اسبانيا. علما أن التقارب بين “كورتينا” ونظيره الجزائري بشأن الصحراء، كان قد تبلور في محكمة “لاهاي” الدولية منذ مايو 1974، حيث انبرى المندوب الجزائري آنذاك، البيجاوي، لتعزيز الأطروحة الاسبانية بشأن الأرض الخلاء، وكذلك كان الأمر في عدد من المحافل الدولية، إضافة إلى تحريك الأدلة الإعلامية الجزائرية في اتجاه تكريس نظرية تقرير المصير.
ومن أقرب المقربين لجلالة الملك الراحل لحسن الثاني في هذه المرحلة الصعبة، مؤنسه وجليسه “الفقيه بين بين” الذي رافقه على امتداد 33 سنة لم يفارقه خلالها حتى آخر لحظة في حياته، وقد عرف “بين بين” بصراحته وجرأته وعدم تهيب الجلوس في حضرته.
قال “بين بين”: “تغيرت عادات جلالة الملك الحسن الثاني فجأة ولم يعلم أحد سبب هذا التغيير، إذ لم يعد يحلو له أن يقرأ الكتب ويناقش مجالسيه ومحاوريه حول محتوياتها كما كان من قبل، ولم يعد يدخل مع مؤنسه في مساجلات أدبية يتبادلان خلالها قرض الشعر ويتنافسان في الإتيان بالأجود من المعاني والألفاظ، تغير كل هذا وامتلك غضب مستمر جلالته ، وبدأ يقضي فترات طويلة من الليل والنهار في التأمل والتفكير العميق.
أضحى يفضل العزلة وانقطع عن تناول الأكل، وبلغ الحد بالمؤنس إلى محاولة دفعه لتناول ولو ياغورت أو عصير، ورغم استخدام كل ما في جعبته من ظُرف فكاهة ونفس مرحة وذهن يقظ، واستغلال ود وثقة ومحبة جلالة الملك له، لم ينجح مرارا في إقناع الملك بتناول ولو جزء يسير من الطعام خلال تلك الفترة.
ومن اللحظات العصيبة، تلك المرتبطة بسعي جلالة الملك الراحل الحسن الثاني إلى إرغام مدريد “الفرانكاوية” على قبول المفاوضات المباشرة، حيث لم يهدأ باله إلا بعد نيل مراده.”
فتحت التهديد الذي شكلته المسيرة الخضراء، في وقت كان فيه الجنرال فرانكو طريح الفراش، لم يبق أمام اسبانيا إلا قبول المفاوضات مع المغرب وموريتانيا، والتي ستنتهي باتفاقية 14 نونبر 1975 .
وحسب “موريس باربيي” (Maurice BARBIER) أمر جلالة الملك (الراحل) الحسن الثاني ليلة 6 نونبر بإبلاغ مدريد بأن المسيرة الخضراء ستواصل طريقها، اللهم إذا قبلت الحكومة الاسبانية بداية المفاوضات الثنائية فور تسليم الصحراء للمغرب وإقرار سيادته عليها، ولم يستبعد الملك آنذاك مواجهات بين متطوعي المسيرة والقوات الاسبانية إن لم تقبل إسبانيا خوض المفاوضات، وأضاف جلالة الملك الحسن الثاني… وفي حالة حدوث مواجهات ستضطر القوات المسلحة المغربية للتدخل، وكان هذا بمثابة تهديد مباشر وصريح، علما أن الرباط نفت ما أقر به “موريس باربيي” الذي استمر في الدفاع عن صحة ما نشره، مضيفا أن الوزير بنهيمة هو الذي تكلف بإبلاغ الرسالة المتضمنة للتهديد إلى سفير اسبانيا بالرباط، والتي كشفت مدريد عن فحواها بعد عرضها على مجلس الأمن في اجتماعه الطارئ يوم 6 نونبر 1975، ورغم هذا قامت اسبانيا كذلك بتكذيب أن تكون عرضت الرسالة المذكورة على مجلس الأمن لكنها لم تنف فحواها (جريدة “لومند” 8 نونبر 1975، ص 3 ) .
وحسب معلومات مستقاة من أحد الوزراء السابقين فضل عدم الكشف عن هويته، خلال هذا اليوم استشاط غضب جلالة الملك، وظل متعصبا منذ منتصف نهار 6 نونبر إلى حدود منتصف ليلة 7 نونبر، ولم يجرؤ أحد على مكالمته، وحاول كل من كان بحضرته الاختفاء عن نظره بأية وسيلة، ولم يهدأ غضبه إلا حينما بلغ إلى علمه أن الاتجاه المساند للمفاوضات باسبانيا أخذ يسيطر على الموقف. آنذاك، وعلى حين غرة، تغيرت ملامح جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، حيث بدا منشرحا يلاطف الحاضرين بأكادير، بين مكالمة هاتفية وأخرى، إذ لم يكف هاتفه وجهاز الاتصال “الراديو” عن الرنين، فمرة يتكلم العربية وأخرى الفرنسية، وأحيانا يستعمل عبارات وألفاظ بالانجليزية أو الاسبانية. ويضيف الوزير.. وصباح يوم 8 نونبر حضر الوزير الاسباني، المكلف بالصحراء، “أونطونيو كارو مارتينيز” إلى أكادير رفقة السفير الاسباني بالرباط لمقابلة جلالة الملك قبل الشروع في مباحثات مع الوزير الأول (أحمد عصمان) ووزير الخارجية (أحمد العراقي) آنذاك، حيث تم الاتفاق على استئناف المفاوضات. وفي يوم 9 نونبر أعلن دلالة الملك الراحل الحسن الثاني عن وقف المسيرة الخضراء ومطالبة المشاركين فيها بالعودة إلى المخيمات معلنا أن الغاية منها قد تحققت. وهذا ما حصل، إذ عادوا إلى مخيمات، طرفاية وطانطان في انتظار مآل مفاوضات مدريد وظلوا على أهبة الاستعداد للانطلاق من جديد نحو الصحراء في حالة فشلها.
رغم أن حدة غضب جلالة الملك الراحل الحسن الثاني قد انخفضت بشكل ملحوظ على امتداد يومين، سرعان ما استشاط واستطار بدءا من الساعات الأولى من ليلة 9 نونبر عندما علم أن المختار ولد داداة تسرع في المساومة وحاول إفهام الملك أن بإمكانه الانحياز إلى الجزائر أو البوليساريو، وقام الرئيس الموريتاني بمقابلة الرئيس بومدين يوم 10 نونبر وطلب منه هذا الأخير، من حيث لا يحتسب وبلهجة شديدة، الاختيار بين الوقوف بجانب المغرب أو بجانب الجزائر بدون لف ولا دوران، هذا ما لم يستسغه المختار ولد دادة، ثم سعى إلى لقاء جلالة الملك، وهو ما تم يومي 12 و13 نونبر بمراكش. وبعد هذا اللقاء التحق وزير الخارجية الموريتاني حمدي ولد مكناس، بالوفد المغربي المفاوض بمدريد، ولم ينتظر الرئيس بومدين طويلا للقيام بالرد على هذه المستجدات، حيث قام يوم 11 نونبر بتفقد جيشه المرابض بـ “بشار” غير بعيد عن الحدود الجزائرية المغربية.
في ذلك اليوم غضب جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وارتفعت درجة غضبه عندما علم ببداية الحملة الإعلامية التي شرعت فيها ألمانيا الشرقية ضد المغرب، وكان رده سريعا، إذ قطع علاقاته الدبلوماسية معها صبيحة يوم 13 نونبر، ويضيف مصدرنا.. وجه جلالته إنذارا إلى جميع الدول المحسوبة على المعسكر الشرقي آنذاك.
ارتسمت الابتسامة على محيا جلالة الملك الراحل الحسن الثاني صبيحة 14 نونبر مع الإعلان عن فحوى اتفاقية مدريد، والذي كان بمثابة انتصار دبلوماسي مغربي موريتاني، ثم زادت فرحة جلالته عندما بلغ إلى علمه تشجيع واشنطن لهذه الاتفاقية ودعمها.
وهذا ما تأكد في لقاء نائب كاتب الدولة، “ألفريد أطيلتون” بجلالة الملك الراحل الحسن الثاني في 22 أكتوبر، وكذلك سفر مدير المخابرات المركزية الأمريكية بالنيابة “فيرنون والترز” إلى مدريد.
وبعد الإعلان عن اتفاقية مدريد، سمحت الإذاعة الجزائرية للبوليساريو بتخصيص حصة دائمة لـما سُمّي لحظتئذ بـ ” صوت الصحراء الحرة” موجهة ضد المغرب، وحصة أخرى لـ “صوت كاناريا الحرة موجهة ضد إسبانيا، الشيء الذي أثار من جديد موجات متتالية من غضبات جلالة الملك الراحل الحسن الثاني المستطيرة.
