يتكرر ذكر نموذج التكامل الأوروبي في الأدبيات السياسية للإشارة إلى قدرة الفرقاء على تجاوز قرون من الخلافات القومية، والعرقية، واللغوية، والمذهبية، التي أدت إلى حروب طاحنة، وصولا إلى التناغم، وتعامد المصالح الاقتصادية، والسياسية، والأمنية وتبادلها.
فهل يعد نموذج التكامل الأوروبي بالفعل نموذجا يحتذي وقصة نجاح، أم أنه محاولة جادة للاندماج، يشوبها العديد من العثرات والعقبات، ويتكرر وقوفها في مفترق طرق قد يؤدي إلى الانهيار الكامل في المستقبل البعيد، بل وربما المنظور.
التكامل الأوروبي بين النظرية والتاريخ:
ترجع فكرة التكامل الأوروبي إلى قرون مضت كانت فيها أوروبا تعاني التشرذم، والفرقة، والحروب الصغيرة والكبيرة، منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الرابع الميلادي، مرورا بالعصور الوسطي المظلمة وحتى القرون الخمسة الماضية التي شهدت حروبا وصراعات دامية. وتنسب الصياغة الأبرز لهذه الفكرة في مطلع العصور الحديثة إلى الفيلسوف الألماني الأبرز، إيمانويل كانط، الذي زعم أن الحل الوحيد لإيقاف الصراعات المسلحة الدامية بين الأمراء والنبلاء الأوروبيين لن يكون بالوحدة المذهبية أو السياسية، بل حين يشعر كل منهم بأن المصالح الاقتصادية لمقاطعته، أو مدينته، أو مملكته تعتمد بدرجة كبيرة على تعاونه مع جيرانه.
ورغم أن الإطار النظري للتكامل الأوروبي قد بني على زعم أنه مشروع سياسي يسعي إلى إعادة التناغم والهدوء إلى أوروبا، والتقريب بين شعوبها التي فرقتها فظائع الحرب العالمية الثانية، فإن الواقع يؤكد أن التكامل الأوروبي والوحدة الأوروبية بنيا منذ أن وضع كانط فكرته، وإلى اليوم، على أعمدة اقتصادية بدأت بمشروع مارشال، ثم اتحاد الفحم والصلب، فالاتحاد المالي الأوروبي، ثم مشروع السوق الأوروبية المشتركة، وحتى إعلان الاتحاد الأوروبي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. كما أن العناصر الأبرز للتكامل الأوروبي تتمثل في العناصر الاقتصادية والمالية أساسا، وأهمها وأشهرها العملة الأوروبية الموحدة “اليورو”، والبنك المركزي الأوروبي.
يعد الاقتصاد بالتالي قاطرة الاتحاد الأوروبي، ومرتكز القوة المحركة لنموذجه التكاملي.
فمنذ تبلور فكرة التعاون الأوروبي في ستينيات القرن العشرين، عُدَّت منافسة أوروبا سياسيا أو عسكريا مع القطبين العملاقين، خلال حقبة الحرب الباردة، -الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية – ضربا من الخيال وربما الجنون. فأوروبا التي أرهقتها الحرب، واستنزفت منها ما كسبته، خلال قرون الاستعمار، وهيمنة الإمبراطوريات الكبرى لم يعد لدىها أمل سوي في المنافسة الاقتصادية والمالية، وهو ما يفسر الارتباط الشرطي بين الأزمات الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي وإمكانية تعثره، أو حتى انهياره ككل.
بنية الاتحاد الأوروبي ومؤسساته الرئيسية:
قام الشركاء الأوروبيون على مدي عقود بتوقيع معاهدات صدقت عليها شعوبهم لتصبح أطرا منظمة لبنية الاتحاد وعلاقة أعضائه ببعضهم بعضا، وكذلك واجبات وحقوق الأعضاء تجاه بعضهم، وتجاه الكيان.
وتتمثل المعاهدات الرئيسية المنظمة للبنية الفكرية والقانونية للاتحاد الأوروبي في:
معاهدة روما للجماعة الاقتصادية الأوروبية (1957): اتفاقية روما (معاهدة روما فيما بعد) هي اللبنة الأولي للمعاهدات التي مهدت الطريق للتكامل الاقتصادي في غرب أوروبا، حيث وقعتها ست دول هي: ألمانيا الغربية، وفرنسا، وهولندا، وبلجيكا، ولوكسمبورج، وإيطاليا، ودخلت حيز التنفيذ في مطلع عام 1958. تنص المعاهدة على تخفيض الجمارك بين الدول الموقعة، وتأسيس اتحاد جمركي ينسق مصالحها البينية وتعاملاتها مع الأطراف الثالثة. كما قرر الموقعون بدء تأسيس سوق أوروبية مشتركة، بالإضافة إلى تأسيس صندوق دعم نقدي أوروبي مشترك لدعم اقتصادات الدول الأعضاء.