المسيرة الموازية
موازاة مع المسيرة الخضراء المدنية والعلنية، عمل الحسن الثاني على الإعداد لمسيرة أخرى، لكنها سرية وعسكرية. إذ نادى رجل ثقته آنذاك أحمد الدليمي وكلفه بالعمل على التسلل إلى الصحراء برجاله، وذلك لأنه أيقن منذ أن أعلنت محكمة “لاهاي” عن رأيها وقدمت الأمم المتحدة تقريرها في موضوع الصحراء سنة 1975 ، أن الأرض ستعود لمن يحوزها بمجرد أن يغادرها الجنود الإسبان. وذاك ما كان، إذ ما أن تم الإعلان عن وقف المسيرة الخضراء حتى كان الجيش المغربي بقيادة أحمد الدليمي قد رسخ أقدامه على جزء من تراب الصحراء بدءا من الشرق (عملية أحد).
عندما كانت الأنظار موجهة صوب المسيرة الخضراء، انطلق أحمد الدليمي بجيشه لضمان التواجد الفعلي على أرض الصحراء، فقبل الإعلان عن وقف المسيرة، كان قد توغل على مسافة 100 كلم في الصحراء، متقدما نحو “الفارسية” مرورا بـ “الجديرية” ثم “الحوزة” فـ “المحبس” وصولا إلى السمارة دون أدنى مقاومة.
كم كلفت المسيرة الخضراء؟وكيف تم تمويلها؟
حسب الكاتب “موريس باربيي”ن صاحب كتاب “نزاع الصحراء”، كلفت المسيرة الخضراء زهاء 300 مليون دولار، أي ما يقارب 3 ملايير درهم (300 مليار سنتيم) تمّ توفيرها بواسطة اكتتاب وطني ومساعدة خارجية آتية أساسا من المملكة العربية السعودية.
لقد تحمل المغاربة جزءا كبيرا من هذا المبلغ بواسطة اكتتاب وطني نادى به جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وقد أخذ في واقع الأمر شكل “ضريبة” طبقت على الأشخاص المعنويين (الشركات) والأشخاص الذاتيين، تقمصت شكل اقتراض ضخ أكثر من 108 مليار في خزينة الدولة في أقل من 3 أشهر.
أما حسب أحد الاقتصاديين المغاربة فقد كلفت الصحراء، بدءا من سنة 1975 على الأقل، 950 مليار دولار، علاوة على أكثر من 250 مليار درهم كمصاريف مدنية. ويذهب فؤاد عبد المومني إلى القول بأنه تم صرف أكثر من 120 مليار دولار (ما يناهز 1200 مليار درهم) منذ 1975 لسد المصاريف العسكرية والمدنية المرتبطة بالصحراء.
علما أن موضوع كلفة نزاع الصحراء ظل موضوعا نادرا ما يأتي الإعلام المغربي على الاهتمام به، ذلك في وقت ظل فيه ملف الصحراء يكلفنا سنويا، حسب تقدير عبد المومني، ما يمثل 10 بالمائة من الناتج الوطني.
ومهما يكن من أمر تعد الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لملف الصحراء كلفة ضخمة جدا، سيما على امتداد فترة حرب الصحراء، التي دامت 3 سنوات كوضعية حرب واضحة، و30 سنة كوضع “لا حرب لا سلم”، لقد تطلبت من المغرب والمغاربة صرف مئات الملايير من الدراهم.
الكولونيل “بوزيان” مزود متطوعي المسيرة بالماء و الخبز
لم يكن من السهل ضمان الحاجيات اليومية لأكثر من 350 ألف شخص يتحركون على الدوام في اتجاه الصحراء، سيما توفير الماء الصالح الشروب والخبز.
ويعتبر الكولونيل عبد السلام بوزيان المتقاعد حاليا، أحد الطيارين العسكريين، الذين ارتبطت حياة متطوعي المسيرة بتنقلاتهم الجوية أكثر من مرة، يوميا بين الرباط والجنوب. فقد اضطلع الكولونيل عبد السلام بوزيان بمهمة تزويد المتطوعين بحصتهم من الخبز اليومي وبالماء الشروب.
كان الكولونيل ينقل كميات ضخمة من الخبز يوميا لإطعام ما يناهز 400 ألف شخص، وذلك على متن طائرته العسكرية “C-130H”.
وفي هذا الصدد قال الكولونيل عبد السلام بوزيان ” أنا الطيار، الخباز الأول والطيار الكراب الأول في المغرب.. أفتخر بذلك لأنني كنت أزود المشاركين في المسيرة الخضراء بخبزهم اليومي وأروي ظمأهم.. وقد قضيت أكثر من 350 ساعة في السماء لسد احتياجاتهم من الخبز والماء”.
عباس أنجار قائد مجموعة يعيد شريط مشاركته
كان عباس أنجار مشرفاً على إحدى المجموعات البيضاوية المتطوعة للمسيرة الخضراء، أجرينا معه دردشة لاستذكار جوانب وطرائف من مسيرة القرن، وما أن التقينا معه انبسجت الكلمات من فيهه كالبركان بفعل اعتزازه بالمشاركة في المسيرة الخضراء من قلب الحدث. يقول عباس أنجار: “بعد النداء الملكي السامي الذي وجهه جلالة الملك الراحل الحسن الثاني للمغاربة حول التطوع لتحرير الصحراء، تملكتني الرغبة الجامحة في المشاركة مع إخواني المغاربة في هذه المسيرة العظيمة (..)كُلّفت باۘلإشراف عن مجموعة تضم 45 فرداً وسلموني شارة حمراء علقتها على يسراي علامة على المهمة التي أنيطت بي”.
ويصمت عباس برهة ليضيف:
“من فرط الروح الوطنية العالية، جاءت الأفواج المشاركة في المسيرة أربعة أيام قبل الموعد المعلن عنه، وفي اليوم الموعود انطلق 35 ألف متطوع من الدار البيضاء وحدها على متن القطار في اتجاه مراكش، ومن هناك تم نقلنا عن متن شاحنات وحافلات صوب مدينة أكادير، وبعد فترة من الراحلة انطلق الموكب في اتجاه مدينة طرفاية، مروراً ببويزكارن، فكلميم باب الصحراء، ومنها إلى طانطان مدينة العبور.
هناك، وعلى بعد 20 كلم عن المدينة بالقرب من المرسى (طانطان الشاطئ) أخذنا قسطاً من الراحة قبل التوجه إلى مدينة طرفاية للاستقرار في خيام عملاقة نُصبت على حد البصر. وزعت هذه الخيام حسب الأقاليم.
وكان كل مسؤول عن فريق يتسلم المؤونة من رجال السلطة والدرك ليوزعها على المتطوعين. مكثنا في مخيم طرفاية ما يزيد عن 10 أيام إلى أن أعلن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني يوم 6 نونبر 1975 يوماً لفتح الصحراء وتحطيم الحدود الزهمية..”
ويستمر عباس أنجار في حكايته، يصمت برهة للتذكير تم يستأنف حديثه:
“كان الاقتراح الأول أن يتقدم البيضاويون المسيرة لكن الوزير الأول وقتها، أحمد عصمان، اعترض على الأمر، مفضلا أن يتقدم متطوعو “قصر السوق (الراشيدية) وورزازات” على اعتبار أن البيضاويين لا يتقنون المشي على الرمال، وكذلك كان. علماً أن العديد من المشاركين ظلوا ممتطين الشاحنات والحافلات يحملون المصاحف والأعلام الوطنية ويهتفون بمغربية الصحراء، وحدهم متطوعو قصر السوق وورزازات من ترجلوا. في تلك الأثناء كان رجال السلطة والدرك يشجعوننا ويذكون حماسنا الوطني الجياش لتحطيم الحدود الوهمية، مؤكدين حمايتهم لنا.”
يصمت عباس قليلا ويسترسل:
“يوم 6 نونبر 1975، حطّمنا الحدود الوهمية ووطأت أقدامنا رمال الصحراء. وبعد أن تقدم أحمد عصمان ورفع العلم المغربي توغلنا في الصحراء مسافة، وفجأة حلّقت فوق رؤوسنا أربع طائرات حربية إسبانية من نوع “موغال”، لتهدئة النفوس حومت مروحية مغربية، كان على متنها أحمد عصمان لطمأنتنا، وبعد لحظات حطت المروحية وترجل الوزير الأول”.
يفكّر عباس ملياً ويستأنف:
“بعد 15 يوماً راجت في المخيم أخبار مفادها أن خطري ولد سعيد الجماني وخليهن ولد الرشيد بايعا جلالة الملك وأن الجنرال فرانكو على فراش الموت، وبعد يوم أو اثنين وجّه جلالة الملك خطاباً للشعب وأعطى تعليماته برجوع المتطوعين إلى طرفاية.