القانون الأوروبي الموحد (1986) Single European Act: تم توقيع هذه الاتفاقية بين الدول الأعضاء في التجمع الأوروبي بهدف تأسيس السوق الأوروبية الموحدة أو المشتركة. وقع الاتفاقية الدول ذاتها التي وقعت اتفاقية روما، بالإضافة إلى كل من بريطانيا، والدنمارك، وأيرلندا، واليونان، وإسبانيا، والبرتغال. إلا أن التصديق على الاتفاقية وتحويلها إلى معاهدة ملزمة استغرقا وقتا طويلا ونقاشات حادة، حيث رأتها العديد من الدول متعدية على السيادة الوطنية والدستور الوطني لكل دولة، سواء بفعل الاندماج الاقتصادي المفتوح مع بقية الدول، أو بسبب النفوذ المتعاظم للبرلمان الأوروبي -حال تمرير المعاهدة- والذي سيجعل لهذا الأخير سلطة تفوق سلطات البرلمان الوطني. وهو ما دفع بعض الدول إلى طرح التصديق على الاتفاقية في استفتاء عام على الشعب لتفادي شبهة عدم الدستورية.
معاهدة ماستريخت (1992): كان إصدار العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، أهم بنود ونتائج معاهدة ماستريخت التي وُقعت في المدينة الهولندية نهاية عام .1991 إلا أن هذه المعاهدة دشنت إطلاق البنية الجديدة للاتحاد الأوروبي، وكانت بمنزلة إعلان رسمي على خروج الوحدة الأوروبية من شرنقة الاقتصاد، وقدمت لأول مرة ترتيبات لها علاقة بالسياسة الخارجية، والأمور الأمنية والدفاعية المشتركة.
معاهدة أمستردام (1997): تعد معاهدة أمستردام التي دخلت حيز التنفيذ عام 1999 من أهم المعاهدات المنظمة للحقوق السياسية والإنسانية للمواطنين في أوروبا، وكذلك فيما يتعلق باستقبال المهاجرين والقوانين المدنية، وحق اللجوء السياسي، وحرية التعبير. كما أطلقت هذه المعاهدة الترتيبات الخاصة بتوحيد السياسة الخارجية والأمنية للدول الأعضاء Common Defense and security Policy of the EU. كما أنها وضعت أطرا جديدة لتنظيم العمل واتخاذ القرار في البرلمان الأوروبي، وكذلك بعض الأمور المنظمة لقبول عضوية دول جديدة من وسط وشرق أوروبا في الاتحاد. ووقعت الاتفاقية خمس عشرة دولة هي: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليونان، وإسبانيا، والبرتغال، والدنمارك، والنمسا، وفنلندا، والسويد، وبلجيكا، وأيرلندا، ولوكسمبورج، وهولندا.
معاهدة لشبونة (2007-2009): وهي المعاهدة المنظمة للأطر التشريعية للاتحاد الأوروبي، خاصة صلاحيات البرلمان الأوروبي، ونظام التصويت على مشروعات القوانين والقرارات والموازنة العامة التي تطرح للتصويت في البرلمان. كما تنظم هذه المعاهدة العلاقة بين الأجهزة والمؤسسات الرئيسية في الاتحاد الأوروبي، ومسئولياتها الرقابية بين بعضها بعضا. كما منحت المعاهدة الصفة الرسمية لكل من البنك المركزي الأوروبي، ومحكمة العدل الأوروبية بحسبانهما مؤسسات حاكمة واجبة العضوية لدول الاتحاد الأوروبي. وتعد معاهدة لشبونة بمنزلة اطار بديل لمشروع الدستور الأوروبي الموحد الذي فشل في الحصول على ثقة المواطنين الأوروبيين في الفترة بين عامي 2001 و2007، والذي كان ليحل محل الاتفاقيات الأربع سالفة الذكر، ويضع إطارا دستوريا وقانونيا موحدا بديلا عن المعاهدات التي فقدت الكثير من قوتها بتقادم الزمن. لذا، تعد معاهدة لشبونة المعاهدة المتممة (حتى الآن) والمصححة للمعاهدات السابقة، بحيث يعمل هذا الخماسي التشريعي عمل الدستور في الإطار الوحدوي الأوروبي. صدق على معاهدة لشبونة جميع الدول التي صدقت على معاهدة أمستردام، بالإضافة إلى قبرص، ورومانيا، والتشيك، والمجر، وبلغاريا، وسلوفاكيا، ولاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا، ومالطا، وبولندا، وهي الدول التي انضمت إلى عضوية الاتحاد خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ويقوم عمل الاتحاد الأوروبي على أربعة أجهزة رئيسية، لكل منها آلية تشكيل، أو عضوية مختلفة، واختصاصات متمايزة:
– المفوضية الأوروبية: هي الجهاز التنفيذي والإداري للاتحاد الأوروبي، ومقرها بروكسل. وتقوم المفوضية بإعداد مشروعات القوانين والمعاهدات الجديدة، ثم تطرحها على ممثلي أوروبا المنتخبين في البرلمان الأوروبي، ومجلس الاتحاد الأوروبي من أجل اتخاذ قرار بشأنها. كما تقوم المفوضية بإدارة أموال الاتحاد، ومتابعة المشروعات، وتنفيذ السياسات التي وافق عليها ممثلو أوروبا. كما يمكن للمفوضية إحالة الدول أو الحكومات الأعضاء التي تنتهك القوانين أو المعاهدات الأوروبية إلى محكمة العدل الأوروبية لمعاقبتها على الإخلال بواجباتها التي يفرضها الانضمام إلى الاتحاد. تتكون المفوضية من ممثل واحد عن كل دولة من الدول الأعضاء، يتم اختياره وتعيينه من قبل حكومة بلده لمدة خمس سنوات، بعد أن يوافق عليه رئيس المفوضية، ويقدم أوراق اعتماده للبرلمان الأوروبي. أما رئيس المفوضية، فيتم ترشيحه من خلال حكومات الدول الأعضاء، ومن غير المفوضين الممثلين، على أن يوافق عليه البرلمان الأوروبي عن طريق التصويت. ومهمته أيضا تنفيذية تتعلق بالإشراف العام على تنفيذ ما اتفق عليه من سياسات وبرامج تخدم شعوب أوروبا.
-البرلمان الأوروبي: تستضيف مدينة ستراسبورج الفرنسية مقر البرلمان الأوروبي، الذي يضم في عضويته ممثلي الدول الأوروبية المنتخبين انتخابا مباشرا من شعوب أوروبا مرة كل خمس سنوات. وهو أقدم الأجهزة الأربعة زمنيا، حيث يرجع تأسيسه إلى سبعينيات القرن الماضي، ويبلغ عدد أعضائه 751 نائبا. ويتقاسم البرلمان السلطة التشريعية مع مجلس الاتحاد الأوروبي، وكذلك قرار اعتماد الموازنة العامة للاتحاد. إلا أن التعديلات الأخيرة التي أدخلت بمقتضي معاهدة لشبونة أقرت أنه في حال حدوث نزاع بين البرلمان الأوروبي ومجلس الاتحاد حول اعتماد الموازنة العامة، فإن لجنة تسوية تعقد للوصول إلى قرار مشترك. وفي حال فشلها، يعتمد القرار الذي اتخذه البرلمان، سواء بالرفض أو التمرير، كونه منتخبا انتخابا مباشرا من المواطنين الأوروبيين.
– مجلس الاتحاد الأوروبي: ويعد الجهة الأولي في توجيه اتخاذ القرار الأوروبي. وتأتي أهميته وعقبات عمله من حيث طبيعة العلاقة بينه وبين البرلمان الأوروبي، حيث يتشاركان مسئولية التشريع في الاتحاد الأوروبي كما سلف. ويتكون مجلس الاتحاد الأوروبي من وزراء يمثلون حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وتتولي الدول الرئاسة بصورة دورية، ويكون عمل الرئاسة إداريا وتنظيميا لا غير، فيما عدا مجلس السياسة الخارجية الذي يترأسه الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي.
-المجلس الأوروبي: وهو مجلس تنفيذي يضم الرؤساء أو رؤساء حكومات الدول الأعضاء، بالإضافة إلى رئيس المجلس، ورئيس المفوضية الأوروبية. ويشارك الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد في جلسات العمل. ويحدد المجلس الأوروبي اتجاه وأولويات السياسات العامة للاتحاد الأوروبي بحسبان ممثليه هم القيادة التنفيذية الأعلى في الدول الأعضاء، إلا أنه لا يضطلع بمهام تشريعية. ويجتمع المجلس الأوروبي مرتين كل ستة أشهر، ومدة رئاسة الرئيس هي سنتان ونصف السنة قابلة للتجديد لمرة واحدة.
والحقيقة أن طبيعة العلاقة بين مجلس الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي أشبه بنظام الحكم المطبق في الأنظمة الرئاسية، وتحديدا في الولايات المتحدة الأمريكية، أي الفصل الكامل بين السلطات separation of powers، وهو ما يخالف النظام البرلماني القائم في معظم الدول الأوروبية، حيث تتداخل السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية fusion of powers بحسبانهما تنتميان إلى الفصيل الفائز نفسه في الانتخابات التشريعية. فالفصل الكامل العضوي والوظيفي بين أعضاء البرلمان الأوروبي المنتخبين مباشرة من الشعب عن شركائهم في اتخاذ القرار من الأعضاء التنفيذيين (الوزراء) في مجلس الاتحاد غالبا ما يؤدي إلى عثرات تعوق التقدم الأوروبي.
أما داخل البرلمان الأوروبي نفسه، فإن اتجاهات التصويت قد تميل إلى تفضيل المصلحة الوطنية على المصلحة الأوروبية المشتركة. كما أن بعض الأعضاء يميلون إلى التكتلات الحزبية والأيديولوجية، ويقدمونها على المصالح الأوروبية، وحتى الوطنية، مما يجعل التصويت داخل البرلمان كثيرا ما يميل إلى اتخاذ قرارات تصب في مصالح وطنية أو أيديولوجية، وليس المصالح الأوروبية المشتركة.