رجعنا إلى ضواحي طرفاية ونصبنا الخيام، فيما استقرت الوفود الأجنبية المشاركة في المسيرة بمدينة طرفاية.”
نزهة الصقلي وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن
كنت إحدى المشاركات في المسيرة الخضراء
شاركت نزهة الصقلي في المسيرة الخضراء في إطار استفادة النساء من الكوطا التي منحت للمرأة والمحددة في 10 بالمائة. وظلت الوزيرة تذكر القائمين على الأمور بالجماعات المحلية بضرورة استخلاص درس المسيرة الخضراء من أجل منح نساء المغرب حق المشاركة في تدبير الِشأن العام الوطني والمحلي.
أقرت نزهة الصقلي أكثر من مرّة أن ذكريات المسيرة الخضراء ستظل راسخة لديها، سيما وأن مشاركتها فيها شكلت مناسبة للتعرف عن قرب على أحوال المغاربة حينما كانت في عزّ عطائها النضالي وفي حاجة لاختبار إمكانياتها بشكل مباشر، خصوصاً وأنها كانت قد عادت للتو من الديار الفرنسية. لذا، تقول نزهة الصقلي : “في نونبر 2008 كانت المسيرة الخضراء معركة كبرى جعلتني أتعرف على مستويات الانخراط الشعبي في قضايا الوطن، وذلك فيما يشبه المعجزة”.
لبّت نزهة الصقلي النداء الملكي، إذ كان حزبها (التقدم والاشتراكية)، بعد الخطاب الملكي، وجّه دعوات المشاركة بكثافة لمناضليه ومناضلاته. آنذاك اعتبرت “المناضلة نزهة” أن المغرب، خلال معركته من أجل استكمال وحدته الترابية، قام لأول مرّة في تاريخه بمنح كوطا للنساء حتى يتمكّن من التواجد إلى جانب الرجال في هذه الملحمة ليصنعا معا لحظة التحول الذي تعيش البلاد على إيقاعه اليوم. أكدّت نزهة الصقلي أن النقاش الذي كان سائداً، قُبيل الإعلان عن المسيرة الخضراء، ميزه مطلب أساسي، وهو ضروري أن يوضع أمر تحرير الصحراء واستكمال الوحدة الترابية بين يدي الجماهير الشعبية لأنها معنية أساساً بحرية الوطن، وهذا المطلب كان ضمن التعبيرات السياسية الهامة التي طبعت حينها خطاب حزب التقدم والاشتراكية. وكانت الدعوة للمسيرة الخضراء حقاً عبقرية، لأنها حملت إشارة دالة التقطها الشعب المغربي.
آنذاك، تقول نزهة الصقلي كان إقبال المتطوعين على مكاتب التسجيل منقطع النظير، وقد اعتبر المسجلون منهم أنفسهم محظوظين للمشاركة في هذا الحدث العظيمة مادام أن العدد كان محدوداً فقط في 350 ألف مشارك.
وبخصوص التنظيم، أقرّت نزهة الصقلي أنه كان في أعلى مستوياته مقارنة مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمغرب وقتئذ. لقد فكرّ المنظمون في كل شيء تقريبا، من فرشاة الأسنان إلى قنينات الماء، مروراً بالحقائب ومستلزمات الطعام والأغطية.
وتذكر نزهة الصقلي جملة من الذكريات، خصوصاً وأنها كانت دائمة الحركة والتواصل مع المشاركات في المسيرة انطلاقاً من رغبتها الخاصة في اكتشاف عوالمهن. فكانت دائمة السؤال، ،آنذاك كانت مسكونة بإشكالية ضرورة الرفع من قيمة المرأة ووطنيتها في مجتمع ذكوري. واحتفظت نزهة الصقلي بإحدى الذكريات ظلت محفورة في ذهنها، إذ قالت لها إحدى النساء: “ أنا شاركت باش ما يبقاش يكولو العيالات 5 بريال“. ترسخت هذه المقولة لدى نزهة الصقلي لأنها تعكس قوّة إرادة الانعتاق التي ميّزت مشاركة النساء في المسيرة الخضراء.
ومن الطرائف التي احتفظت بها نزهة الصقلي أنها لاحظت لأن القائمين على الأمور فكرّوا في كل شيء بخصوص المشاركين، لكنهم أغفلوا بعض الحاجيات الخاصة بالنساء، علماً أن المرأة لها حاجيات تتميز بخصوصية معينة تهمهن وحدهن دون الرجال، إلا أن الساهرين على التنظيم لم يلتفتوا إلى تلك الحاجيات الدورية التي تحتاج لها كل النساء وفي موعد محدد مرّة في كل شهر، علماً أولئك الساهرين على تدبير أمور المشاركين في المسيرة كانوا كلهم رجالا، ومن الطبيعي إذن أن يفوتهم الانتباه إلى تزويد النساء المشاركات ببعض لوازمهن الخصوصية.
أحمد السنوسي السفير الأسبق بالجزائر والممثل الدائم للمغرب في الأمم المتحدة سابقا “قال لنا سيدنا لما خرج من عند فرانكو: “هذا مسمار الهند“”
أحمد السنوسي، السفير الأسبق بالجزائر والممثل الدائم للمغرب في الأمم المتحدة سابقا من القلائل الذين علموا صدفة بإعداد المسيرة الخضراء.
ففي حديث سابق للصحافة أكد أحمد السنوسي أنه لمّا بدأ جلالة الملك التفاوض مع الإسبان حول الصحراء كان التحاور مع فرانكو بدون جدوى، كحديث مع أصم أبكم. وفي هذا الصدد يقول السنوسي:“لمّا كنا نرافق سيدنا إلى مدريد كان يخرج من عند فرانكو ويقول لنا جلالته: “هذا مسمار الهند“، علماً أن الصحراء شكلت القاعدة التي اعتمد عليها الجنرال للسيطرة على مقاليد الحكم بإسبانيا، وهذا ما جعل استرجاع الصحراء صعباً في بداية الاستقلال، كما أن المغرب منذ 1956 بدأ بالمطالبة بالصحراء وشرع في طرح الملف في الأمم المتحدة، وهذا ما أكده خطاب جلالة الملك المرحوم محمد الخامس في محاميد الغزلان والذي خصصه لضرورة استكمال وحدة المغرب وتحرير أقاليمه الجنوبية.
ويضيف أحمد السنوسي، أن المسيرة الخضراء كانت سرية والتحضيرات لها كانت تتم في كتمان بعد أن قرّر الملك خوض حرب سلمية ضد فرانكو المحتضر وكان كل شيء مرهونا بما سيجري في الأيام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة قبل توقيف المسيرة.
ويقرّ أحمد السنوسي، وكان سفراً للمغرب بالجزائر وقتئذ، أنه تم إخبار هواري بومدين قبيل المسيرة، وهذا ما أقلقه كثيراً.
ولأحمد السنوسي طريفة تأكد أنه علم بخبر كان من الممكن أن يقوده إلى العلم بالإعداد للمسيرة إلاّ أنه لم يعره الاهتمام اللازم. إنها واقعة حدثت قبل الإعلان عن المسيرة الخضراء بحوالي ثلاثة أو أربعة أشهر على أكبر تقدير، وهاهي الواقعة كما رواها أحمد السنوسي:
“كنت في الرباط والتقيت بأحد أصدقاء الدراسة في الديار الفرنسية، وهو “بيرنار ليفي”، وبعد السلام لم يمهلني وطرح علي السؤال التالي:
“هل تستعدون لحرب؟”
فكان جوابي بالنفي مع الاستغراب الكبير.
لكنه أردف وجدّد إلحاحه قائلا:
“ولماذا اقتنيتم أكثر من 350 ألف غطاء خاص بالجيش؟ ”
ورغم استمرار النفي لم يستسلم صديقي للأمر “.
ويسترسل أحمد السنوسي قائلا:
“في تلك الليلة التقيت جلالة الملك، وتحينت الفرصة المناسبة فأخبرت جلالته بفحوى الحديث الذي دار بيني وبين صديقي ليفي، فكان رد جلالته أنه فعلا هناك استعداد لخوض حرب ونحن بصدد طبع 350 ألف مصحف (قرآن) “.
لم يفهم أحمد السنوسي المغزى ولا المرمى من قول جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وفي صباح اليوم الموالي يلتقي بصديقة ليفي ثانية الذي زاده غموضاً على غموض و حيرة على حيرة عندما سأله قائلا:
“لماذا اتجه الجنرال الزياتي إلى تكساس (هيوستن) لزيارة أضخم مستودع للقوات الأمريكية قصد البحث عن أكياس بلاستيكية صلبة ومتينة يمكن قذفها من الطائرات على علو منخفظ، بحجم 5 أطنان وهي تحوي الماء ” علماً أن الجنرال الزياتي وقتئذ كان مكلفاً بالعتاد.