متحدون أمام الخارج منقسمون في الداخل:
رغم أن الدول الأعضاء في الاتحاد تحاول التعامل مع الأطراف الخارجية بصيغة موحدة معظم الوقت، فإن هناك عدة مظاهر للانشقاق الداخلي يمكن رصدها بتحليل العلاقات البينية بين دول الاتحاد بعضها بعضا:
أولا- التجمعات المناطقية:
دأبت الدول الأوروبية على تكوين اتحادات فرعية صغيرة تخدم مصالح دول بعينها تري أن الرباط بينها أقوي مما يربطها ببقية دول الاتحاد، رغم التقاطع الوظيفي بين مهام الاتحاد الأوروبي، والمهام التي تقوم بها تلك الاتحادات المصغرة، والتي صاغتها هذه المجموعات الفرعية لنفسها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك اتحاد البينيلوكس Beneluxe الذي يجمع بلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورج، والقائم على اتفاقية تعاون منذ عام 1955، أي أنها أقدم من اتحاد الفحم والصلب، الذي يعد الجد الأكبر للاتحاد الأوروبي.. وكذلك تجمع دول البلطيق Baltic Assembly، الذي يمثل تحالفا برلمانيا بين جمهوريات البلطيق الثلاث: إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، بحيث تنسق ثلاثتها السياسات العامة الاقتصادية، والمالية، والعسكرية، والسياسية لتقديم رؤية تتفق مع أولويات السياسة الداخلية والخارجية لجمهوريات البلطيق مجتمعة، سواء فيما يتعلق بشئون الاتحاد الأوروبي، أو فيما يتعلق بالعالم الأوسع. ورغم أن بعض المحللين يرون في هذه التجمعات خطوة إيجابية تصب في اتجاه مزيد من التكامل الأوروبي، وتقليل جنوح الدولة الوطنية إلى اتخاذ القرار بصورة منفردة، فإننا نجد أن آخرين يرون أن مثل هذه التجمعات تعمل على إذكاء الروح الجهوية، أو الإثنية، أو اللغوية لدى شعوب ترى أن ما يجمع بينها أقوي مما يربطها ببقية شعوب القارة، مما يقلل من فرص الاندماج في المشروع الأوروبي الوحدوي.
ثانيا- الحركات الانفصالية والقومية داخل الدول الأوروبية:
نشأ التكامل الأوروبي منذ بداياته عقب الحرب العالمية الثانية من أجل تحقيق أمل كبير يهدف إلى تخليص الوعي الجمعي الأوروبي في غرب أوروبا على الأقل – من ميراث القومية nationalism البغيض، والسير في اتجاه أوروبا متعاونة تأمل في تحقيق الوحدة الكونفيدرالية، فالفيدرالية يوما ما.
إلا أن التحديات الاقتصادية التي واجهتها أوروبا أخيرا مع أزمة الهوية الطاحنة التي يعيشها مواطنوها، ويعلو الجدل بشأنها يوميا، منحت الفرصة لصعود الأحزاب والحركات القومية في العديد من الأقطار الأوروبية. وأصبح حلم الوحدة الأوروبية عرضة للانكماش في ظل الشكوك حول وحدة القطر الأوروبي الواحد، وإمكان انهيار بعض الدول الوطنية nation-state، التي تنبهت فجأة إلى أن التجانس الداخلي بين مواطنيها ليس على خير ما يرام.
فالحركات الانفصالية في إسبانيا واسكتلندا، وعلو النبرة القومية لدى أحزاب اليمين الفرنسي واليوناني، بالإضافة إلى التذكير بالتمايز الثقافي والمذهبي في شرق أوروبا، تستمد جميعها ذلك الارتفاع المفاجئ في أسهمها من عوامل ذات صلة بالمشروع الأوروبي الموحد. فالضغوط الاقتصادية الخانقة لسياسات التقشف، أو الرغبة في الانضمام إلى منطقة اليورو، أو حتى سياسات التعامل مع المهاجرين غير الأوروبيين، منحت لحظة مناسبة لهذه التيارات المتطرفة في أن تقدم نفسها للمواطن بصورة الطرف الأقرب والأكثر حرصا على مصالحه القطرية، مقابل السادة ذوي المعاطف الأنيقة في بروكسل، والذين يحاولون فرض أجندتهم النخبوية اقتصاديا وسياسيا على المواطن الأوروبي دون النظر لخصوصية المجتمع الذي يعيش فيه.
ثالثا- تفضيل أطراف خارجية على التنسيق مع الاتحاد الأوروبي:
خلال عدد من الأزمات السياسية والاقتصادية التي برزت أخيرا، اختارت بعض الدول الأعضاء في الاتحاد أن تلجأ إلى أطراف خارجية عوضا عن التنسيق مع الاتحاد الأوروبي. ومن أشهر الأمثلة الحالية على ذلك التقارب الملموس بين حكومة اليونان الجديدة وروسيا. فتحالف سيريزا الحاكم في اليونان، الذي يضم عناصر يسارية متطرفة بين جنباته، يتهم الاتحاد الأوروبي باستعباد اليونان واليونانيين مقابل المساعدات المالية التي قدمتها ألمانيا والاتحاد مع سياسة تقشف خانقة لمدة تجاوزت السنوات الأربع. حتى إن الأصوات قد بدأت تعلو في دول، مثل ألمانيا وبريطانيا، بضرورة أن تتولي روسيا دعم اليونان – ولو جزئيا – ما دامت قد دعمت سيريزا للوصول إلى سُدة الحكم، وتغذية الرأي العام اليوناني ضد الجهود الأوروبية الموحدة لانتشال البلاد من أزمتها.
كما أن التنسيق بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بأنشطة الناتو، يضع علامة استفهام حول إمكانية التوصل لقرار أوروبي موحد، ثم التمسك به في وجه الإدارة الأمريكية. ويعد التدخل العسكري في ليبيا عام 2011 دليلا على ذلك. فبينما امتنعت ألمانيا عن التصويت على قراري مجلس الأمن 1970 و1973 والمتعلقين بفرض حظر الطيران على ليبيا، نجد أن بريطانيا وفرنسا قد شاركتا بقواتهما البحرية والجوية في العمليات العسكرية على ليبيا التي قام بها الناتو. ورغم أن المفوضية الأوروبية قد اتخذت قرارا بالمشاركة في جهود الإغاثة الإنسانية، وتأمين المدنيين النازحين في الشمال الليبي فقط، دون المشاركة في أي عمل عسكري ضد القوات النظامية الليبية، فإننا نجد أن بعض الحلفاء الأوروبيين، وبالمخالفة لقرار المفوضية، قد انضموا إلى الولايات المتحدة في حربها على نظام القذافي، سواء بالمشاركة الفعلية، أو عن طريق الدعم اللوجيستي، واستخدام القواعد العسكرية في كل من إيطاليا وإسبانيا. أي أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وكذلك في الناتو – وعددها 14 دولة – تقدم مصالح الناتو وعلاقتها بالولايات المتحدة على علاقتها بالأشقاء الأوروبيين، وما يتخذونه من قرارات في بروكسل.
وبذا، يتضح أن القرار، سواء الاقتصادي والمالي، أو السياسي والعسكري في الأقطار الأوروبية منفردة لا يقدم القرار الأوروبي المشترك على مصالح الدول الأعضاء مع أطراف خارجية، أهمها الولايات المتحدة وروسيا.
الماكينة الألمانية .. قيادة كاملة أم محفظة إنقاذ مالية وحسب؟
ورغم أن نموذج التكامل الأوروبي يطرح فكرة الاندماج التدريجي من أجل ضم الدول الأوروبية في كيان أكبر، قد يصل إلى حد الوحدة الكاملة يوما ما، فإن مئات الملايين من البشر، وهذا الحجم الهائل من الاقتصاد، والتجارة، والتسليح، والثقل السياسي لابد لهما من قائد. وتبرز ألمانيا بحسبانها القوة الاقتصادية الكبرى في كيان ذي طابع وأساس اقتصادي بالأصل كأهم مرشح لقيادة قاطرة التكامل الأوروبي. والحقيقة أن سؤال القيادة في الاتحاد الأوروبي كثيرا ما مثَّل إحدي عقبات تطور هذا النموذج لما ينطوي عليه من تناقض مع فكرة التكامل في حد ذاتها، حيث إن الإرث الأوروبي الثقيل حول القيادة، وما تعنيه من ميول إمبراطورية، أو تعصب قومي لدى بعض الشعوب الأوروبية، يصطدم بالفكرة التي يقوم عليها النموذج في الأساس، وهي أن تكون أوروبا موحدة متعاونة تتساوي فيها أهمية ومصالح وثقل الدول الأعضاء. وما سبق يمثل بطبيعة الحال فكرة رومانسية مثالية غير قابلة للتطبيق في ظل التفاوت في وزن، وأهمية، وقدرة كل دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد.
وعندما يقترن سؤال: لمن القيادة باسم دولة ألمانيا تحديدا، فإن صورة أكثر قتامة تصعد إلى السطح حاملة الميراث الألماني المخجل بحسبانها الدولة التي كثيرا ما مثلت أسوأ ما في التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر من النزعات القومية والمتعصبة، التي أدت إلى هلاك عشرات الملايين من البشر في حروب دامية أوروبية وعالمية، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، مما جعل الكثيرين يرون في ألمانيا قيادة اقتصادية ومالية تمثل سيارة الإسعاف التي يتركونها تشق الطريق فقط لإنقاذ دولة من دول الاتحاد تعاني أزمة حادة. أما أن يفسح الطريق لألمانيا لتولي القيادة في غير أوقات الأزمات المالية، وفي غير الأمور الاقتصادية، فهو أمر يصعب على الشركاء الأوروبيين السماح به، أو قبوله.
إن دور السيادة الإقليمية Regional Hegemony يعد في اللحظة الآنية حقا مكتسبا لألمانيا دون مواربة بحسبانها القاطرة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، سواء من ناحية الإنتاج، أو الرفاهية، أو من خلال دورها في إنقاذ وإقالة أعضاء الاتحاد من عثراتهم، خاصة اليونان، والبرتغال، وإسبانيا، وقبرص. فمنذ أن اتخذت قرارا بعدم الانضمام إلى منطقة اليورو، والنأي بنفسها عن الكثير من الترتيبات المؤسسية والتنفيذية الخاصة باقتصاد أوروبا الموحدة، فقدت بريطانيا أي دور كانت لتلعبه أو تنافس به ألمانيا فيما يخص القيادة. كذلك فرنسا التي تتشارك الأهمية مع ألمانيا، لكنها تفتقد الثقل الاقتصادي والمالي الذي تقدمه تلك الأخيرة للاتحاد. ولكن يظل الإرث التاريخي الألماني المظلم عقبة في وجه مطالبتها بهذه المكانة، وإن لعبت هذا الدور فيما يتعلق بالإسعاف والإنقاذ فقط.