في المساء التقى أحمد السنوسي جلالة الملك وأخبر جلالته بما علمه من صديقه ليفي.
في ذلك المساء يقول السنوسي: “وجدت في قاعة الانتظار بالقصر الملكي الجنرال بناني والجنرال القادري و الجنرالالوياتي و الجنرال زوياب و الجنرال بنسليمان وساوتهم شكوك حول حضوري (…) ولمّا دخل سيدنا قال لهم جلالته: “السنوسي عندو أخبار غريبة ” ثم أمر الجميع بأداء القسم للحفاظ على سرّ المسيرة الخضراء قبل الإعلان الرسمي عنها من طرف جلالة الملك بشهرين أو ثلاثة “.
وكان الفضل لأحمد السنوسي في مشاركة وفد من شباب عائلات أمريكية في المسيرة الخضراء.
من طرائف المسيرة الخضراء
– من المصادفات الغريبة أن 2000 من المتطوعين ساهموا في إحداث مدرج لهبوط الطائرات بالقرب من مخيم طرفاية خلال يومين فقط، وذلك بنفس المكان الذي سقطت فيه طائرة الكاتب الفرنسي الشهير “سان إيكسوبيرى” في أحد أيام سنة 1926.
وذهب البعض إلى التساؤل لماذا لم يتم التفكير في تمثيل المشاركين في المسيرة، ولو تمثيلا شرفيا في المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء، وحتى في وفد المفاوضات الحالية، وذلك باعتبارهم الذين أعطوا الانطلاقة لآلية جديدة في التاريخ لاسترجاع المسلوب بطريقة سلمية. لقد تكبدوا التكدس جماعات في الشاحنات ولم يعبؤوا بالبرد القارس ولا بالحرارة الشديدة.
– في صبيحة اليوم الموالي لانطلاق المسيرة (7 نونبر) قال جلالة الملك الراحل الحسن الثاني:
” إن الأجيال القادمة ستدرس “المسيرة الخضراء” مثل ما يدرسون المسيرة الكبرى لصديقنا ماوتسي تونع، علما أنه، آنذاك كانت الماركسية اللينينية و”الماوية” (نسبة لماو)، ضاربتين أطنابهما في صفوف الشبيبة المدرسية والحركة الطلابية”.
– استقل صحفي إسباني سيارة أجرة (طاكسي) من أكادير للالتحاق بالمسيرة الخضراء في طرفاية. وعلى بعد مائتي كليومتر من أكادير سمع سائق الطاكسي خطاب الملك الراحل الحسن الثاني الذي أعلن فيه أن المسيرة قد أدت مهمتها، وطلب من المشاركين فيها العودة. فتوقف السائق على الفور وعاد على أعقابه. فاندهش الصحفي الإسباني و قال: “ما الأمر؟ ولماذا لا تستمر في المسار؟” فرد عليه السائق: ” لقد أمر ملكنا بتوقيف المسيرة الخضراء والعودة، وعليّ الامتثال لأوامر سيدنا “.
– رجل يتجاوز عمره الثمانية عقود قطع أكثر من 1000 كيلومتر مسافراً من بني ملال إلى طرفاية لينقل خروفين كهدية منه إلى متطوعي المسيرة الخضراء.
– إمرأة عجوز سافرت من الراشدية إلى طرفاية من أجل أن تعطي لابنها المتطوع في المسيرة التمر وغطائين.
– لم تكن طرفاية تتوفر على مطار، لكن عمل الجيش على تهيئة أرضية لهبوط الطائرات. وفي إحدى الليالي كانت الرؤية ضعيفة جداً بسبب الزوابع الرملية وتعذر هبوط طائرة عسكرية من نوع “س 130 ” محملة بالمؤمن، فابتكر أحد الضباط فكرة لتسهيل الأمر على الربان ، إذ جمع كل السيارات وأمرها بالوقوف مصطفة وإشعال أضوائها وبهذه الطريقة أضاءت مضمار الهبوط وحطت الطائرة بسلام.
امحمد بوستة الوزير السابق وعضو المكتب السياسي لحزب الاستقلال
“المسيرة الخضراء معطى جديد في تحرير أراضي المستعمرات أبدعه الملك الحسن”
في عمق عاصمة النخيل وبين ثنايا رياضها الساحرة يتربع رجل من العيار الثقيل على عرش مملكته الفريدة، التي لم يبرحها ولم يرضى عنها بديلا، قامت الجريدة بزيارة خاصة إلى السيد امحمد بوستة ، واحد من أبرز القادة السياسين الذين وسموا حضورهم بقوة في المشهد السياسي المغربي، وفي إطار الملف الخاص الذي تتولى الجريدة إنجازه بخصوص الذكرى المجيدة للمسيرة الخضراء المظفرة،تم اختيار اسم امحمد بوستة، كمشارك في المسيرة وأحد المدافعين باستماتة عن قضية وحدتنا الترابية وفي مقدمتها الصحراء، في هذا الحوار الحميمي الذي نهلنا فيه من معين ذاكرته الغصة مجموعة من التفاصيل والأحداث التاريخية المرتبطة بذكرى المسيرة الخضراء المظفرة وما علق بها من شوائب وتفاصيل حية كما يرويها السي امحمد بوستة بكل عفوية ودونما تكلف مستحضرا أحلى وأقوى فترات الزمن الجميل بما لها وماعليها والكثير منها ما أفضى عنها لأول مرة .
ـ ونحن نخلد الذكرى العزيزة ذكرى المسيرة الخضراء، لا شك أستاذي أن شعور المغاربة قاطبة يشع فرحا وغبطة بهذا الإنجاز التاريخي المجيد، فكيف يمكن تصور شعوركم وأنتم أحد أكبر رجالات السياسة عايشوا الفترة عن قرب؟ ثم كيف بدأت هته الفكرة الملحمة وكيف انتهت؟
الحقيقة أن فكرة المسيرة هي كما تفضلتم ملحمة يفتخر بها المغرب وهي في مجموعها وفي كنهها، في الحقيقة عمل من صنع ملك المرحوم الحسن الثاني رحمه الله، الذي رأى فيها مناسبة لإعطاء المغرب نوعا من الإشعاع بالنسبة للوسائل التي يقع بها التحرر، الحقيقة أن هذه القضية من صنعه بصفة أساسية، ولابد من التذكير كيف بدأت وكيف انتهت؟ فهته مسائل ربما تكون مطولة لكن لابد من الإشارة فقط إلى أن قضية المسيرة كانت تراود الحسن الثاني منذ زمن، وللتذكير المسيرة الأولى التي عرف المغرب كانت بالضبط في 1960 لما وقعت قنبلة أمريكا وكيف أن المغاربة وفي طليعتهم علال الفاسي رحمه الله ،قمنا بمسيرة في الدار البيضاء للاحتجاج على القنبلة الذرية التي فجرتها فرنسا في “الركان”،وهته أرض مغربية يطول الكلام فيها، لكن لابد من الإشارة إلى هته القضية، فيما يتعلق بمسيرتنا هذه ماتسمى بالمسيرة الخضراء، كانت مسبوقة بعدة عمليات فيما يتعلق بي شخصيا في ذلك الوقت ولمدة سنوات كلها كان علال الفاسي رحمه الله مشغولا بقضية الحدود وقد أصدر عدة مجلات وكتب في هذا الصدد، وكانت دائما هته القضية تراوده قبل سفره الذي كان مبرمجا له ـ مع الأسف كان ذلك سفره الأخيرـ، رافقته فيه وكان من جملة الأمور التي يعدها أساسية بالنسبة له في عمله هي الكلام عن الصحراء، لأنه حينها وصلتنا أخبار تفيد بأن أسبانيا في ذلك الوقت كانت تهيئ عملا تصنع منه نوعا من الاستقلال الداخلي للسكان، لكن بالسيطرة أكثر على المنطقة ، فكان علال الفاسي رحمه الله، وتبين من بعد أن جلالة الملك الحسن الثاني كان على علم كذلك بهذا العمل، الذي تقوم به إسبانيا في ذلك الوقت، بعدما كانت تهيئ للسيطرة بصفة قانونية أو شبه قانونية على هته المنطقة، فكان علال الفاسي كما قلت لما ذهبنا إلى إيران، حينها هو ذهب كي يحضر للذكرى المائوية الإثنى عشر مئة، بعد موت سيبويه لكن في الرجوع كانت له وقفة في الكويت، وكان نداء الكويت فيما يتعلق بالصحراء، لما رجعنا إذن كان هناك اتصال بجلالة الملك الحسن الثاني، فقدم حزب الاستقلال مذكرة في 25 يونيو 1974 لأن علال الفاسي رحمه الله توفي في 13 أو14 ماي.
ـ أقاطعه، نستطيع القول أن الأمر كان قد سبق التفكير فيه؟
كما قلت كان جلالة الملك على بينة من العمل الذي نقوم به وهذا هو الوقت الذي بدأ فيه التهييئ للمسيرة، كان مولاي الحسن رحمه الله مشغولا بها وينظر كيف يمكن أن يفك هته القضية، هذا من ناحية العمل العام بصفة عامة، لكن بصفة مدققة لابد من التذكير بأن كل الطرق التي كان ينبغي أن تتبع أتبعت من طرف جلالة الملك الحسن الثاني، وكأنه متحكم بها بدقة وخصص لها حيزا لضبط كل نقطة من النقاط التي كان من المفروض أن يقوم بها، أولا راسل الجنرال فرانكو، وكان عبد اللطيف الفيلالي، سفيرنا في مدريد وقدم رسالة لفرانكو من طرف جلالة الملك يخبره فيها أنه لاينبغي على إسبانيا أن تشرع في هذه القضية لبسط سيطرتها الكلية على هته المنطقة، لأنها منطقة خاضعة للمغرب، ففرانكو لغا هذا الكلام، فانتقلت هذه القضية إلى الأمم المتحدة وسنرجع عندها فيما بعد لأنها مسألة أساسية، لكي يفهم الناس أطوار هته القضية المتعلقة بالمسيرة وكيف أنها سارت بصفة مبرمجة ومدققة، منها ماهو عن طريق الصدف ومنها كذلك ماهو مضبوط بصفة مدروسة، المغرب بصفة عامة كان قد تجزأ إبان الاستعمار إلى عدة أطراف، في أواخر القرن 19 من طرف الفرنسيين بصفة خاصة والإسبان كذلك فيما احتلوه من أجزاء مغربية، فالتحرير الذي سيقع لتلك الأطراف، جرى هو الآخر بصفة مجزأة، منطقة الحماية الفرنسية ومنطقة الحماية الإسبانية ثم منطقة طرفاية إلى حدود 1958 ثم سيدي إفني 1969، فبقيت الأطراف الأخرى التي هي الصحراء الغربية ومازالت هناك أطراف أخرى و هي الصحراء الشرقية وهذه مسألة أخرى سيأتي أناسها في وقت آخر، جلالة الملك رحمه الله لما وضع هذه القضية لدى الأمم المتحدة، الإسبان في ذلك الوقت قالوا بأن هذه الأرض هي أرض خلاء، ولما تم احتلالها كانت أرضا خلاء، فتوفق “أسطودو” لدى الأمم المتحدة فرفع القضية إلى محكمة العدل الدولية لاهاي، لكي تبث ما إذا كانت هته الأرض أرضا خلاء، أم لها اتصال بالمغرب؟.
ـ باختصار ماذا وقع في هته الفترة بالذات؟
بعد الحكم وباختصار تبين بأن هذه الأرض لم تكن أرضا خلاء لما احتلتها إسبانيا لكن تربطها روابط البيعة مع ملوك المغرب من جهة، ثم الروابط القبلية مع موريتانيا، فقرر الحسن الثاني في ذلك الوقت أن يقوم بالمسيرة، وهي الوسيلة التي سنرجع إليها كيف عرفت أنا هته المسيرة بصفة خاصة؟ ـ هذا ماتطلبونه مني لا ؟ـ من ذكريات لدي في هذا الحدث، فكما قلت بعثنا نحن في حزب الاستقلال بمذكرة في 25 يونيو 1974 بعدها بمدة بعث إلينا مولاي الحسن، عبد الرحيم بوعبيد وأنا عن طريق مولاي أحمد العراقي الذي كان وزير الخارجية حينها، فاتصلنا به ونحن نجهل الموضوع، فكنت أترقب وكأن شيئا ما سيحدث لكن أجهل تفاصيله بالضبط، فكان إذن الاتصال بمولاي الحسن رحمه الله، ـ عبد الرحيم وأنا وأحمد العراقي ـ، فنزلنا عنده بمقر كان يضع فيه خرائط المغرب، وبعض الأوراق ثم قال سوف أطلعكم على سر لكن ليس قبل أن تؤدوا يمينا، فأديناه ، وهذا الأخير أنا دائما أحمله معي وهو لجلالته رحمه الله وبخط يده، يقول فيه الشيء الآتي:”باسم الله الرحمن الرحيم أقسم بالله العظيم أن أكتم السر وأنفذ الأمر لإنجاح عملية القدر بقيادة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني والله ولي التوفيق والنصر” ـ يطلعني على الوثيقة ويقول هذا توقيعه رحمه الله وبخط يده ـ، فأطلعنا على ماكان يهيؤه من ترتيبات للمسيرة،لأن ذلك كان يتطلب في البداية تفكيرا، وقد سبق وأن ابتدأت الكلام بشأنه، لكن سأتممه فيما يتعلق بالأمم المتحدة، فيما يتعلق بالتهيئة من الناحية العملية، كان رأيه بأن المغرب كله سيشارك في هته القضية ، وأننا سنقوم بمسيرة الغرض منها تحرير هته المنطقة، لكن التهيئ لذلك يتطلب مجهودا وعلينا كمغاربة جميعا أن نكون مجندين ومتعاونين، أما فيما يخصكم أنتم فأنا متيقن بأنكم مقتنعون بضرورة هذا العمل لكن لابد من أن يشرح أكثر في الخارج، فطلب منا ـ عبد الرحيم بوعبيد وأنا ـ كما طلب من قادة آخرين في أحزاب سياسية أخرى أن يشاركوا في تفسير هذه القضية، هذا من الناحية الاشهارية، من الناحية العملية تحرير هته القضية، أعتبره ـ وهذا شيء سبق وأن قلته وكتبته ـ ، أنه معطى جديد بالنسبة لتحرير أراضي المستعمرات وهذا ما أبدعه مولاي الحسن، إنه إبداع خاص حقيقة، ووسيلته وكيفيته مسألة مهمة، فهو نهج ذكي وموفق، فكان صراحة موفقا في هته القضية.
ـ في إطار الترتيبات دائما ماذا عن مرحلة الأمم المتحدة؟
الأمم المتحدة لما وضعت القضية أمام أنضار محكمة العدل الدولية، قالت هته الأخيرة أن الروابط بين المغرب وهته المنطقة هي روابط البيعة ومع موريتانيا روابط قبلية، فقرر مولاي الحسن تنفيذ هذا الأمر، لأن الإسبان رفضوا أي قرار من ذلك، وكانت هته هي الطريقة التي سارت بها، إضافة إلى كل هذا، لما تقررت المسيرة وبدأ الإعلان عنها في 15 أكتوبر، حرص على أن تسير بسرعة وبصفة قانونية، فوقع نوع من الضجة في الأمم المتحدة لأن 350 ألفا من الناس ربما يصطدمون بجيش الإسبان، وهذا سيخلق بالمنطقة نوعا من الخلل والاضطراب، الذي من شأنه أن يخلف نتائج وخيمة، فاجتمع إذن مجلس الأمن بصفة مستعجلة ومن الصدف كان يترأس ذلك المجلس مندوب الاتحاد السوفياتي، فقرر مجلس الأمن أن المسيرة التي بدأت عليها أن تتوقف، لكن المستعمر وهو إسبانيا عليه أن يتفاوض مع المستعمر الذي هو المغرب وموريتانيا ـ حسب كلام محكمة العدل الدولية ـ ، في الحين وهذا هو سبب زيارة”كيرت فالدهايم” في ذلك الوقت للمغرب، ولم يذهب إلا بعد أن دشن المسيرة لكن في نفس الوقت تقرر كي تكون هناك مفاوضات وهي مسألة أساسية، لأنه مازال لحد الآن يقال أن المغرب مستعمر جديد، في حين أن المستعمر هم الإسبان والمستعمر هو المغرب، وهذا قرار مجلس الأمن وبالفعل نفذ القرار بالمفاوضات التي جرت بمدريد مابين إسبانيا من جهة والمغرب وموريتانيا من جهة أخرى، وكان ذلك هو الوفد الذي ترأسه محمد عصمان كرئيس للحكومة صحبة أحمد العراقي كوزير الخارجية وسفيرنا في مدريد عبد اللطيف الفلالي، فنتج عن تلك المفاوضات اتفاقية مدريد في 14 نوفمبر 1975 وهته الأخيرة تقول بأن هذه الأرض وجب أن ترجع لأصحابها الحقيقيين في ظرف معين ينتهي في 28 فبراير1976، وبالفعل جرت عدة مفاوضات ووقعت المعاهدة وسارت نحو التطبيق، وتماما يوم 28 فبراير الملك بعث بالوفد الذي سيمشي إلى هناك يترأسه أحمد بنسودة، فرفعوا راية المغرب وانتهت في الحقيقة هنا الأطوار المتعلقة بالإجراءات الدولية والقانونية، فكانت هذه الكيفية التي بدأت بها المسيرة، وكيف انتهت من الناحية القانونية.