الاتحاد الأوروبي وأسئلة المستقبل الصعبة:
عانت دول الاتحاد الأوروبي مع العالم أجمع ثقل سبع سنوات عجاف عصفت بالاقتصاد العالمي، منذ الأزمة الكبرى في عام 2008. ورغم أن الاتحاد وعملته الرسمية قد صمدا طيلة هذه المدة بكل عقباتها، فإن الأعوام القليلة المقبلة سوف تكون عسيرة على الاتحاد، حسب توقعات المراقبين. وتتراوح التوقعات بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي واستمراريته ما بين التوقيع بالانهيار الكامل، خلال خمس سنوات قادمة، أو احتمال الاستمرار مع المعاناة في الحفاظ على الأوضاع القائمة الحالية. أما المتفائلون ممن توقعوا إعلان الفيدرالية الأوروبية، أو تقديم نموذج التكامل الرائد عالميا، فقد تراجعت أصواتهم، بل وخفتت تماما، بعد أن أصبح أقصي آمال الاتحاد متمثلا في البقاء، لا النجاح، أو التفوق.
وفي ظل هذا الترقب والتشاؤم، سيضطر الشركاء الأوروبيون إلى الإجابة على أسئلة من شأنها أن تقرر مصير الاتحاد الذي قد يصيبه الجمود أو التدهور، بل وربما الانهيار الكامل.
وتأتي الأسئلة الاقتصادية على رأس الأسئلة الملحة بشأن مستقبل الاتحاد، حيث إن الأزمة الاقتصادية قد كشفت عن نقاط الضعف المفصلية في البنية الهيكلية، والامتداد المؤسسي للاتحاد.
وتأتي أزمة اليورو على رأس هذه الموضوعات، حيث إن تسع دول فقط من أصل 28 دولة – أعضاء في الاتحاد الأوروبي لم تتخذ اليورو عملة رسمية لها، ألا وهي بريطانيا، والسويد، والدنمارك، وكرواتيا، وبلغاريا، والمجر، وبولندا، والتشيك، ورومانيا. أما بقية الدول الأعضاء في الاتحاد، فترزح تحت أزمة كبري، سببها انخفاض قيمة العملة في السوق العالمية، بالإضافة إلى اضطرارها- خاصة ألمانيا- إلى ضخ مبالغ ضخمة نقدية، ومساعدات نوعية لدول الجنوب. وأصبح الطرح الخاص بالانسحاب من منطقة اليورو يتردد في الدوائر الأوروبية، سواء من طرف الداعمين أو المدعومين بشأن دول عدة، أبرزها اليونان. حيث إن اليونان قد عجزت عن سداد قسط الدىن المستحق لشركائها الأوروبيين في نهاية مايو 2015، والبالغ قدره 300 مليون يورو. ورغم أن المانحين قد عقدوا جلسات مفاوضات عدة مع الحكومة اليونانية من أجل الاتفاق على مخرج من الأزمة، أو إعادة جدولة الدىن بما يتناسب والعثرة الاقتصادية في اليونان، خرج جان كلود جانكر، رئيس المفوضية الأوروبية، بتصريحات اتهم فيها رئيس الوزراء اليوناني، تسابيراس، صراحة بأنه يعرقل أي جهود للتفاهم مع الدائنين، ويصر على أن سياسات التقشف وقبول الدعم المالي الأوروبي، التي قبلتها الحكومات الأسبق عليه في اليونان، هي ما أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في اليونان.
وبشكل عام، لا يمكن إنكار أن فرض سياسة التقشف على الحكومات الأوروبية، التي اضطرت إلى الاستدانة من الاتحاد، وعلى رأسها اليونان وإسبانيا، قد ألقى بظلاله على ثقة تلك الشعوب بالمشروع الأوروبي بأكمله. فلابد أن نتذكر أن تسابيراس رئيس وزراء يوناني منتخب، أي أن آراءه المناوئة للسياسات الاقتصادية للاتحاد، وكراهيته المعلنة لإنجيلا ميركل، وسياسة التقشف، واتهام الاتحاد الأوروبي بالتسبب في إفشال اليونان اقتصاديا، هي نفسها آراؤه المعلنة التي قادته وتحالفه اليساري الذي يشاركه التوجهات إلى النجاح في الانتخابات، واعتلاء سدة الحكم في هذا القطر الأوروبي المهم.
كذلك، أتت الانتخابات البلدىة في إسبانيا – خلال مايو الماضي – بنتائج أبرزت تقدم اليسار والأحزاب القومية الجهوية على حساب اليمين المعتدل والوسط، والذي كان على وفاق مع الاتحاد الأوروبي وألمانيا فيما يخص خطط التقشف الحكومي، وسياسات ربط الحزام. فاليونان وإسبانيا كلتاهما شهدت معدلات بطالة وصلت في عام 2013 إلى قرابة 25، وهي معدلات غير مسبوقة ارتبطت بتطبيق سياسات التقشف، وخفض الإنفاق الحكومي، وبالتالي تقليل فرص التوظيف والتشغيل للعمالة الوطنية، وهو ما جعل مواطني البلدىن يتشككون في جدوى ربط اقتصاداتهم باقتصاد أوروبا، ومنطقة اليورو.
ومن ثم، طرح السؤال الأكبر حول جدوي بقاء بلادهم في الاتحاد الذي قادهم حسب رأيهم – لهذا التدهور الاقتصادي. وهو ما يقابله تذمر لدى دول الشمال والغرب الأوروبي، خاصة ألمانيا، والتي يري مواطنوها وتصرح العديد من وسائل الإعلام بها بأن الجنوب “الكسول” غير المنتج يريد أن ينام القيلولة، بينما يعمل الألمان دون كلل أو هوادة لإعالة تلك الشعوب المتنطعة. ومرة أخري، يبرز السؤال حول حساب المكسب والخسارة من بقاء ألمانيا، وكذلك الدول المستقرة اقتصاديا، في اتحاد بدأ فتيا، ثم توسع جنوبا وشرقا ليثقل أقدامه باقتصادات مهترئة لا تملك بني تحتىة تنافسية.
وتأتي أزمة الهوية في أوروبا لتطرح أسئلة من نوع آخر حول مدي استعداد الأوروبيين، ليس لمشاركة المصير مع أوروبيين آخرين ينتمون لدول وطنية مختلفة عنهم فحسب، بل عن مدي استعداد المواطن الأوروبي لقبول المهاجرين من آسيا، وإفريقيا، والشرق الأوسط ممن دفعتهم الظروف الطاحنة في بلادهم إلى اللجوء أو الهجرة شمالا، بحثا عن فرص في القارة العجوز. وبينما تبدو قضية الهجرة كقضية ثانوية تتعلق ببضعة آلاف من المهاجرين الفقراء، أو اللاجئين الهاربين من صراعات محلية دامية، فإنها أدت إلى طرح أسئلة أعمق وأخطر، من أهمها الطرح البريطاني الحالي بشأن حرمان المهاجرين إلى بريطانيا من المزايا الاجتماعية، ومن حرية التنقل والعمل في الاتحاد الأوروبي لمدة أربع سنوات، عقب منحهم حق الإقامة في المملكة المتحدة، وهو ما يراه فقهاء الوحدة الأوروبية تخليا بريطانيا عن الأساس الذي قام عليه التكامل الأوروبي، ألا وهو حرية المواطنين في التنقل والعمل، سواء بشخوصهم أو برءوس أموالهم. بل إن مثل هذا الإجراء قد يؤدي إلى طرح تساؤل حول استمرار عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بشكل عام، حيث إنها لم تنضم لمنطقة اليورو، لكنها ترتبط بسياسات ومبادئ عامة تحاول الفكاك منها أيضا.. فماذا بقي لبريطانيا للتمسك بعضويتها في الاتحاد.
والحقيقة أن مسألة البقاء أو الانسلاخ عن الاتحاد الأوروبي كانت، ولا تزال، إحدي القضايا المؤثرة في مسار الانتخابات في عدة دول أوروبية. وأظهر استطلاع للرأي – أُجري في بريطانيا قبل الانتخابات العمومية وتحديدا في فبراير 2015 – أن 51 ممن استطلع رأيهم يفضلون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي برمته. وهي نتيجة مقاربة لمعظم استطلاعات الرأي التي أجريت حول الموضوع نفسه في بريطانيا من قبل هيئات رسمية وغير رسمية أكثر من مرة.
ويسعي حزب المحافظين تحديدا لإقناع البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي، مع البقاء في السوق الموحدة، وهو وضع أشبه بما تقوم به النرويج الآن. إلا أن الجانب السلبي لهذا الإجراء يتمثل في استمرار التزام بريطانيا بسياسات السوق المشتركة، دون أن تتمكن من صياغة أو اتخاذ القرار في بروكسل، في حال انسلاخها عن الاتحاد.
إذا، لم تعد قضية الهجرة تطرح تساؤلات حول ارتداء الحجاب، أو التعددية اللغوية والثقافية في الاتحاد الأوروبي، أو حتى تصاريح الذبح الحلال، أو ختان الأطفال، وغيرها من قضايا الاندماج الثقافي. فالأوروبيون المتشككون في جدوي إقالة رفاقهم في الاتحاد من عثرتهم الاقتصادية ليسوا بطبيعة الحال على استعداد لاستقبال المهاجرين، ومشاركتهم فرص الحياة التي يرزحون بفعل ضآلتها.
فأسئلة الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل منطقة اليورو، أصبحت مطروحة وبقوة، وإن اختلفت الأسباب في دول أسست هذا التجمع، وحاربت لعقود للحفاظ عليه. فما بين ألمانيا، المنزعجة من كسل شركائها، وبريطانيا التي تريد الانسلاخ من واجبات العضوية، والحفاظ على المزايا الاقتصادية، إلى اليونان وإسبانيا وشعبيهما المنددين بسياسات التقشف، لم يعد من المضمون أن ينهار الاتحاد، وأن تنفرط حبات عقده واحدة تلو الأخري.