ـ أكيد أن تجربة كهته تحتوي على الكثير من الوقائع مما تختزنه ذاكرتكم، منها الطريف والمؤلم وكذا المؤسف ربما …و..، فهلا استطعتم استحضار تلكم الأحداث والوقائع التي لربما لم تعلنوا عنها سابقا؟
ـ يجيب مبتسما ـ في الحقيقة هي كثيرة وفي نفس الوقت مؤثرة، وذكرت منها مثلا اللحظة التي قرر الملك فيه أن يقوم بهذه المسيرة وأخبرنا بذلك، فكان هو بنفسه متأثرا بها، فنحن كنا نرى فيها عملا مهما جدا، فأنا شخصيا كنت أرى بالنظر إلى الحالة العامة التي كان عليها المغرب، أن هته المسألة من شأنها أن ترجع المغرب متحمسا من جديد للقضية الوطنية، وأنه وصل إلى وقت توجب أن يكون فيه الالتحام وتوحيد الصف والكلمة الواحدة، فهذا تأثر أول. التأثر الثاني عمليا لما ذهبنا إلى هته المسيرة في لحظة كان فيها التأثر بالغا، فلما وصلنا مع كل ذلك الكم من الناس ومن ضمنهم أحمد عصمان ـ هنا يشير لي إلى الصورة في إطار كبير التي كانت في زاوية الغرفة وبالصدفة يقول وجدتيها هنا ـ ففي الوقت الذي قطعنا فيه تلك الأسلاك الشوكية، كانت تلك لحظة مؤثرة وفي الوقت الذي تقرر فيه أن نقوم بالركعتين فالرجوع إلى الله تعالى قضية أساسية، وهذه كلها مسائل في الحقيقة تركت في أثرا كبيرا، ويمكن لي هنا أن أفتح قوسين وأقول أن ذلك التأثر الذي تأثرنا به حينها وجدت صداه فيما بعد، أي في حدود 1981 و 1982، عندما ذهبت لكي أنوب عن جلالة الملك الحسن الثاني، في دعوة رسمية لزيارة الفلبين، والتي لم يستطع الحضور إليها لأسباب تهمه وتهم الشعب المغربي، ولما دخلنا إلى العشاء الرسمي الذي جمع السفراء والوزراء كانت هناك فرقة الآلة الموسيقية بها ذكور وإناث فلبينيين الذين، فوجئت بهم يرددون فجأة أغنية “العيون عينيا” ـ يردد بنشوة وابتسامة الأغنية لآخرها ـ فتأثرت أيما تأثر كيف لفرقة فيليبينية أن تغني هته الأغنية، فهته كانت مناسبة تأثرت فيها كثيرا ـ يضحك ـ وهذا شعور لم يسبق أن أعلنت عنه، ولكن استحضرته الآن بمناسبة ذلك الجو الذي خلق ساعتها، فالصراحة تأثث المغرب حينها بجو من أعظم مايكون، فإذا كانت فقط نتيجة هته المسيرة المشرفة بعدما مر المغرب من عدد من المشاكل منها الانقلابات العسكرية والمحاولات الأخرى إلى آخره، ليرجع من جديد إلى الشط وهذه مسألة أساسية وصحية في نفس الوقت.
ـ في هذا الإطار، هل نهج تدبير ملف الصحراء قد انحرف عن المسار الذي دشنته المسيرة الخضراء أو ظل عن سكته دون أن يحيد عنه؟
لا أظن أنه ظل عن سكته، ثم أنه بالنظر للظروف الظروف التي كان يعيشها المغرب في السابق، من صعوبة وحرب باردة، وكثرة الكتل هذا شرقي وهذا غربي وهذا شيوعي و..، حيث كان المغرب مصنفا في جهة وهذه حقيقة لابد من ذكرها والجزائر في جهة أخرى، ولاننسى أن الجزائر بعد تحريرها، الذي ساهم فيه المغرب وتلك مسألة أخرى، كانت سائرة مع مايسمى بالتقدميين، فيما كان المغرب مصنفا في اتجاه آخر، بالإضافة لكونه قطع مراحل صعبة من مراحل الانقلاب الأولى والثانية ثم الثالثة لسنة 1973 …، على العموم حالات اضطراب عامة كانت تسود البلاد حتى الوزراء يحكامون فيها، حيث كان الفساد والرشوة وكانت من أصعب الفترات التي مر منها المغرب، لوضع هته القضية في الميدان الدولي وشرحها وهذا ما استغلته الجزائر بمكر كبير، ولهذا أنا لما وصلت إلى الخارجية تبين لي أن الجزائر تستغل كل الأمور “الطايبة والخضرا” كما يقال والتي يفسرون فيها الأمور بشكل خبيث عن المغرب والحقيقة هي هذه، لكننا تغلبنا على هذا الوضع.
ـ كانت مرحلة توليكم حقيبة الخارجية من أصعب الظروف التي كان على المغرب وقتها أن يدير ملف الصحراء من منطلق صراع إيديولوجي أملته اعتبارات الحرب الباردة، فكيف تدبرتم هذا الأمر؟ وكيف احتويتم الأزمة إن صح التعبير؟
كما سبق وأن ذكرت أن المغرب كان في وضع لايحسد عليه، بالنسبة للرأي العام الدولي حقيقة صعب، فلما وصلت إلى الخارجية في أكتوبر 1977 ، وقبل ذلك كما أشرت كانت هته المسألة مسبوقة بطلب الحسن الثاني رحمه الله من قادة الأحزاب السياسية لكي يعملوا على شرح هته القضية، فلما كنا نذهب لشرح وضع المغرب بما أنه كان يطالب بحقه، كان ينظر إلينا بمقياس ذلك البلد الذي تبلورت لديهم فكرة ما عنه، في حين أن الجزائر في ذلك الوقت كانت في أوج “عظمتها” أو ماتعتبره عظمة، وفي هته القضية وهي كذلك من جملة المسائل التي اطلعت عليها فيما بعد، ومن الجيد أن يعرفها الناس هي التقييم الذي قامت به الجزائر للعزم على مواجهة المغرب بذلك العنف، وهذا ما اطلعت عليه فيما بعد مباشرة بعد ولوجي للخارجية من خلال الوثائق السرية التي كانت حينها، فالجزائر كان تقييمها منصبا حول أربع نقط أساسية، فهل الجزائر ستواجه المغرب وتخلق الجمهورية وتعمل من البوليساريو أداة لمحاربة المغرب؟ تبين لهم من خلال التقييم أن المغرب مازال غير قادر، كون الجيش المغربي بعد الانقلابات التي وقعت لاوجود له، ومن الناحية السياسية الملك لايتوفر على حكومة شعبية، باستثناء التكنوقراط وليس هناك أي حزب مشارك، إذن ليست هناك لاقوة عسكرية ولاشعبية التي بإمكانها المواجهة ، زد على ذلك أن الجزائر في ذلك الوقت كانت تعتبر أن إسبانيا لن تتحالف أبدا مع موريتانيا كي تواجه المغرب، وحسب اعتقادها فإن موريتانيا لن تتحالف أبدا مع المغرب ضد الجزائر، وهذا ماتبين فيما بعد في لقاء جمع الرئيس بومدين والمختار ولد دادة، واحتقروه لماذا يتحالف مع المغرب، والمسألة الرابعة أن الجزائر ببترولها والأكثر من هذا هي المدخل لإسبانيا للعالم الثالث لايمكن أن تقوم إسبانيا بشيء مع المغرب ضدها، ليتبين بعد ذلك أن كل هذه نقط ـ يسكت فأقاطعه جوفاء ليردـ تماما هي جوفاء، لأنه لما نادى الملك بالمسيرة الجيش تجند، وقد ضبطها أكثر لما نادى على الأحزاب السياسية كي تشارك في الحكومة أو قصد المساعدة في قضية المسيرة، فكلنا تجاوبنا معه وبدون استثناء، ثم أن موريتانيا لما حكمت محكمة العدل الدولية وطلب منها الملك كي يكون هناك نوع من التوحيد والتفاوض الجماعي مع الإسبان، في الحين الموريتانيون قبلوا واستمرت المفاوضات وهو ما تبلور في اتفاقية مدريد، وأخيرا إسبانيا لم تخضع لتلك الرؤية كون الجزائر هي مدخلها إلى العالم العربي، بل ذهبت في الطريق الذي كان من اللازم أن تمشي فيه، وهذه هي الأسباب الحقيقية وهكذا جرت الأمور والحقيقة أنها كانت صعبة في البداية فوجدنا بأن المغرب مقطوع في عدد من الأمورـ أقاطعه مرحلة حرجة يقول ـ جدا جد
ـ يبرز إسم امحمد بوستة كأحد أهم المطلعين عن قرب، بملف الصحراء المغربية الذي مازال يحتفظ في عقله وقلبه بمعطيات على قدر كبير من الأهمية، فماهو أهم إنجاز في نظركم خدم القضية الوطنية بشكل فعال؟
بالشكل الفعال، أظن أولا وقبل كل شيء، أنني كشخص ولا حتى في إطار الحزب الذي أنتمي إليه، كان عنصرا من العناصر ولاشك المهمة للسير وراء الملك وهذا الإنجاز وأعتبره مسألة أساسية لأن المغرب كما قلت بعدما خرج من الخطر الذي كان فيه، والالتحام الذي كان مع الملك في قضية جدية وغاية في الأهمية، فهذا إنجاز، عمليا أعتبر بأن العمل الذي قمنا به بتوجيهات من مولاي الحسن، هو أولئك الناس الذين تم تغلييطهم في الأول إذ كان لابد من توفر مجهود كبير، ولدينا في هذا شخصين اكتسبناهما في تلك المدة كلها، لأن عدد امن الناس كانوا “مغلطين” ومايزالون لحد الآن لكن هم يتراجعون شيئا فشيئا، مثلا “سيكوتوري” ، هذا الأخير كان ضدنا تماما ولكن بالإقناع وبوسائل التفسير والشرح من طرف الملك ولاحتى المجموعة التي كانت متواجدة هناك، أصبح سيكوتوري من المدافعين الكبارعن قضيتنا، صدام الحسين رحمه الله هو الآخر في وقت من الأوقات كان ضدنا، هذه كلها إنجازات لا في الميدان الإفريقي ولا العربي كان لها تأثير كبير، هناك مسألة أخرى يمكن أن ينظر إليها بجانب من الأهمية هي الموقف الذي اتخذه مولاي الحسن في نيروبي حكمة منه، لأننا كنا على وشك أن يصدر علينا حكم نهائي في إفريقيا لكي نخرج، وكان موقفه في نيروبي رغم أنه لم يفهم بالشكل الصحيح عند بعض الأوساط، موقفا حكيما جدا وله بعد نظر.
ـ أوضحتم سيدي قي وقت سابق لبعض المنابر الإعلامية أن الموقف الدولي من قضية الصحراء كان سابقا”أفضع”، بسبب الحرب الباردة وحملة الجزائر الهوجاء ضد حق المغرب في استرجاع صحرائه وتغيير الوضع لمصلحة المغرب، فهل هذا الكلام مايزال صالحا في ظل الأجواء والمتغيرات الآنية التي يشهدها ملف قضيتنا الوطنية؟
في الحقيقة أنه وقع تغيير كبير فيما يتعلق بقضية الصحراء، لأن أولئك الناس الذين تم تغليطهم فهموا بأن الكيفية التي عولجت بها هته القضية سواء في منظمة الوحدة الإفريقية ولا بالنسبة للتعامل مع الجزائر، كان فيها حيف في حق المغرب، فعدد من التراجعات بالخصوص فيما يتعلق بالدول الإفريقية، ثم عدد من الدول في أمريكا اللاتينية وهذا مجهود كبير قامت به الدبلوماسية المغربية، زد على ذلك مواقف المغرب في مسائل أخرى كالمؤتمر الإسلامي والدور الذي قام به المغرب في قضية فلسطين والقدس الشريف، لا بالنسبة لجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله ولا بالنسبة لجلالة الملك سيدي محمد السادس، أعطى للمغرب صورة مشرفة لدى الآخرين عن المصداقية والجدية، ولذلك التغيير الأساسي وقع الآن.
بعض الفرص حقيقة ضيعناها ومن جملتها الوقت الذي قال فيه جيمس بيكر2001 أن هته القضية لايمكن أن يكون حلها إلا سياسيا وأن احترام سيادة المغرب ووحدته الترابية يجب أن تحترم، كما أضاف كلمة في توصيته أنه بعد خمس أو ست سنوات، سيقع استفتاء والمغرب لم يسرع في قبول هذا الكلام، في نظري كان يجب حينها على المغرب أن ينهي هته القضية أي 2001 بقبول مقرر الأمم المتحدة الأول، الذي سطره جيمس بيكر وكانت القضية قد فضت لولا الجزائر والبوليساريو، فكانت رسالة لعبد العزيز بوتفليقة تقول له هذا شيء غير مقبول، وكانت هذه فرصة لكن أظن الآن أنه مع المقترح المغربي في الحكم الذاتي هي كذلك مسألة مهمة من اللازم أن ينضاف إليها عمل وعمل أقول إيجابي لأنه عندما نسمع في كل الدول أن هناك مصداقية وأن هذا هو الحل الوحيد المتوفر، فليس علينا أن ننتظر أكثر من هذا كي نطبقه، في نظري كان علينا منذ زمان أن نطبق مسألة الحكم الذاتي على المغرب بكامله، فقضية الجهوية، ليس فقط الجهوية الموسعة بل نظام جهوي يجب أن يكون في المغرب بأكمله، ونتبعه باستفتاءات، وهذا أمر قمت بدراسات بشأنه وقمنا بندوة كبيرة ومهمة جدا في مؤسسة علال الفاسي رحمه الله، وتبين لنا بأن الجهوية أو النظام الجهوي في المغرب نافع جدا لا من الناحية الاقتصادية ولا من الناحية السياسية ولا حتى العملية وكذا من ناحية إدماج الأطر، ومن الناحية الاقتصادية لنرى الأمثلة التي لدى جيراننا كالإسبان وغيرهم لأن النمو الاقتصادي يتم بالنظام الجهوي، وفي نفس الوقت نحل مشكل الصحراء لأنه إذا طبقنا فيها هذا الحكم الذاتي الذي نتكلم عنه الآن نطبقه في المجموع ونكون بالتالي قمنا بعدة أشياء في عمل واحد لكن أظن أننا في الطريق.
ـ أخيرا أستاذي نرجع إلى الحدث الذكرى ما الذي يمكن أن تمثله المسيرة الخضراء لدى الأجيال الآن؟
أولا وقبل كل شيء هته ملحمة، أو كما يقولون أسطورة، لكن بالنسبة للعمل الذي قام به مولاي الحسن في التفكير والاهتداء إلى هذه القضية في وقت كان يعرف فيه المغرب حالة من التشتت والتشرذم رد بها الصف ووحده، بالنسبة للأجيال الصاعدة أو القادمة يرون فيها عملا مغربيا ابتدعه عنصر من عناصر التحرير، فهذا الأخير وقع في ربوع الدنيا، هناك من قام به في الهند على يد غاندي في شكل مقاومة سلمية، وليماوماو قاموا به بالسواطير، وفي أماكن أخرى بالمقاومة والسلاح، أما المغرب فقد قام بالمسيرة الخضراء لتحرير جزء من أرضه بصفة سلمية وحكيمة جدا، ينظر إليها الجيل الصاعد بمغزى أن المغرب عندما يتجه إلى هدف معين بعزيمة وبجدية، لابد من أن ينجح في ذلك وسوف ينجح إن شاء الله، ورغم كل الأزمات فالأجيال الصاعدة يجب أن لا تيأس، صحيح أن هناك أزمة الشغل، ولم تعد هناك تلك التربية العائلية ولا حتى تربية الخلايا الحزبية، لكن عند الضرورة فإن الشعب المغربي والشباب المغربي في عمقه سيكون في الأحسن إن شاء الله.
الفيلالي حاجي علي : أصغر متطوع في المسيرة الخضراء
“كل المكاتب رفضت تسجيلي للمشاركة لصغر سني”
“غدا إن شاء الله ستخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطأون طرفا من أراضيكم وستلمسون رملا من رمالكم وستقبلون ثرى من وطنكم العزيز” كان هذا هو الخطاب الملكي إلى أوقد حماسة 35 ألف متطوع من ربوع المغرب في مسيرة سلمية حاشدة نحو الصحراء المغربية، سلاحها القران الكريم وشعارها العزيمة والإرادة وحب الوطن. بعد 35 سنة إذن، من هذا الحدث العظيم في تاريخ المغرب المعاصر نحاول في هذه الدردشة أن نسترجع فصول تلك اللحظة التاريخية المتميزة بعيون أصغر متطوع مشارك بالكاد وجد مقعده إلى جانب شيوخ وكهول، وان دل ذلك عن شيء فإنما يدل على وحدة جميع المغاربة بمختلف مشاربهم وفئاتهم حول العرش العلوي وعزيمة الثاقبة للدفاع عن الوطن مهما كلف الثمن.
كيف جاءت مشاركتك في المسيرة الخضراء؟
بعد أن سمعت خطاب صاحب الجلالة الحسن الثاني رحمه المتعلق بتنظيم المسيرة الخضراء رأيت الناس يتسابقون نحو مكاتب التسجيل بمدينة طانطان، فتأثرت بهذا المشهد الرائع؛ وبدأت أجول بين هذه المكاتب للتسجيل لكن الجميع رفض تسجيلي لصغر سني، هنا شعرت بحرج شديد ورأيت أن أمنيتي قد تتبخر. وفي صباح احد الأيام توجهت إلى مكتب بالقرب من العمالة ووجدت موظفا واقفا أمام باب المكتب ينتظر أن يأتيه شخص واحد ليسجله وبذلك يقفل السجل لأنه لم يصل بعد إلى العدد الذي عليه أن يسجله فسجلني وأغلق السجل.
هل كنت تدري، وأنت صغير السن إلى أين أنت ذاهب؟
في البداية لم أكن أعرف شيئا عن المسيرة ولم أكن ادري إلى أين سيذهب المشاركون، لكن بعد مرور الأيام بدأت أحاديث الناس في مجالسهم فقط عن المسيرة وعن المشاركون فبدأت أعرف أننا سنذهب إلى الصحراء المغربية لتحريرها سلميا من الاستعمار الاسباني.
بعد تسجيلك كيف كان شعور والديك؟
بعد أن ظفرت بمقعد للتسجيل والمشاركة في المسيرة الخضراء عدت إلى البيت وأخبرت أمي وإخوتي الصغار، أما والدي فقد كان في تلك الفترة متوفيا ( رحمه الله). والدتي كانت تخشى علي كثيرا وكانت تشعر بالخوف من المصير المجهول الذي ينتظرني خصوصا واني صغير السن لم يتجاوز سني بعد 14 سنة، لكنني كنت أطمئنها خلال تلك الفترة.
من معك في هذه الرحلة من معارفك أو أقربائك؟
في الفترة التي كنت أتجول بين مكاتب التسجيل للبحث عن فرصة للمشاركة التقيت شابا يكبرني بثلاث سنوات يدعى بلال وكنا سوية نبحث عن مكتب يقبلنا، فتمكن هو من التسجيل في مكتب وأنا تم تسجيلي في مكتب آخر. بعد ذلك أنا ذهبت في شاحنة رفقة مجموعة من الأشخاص الذين لم أكن اعرف أيا منهم، لكن خلال الرحلة أصبحنا أسرة واحدة وحظيت منهم بعناية خاصة لأنني كنت أصغر عنصر من بينهم.
ألم تشعر بالخوف خصوصا وانه في تلك الفترة تسربت إشاعة مفادها أن الجيش الاسباني سيقصف المشاركون في المسيرة الخضراء؟
لا لم أشعر بالخوف أبدا، بل بالعكس كان كل المتطوعون مسرورون بالمشاركة في جو حماسي منقطع النظير. ولم نكن نخشى من اسبانيا أو من جيشها.
ماذا حدث قبل بداية الرحلة نحو الصحراء المغربية؟
قبل صعودنا إلى الشاحنات والتوجه نحو الصحراء المغربية وقفنا في طوابير كل مجموعة أمام الشاحنة التي ستقلها وتم توزيع الأغطية علينا ثم ( مصاحف) القرآن الكريم وقنينة ماء وورقة عليها بيناتنا الشخصية ورقم الشاحنة التي ستنقلنا إلى الصحراء المغربية.
ماذا حدث فوق الشاحنة وانتم في الطريق؟
فوق الشاحنات كان هناك ازدحام كبير بين المشاركين، وفوق الشاحنات تم تقسيم هؤلاء المتطوعون إلى مجموعات. وترأس مجموعتنا شيخ كبير يتجاوز عمره الستينيات، لكنه لا يقرأ ولا يكتب فعينني مساعدا له أدون له في دفتر خاص أسماء عناصر مجموعتنا وأسجل الحصص اليومية للمؤونة التي يحصل عليها المتطوعون.
ماذا كانوا يعطونكم من مؤونة؟
في الشاحنة بعد خروجنا من طانطان أعطونا ست علب من السردين وخبزتان وقنينة ماء من حجم 1.5 لتر
متى غادرتم مدينة طانطان؟
بعد صلاة المغرب استقل الجميع الشاحنات وتوجهنا نحو مدينة السمارة، لكن في الطريق وقعت لنا بعض الحوادث حالت دون مواصلة المسير خصوصا وان الليل أرخى سدوله فتوقفنا في أبطيح.
ما هي هذه الحوادث التي وقعت لكم في الطريق؟
كانت الطريق غير نحو السمارة غير معبدة وكانت هناك رمال كثيرة وقفت حاجزا أمام الشاحنات التي انغرست عجلاتها في هذه الكثبان الرملية فنزل جميع الركاب للبحث عن أعواد الحطب ووضعها أسفل العجلات لتتمكن الشاحنات من مواصلة الطريق ولما وصلنا أبطيح كانت الساعة تشير إلى حوالي العاشرة ليلا فأمضينا الليل هناك. وفي الصباح الباكر أمرتنا السلطات المغربية بالرجوع نحو طانطان لان مليشيات البوليساريو كانت تنتظرنا في الطريق ونصبت كمينا لنا لأنهم كانوا على علم أن المتطوعين في المسيرة الخضراء من مدينة طانطان كانوا متوجهين نحو السمارة. لكننا لم نرجع إلى طانطان، بل ذهبنا إلى مكان بين مدينة الوطية والبلاية ونصبنا خيامنا هناك.
كم بقيتم هناك؟
يقينا في ذلك المكان إلى أن خطب صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني إلى المتطوعين وأمرهم بالعودة إلى منازلهم ومدنهم.
ما هو البرنامج اليومي للمتطوعين؟
بعد أن وصلنا إلى المكان المخصص لنا نصبنا خيامنا، فجاءت مجموعة من الشاحنات المحملة بالمؤونة الخاصة بالمتطوعين، فنادى علي الشيخ رئيس المجموعة وأحضرت الدفتر الخاص بمجموعتنا المتكونة من 16 فردا. فوزعوا علينا كل الحاجيات التي نحتاجها في المخيم من خضر وسكر وشاي وزيت وحليب وغيره. واتخذنا من الشاحنة مكان نجلس فيه وللمبيت كذلك بعد أن وضعنا عليها غطاء كبير للوقاية من أشعة الشمس الحارقة. لكن الظاهرة الملفتة للانتباه أن جميع المتطوعين كانوا يجتمعون كل مساء حول المذياع للاستماع إلى نشرة الأخبار خصوصا المتعلقة بالمسيرة الخضراء. ومن بين الأخبار التي لازالت عالقة في ذهني خبر إنزال العلم الاسباني في العيون ووضع مكانه علم المملكة المغربية، حيث لما سمع المتطوعون هذا الخبر صاح الجميع في جو حماسي رافعين شعارات النصر والفخر والاعتزاز وتمنى جميع المتطوعون أن يكونوا حاضرين في مدينة العيون في تلك اللحظة لمعاينة ذلك الحدث الفريد. وأتذكر كذلك واقعة خلال هذه الفترة وهي أن بعض المتطوعين تخلفوا عن موعد انطلاق الشاحنات نحو الصحراء المغربية فاستقلوا سيارة أجرة وكان معهم صحفيا اسبانيا دخل إلى المغرب لتغطية المسيرة الخضراء وفي الطريق بين اكادير و بويزكارن فسمع السائق خطاب المرحوم الحسن الثاني إلى المتطوعون بالرجوع إلى مدنهم وقراهم فأدار مقود السيارة للعودة من حيث أتى فصاح الصحافي الاسباني إلى أين أنت ذاهب؟ فقال له السائق ” سيدنا كال لينا رجعوا، صافي نرجعوا” فعاد هذا الاسباني إلى وطنه خائبا بعدما تأكد له أن جميع المغاربة متحدين وراء صاحب الجلالة المرحوم الحسن الثاني.
ماذا حدث بعد رجوعكم إلى مدنكم؟
بعد رجوعنا إلى مدينة طانطان كان عدد منا في صحة غير جيدة بفعل الغبار والزوابع الرملية، وفي اليوم الموالي ذهبنا إلى مقر البلدية وتمت تهنئتنا على المشاركة من طرف السلطات المحلية وسلمونا ميداليات المسيرة الخضراء وبطاقة القسم ثم بطاقة التطوع “مسيرة فتح الخضراء”. بصراحة في هذه الفترة كان جميع المغاربة وطنيين حتى النخاع، وكانت أخلاقهم عالية في التضامن والتعاون والتآخي، عكس ما نراهم اليوم من انتهازية ومحاولة البعض ضرب وطنه بيده في محاولات يائسة للانفصال.
———————
مـدونة : ملفات تاريخ المغرب