مواجهة تحديات المستقبل القريب والأمل في الاستمرار:
إذن، فاستمرار الاتحاد الأوروبي مرهون بتحديات اقتصادية وسياسية، وكذلك تحديات تتعلق ببناء الثقة بين الشعوب الأوروبية، وتماسك النسيج المفترض أنه قد بني بينها على امتداد القرون الماضية. فربما يجب على ألمانيا ومؤيديها من محبذي سياسات التقشف إدراك حجم وخطورة الغضب العارم في الأقطار التي تعاني سداد أقساط الدىن العام. فعلى الأطراف جميعها أن تعمل على إيجاد صيغة توافقية، وحل وسط يضمن إنعاش الاقتصادات المتعثرة لدول الجنوب دون استفزاز لدافع الضرائب في دول الشمال والغرب. وعلى ألمانيا أيضا أن تتخذ موقفا شجاعا، وتتقدم الصفوف لتولي القيادة، بعد أن أمضت عقودا طويلة في بناء صورتها الجديدة كأمة مسالمة تسعي إلى تعزيز الوحدة والتكامل في أوروبا. كما أنه يجب على الحكومة البريطانية الجديدة التريث في طرح استفتاء للانسحاب من الاتحاد على الناخبين البريطانيين، أو على الأقل إعلام الناخب البريطاني بالصورة الكاملة لتبعات الانفصال.
ويبقي الرهان على الطبيعة الإنسانية الأميل إلى السلم والاستيعاب المجتمعي في التعامل مع المهاجرين بحسبانهم حالات إنسانية – في معظم الوقت – قد تؤدي استضافتها إلى تدعيم النسيج الأوروبي بعناصر شابة، تفيد الإحصاءات بأنها تتناقص في القارة العجوز يوما بعد يوم. فقد أثبتت التجربة أن ملايين المهاجرين ممن استوطنوا دولا، مثل فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، كانوا في معظمهم عناصر نافعة ومنتجة للمجتمع المستضيف. لذا، فعلى الاتحاد الأوروبي ألا ينسي أو يتناسي دوره الإنساني في استيعاب المهاجرين الجدد، خاصة اللاجئين منهم، وأن يحاول توفيق أوضاعهم، وتدريبهم، وإدماجهم في المجتمع الأوروبي بصورة لا تثير استفزاز مواطني الاتحاد، ولا تخل بواجبات الاتحاد الإنسانية في الوقت نفسه.
وبشكل عام، فإنه قد أصبح واجبا على جميع صناع القرار وقادة الرأي في أوروبا دق ناقوس الخطر في وجه العلو المطرد للتيارات اليمينية المتعصبة في طول القارة وعرضها. فبين مظاهرات الكراهية العلنية ضد المسلمين في ألمانيا، إلى طرد قبائل الغجر من فرنسا، والاعتداء على الآسيويين في بريطانيا، إلى رفض استقبال اللاجئين وطردهم من السواحل الإيطالية واليونانية، يبدو جليا أن أوروبا تتراجع عن الصورة التي حاولت التمسك بها لعقود طويلة، أعقبت الحرب العالمية الثانية التي لم تكن لتنشب لولا تصاعد نبرة الاستعلاء القومي، والحركات الفاشية والنازية المتعصبة.
ويبقي على الساسة الأوروبيين ممن يمثلون الاتحاد الأوروبي ككيان قائم بذاته، وكذلك على السياسيين الوطنيين ممن يحبذون بقاء الاتحاد، أن يعملوا معا من أجل إعادة بناء ثقة المواطن الأوروبي في المشروع الذي كان يوما حلما جامعا لملايين البشر. فمؤشرات تراجع الثقة التي تظهرها استطلاعات الرأي تشير إلى أن الاستياء من سياسات الاتحاد وبرامجه حالة عامة منتشرة في أوروبا، بغض النظر عن الحالة الاقتصادية لكل بلد على حدة.
كما تتوافر مؤشرات أخري في هذا السياق، من أهمها نسبة التصويت في انتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي، التي انخفضت في انتخابات عام 2014 لتصبح 42.5، مقابل 43.5 عام 2009، سبقتها نسبة مشاركة بلغت قرابة 46 عام 2004، أي أن حرص الناخب الأوروبي على اختيار ممثليه يتراجع باستمرار، رغم أن الدور الذي يلعبه الاتحاد في صياغة مستقبل القارة من المفترض أنه في اطراد وتصاعد. وبالنظر إلى نسب المشاركة المتواضعة في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، جنبا إلى جنب مع نتائج استطلاعات الرأي المحبذة للانفصال عن الاتحاد كلية، فإن إجراءات بناء الثقة، وتوضيح الدور الحالي والمستقبلي الذي يستطيع الاتحاد القيام به لدعم المواطن الأوروبي، اقتصاديا وإنسانيا، أصبحا واجبا على كل من يهمه استمرار نموذج التكامل الأوروبي المترنح.
وبرغم أهمية كل الأسئلة السابقة التي تتعرض لتفاصيل دقيقة تتحكم في مسار الاتحاد ومستقبله، فإن السؤال الأهم هو سؤال وجودي قد يؤدي طرحه إلى بروز سؤال أهم عن جدوي الاتحاد برمته، ألا وهو:
هل تخلى الأوروبيون بالفعل عن انتماءاتهم القومية، والإثنية، واللغوية في سبيل مشروع اندماجي تكاملي يقودهم إلى الذوبان في وحدة سياسية واقتصادية تعبر عن هوية أوروبية مشتركة كانت موضوعا للصراع والتنازع، عبر أغلب فترات التاريخ الأوروبي وحقبه، أم أنهم سيعودون إلى نقطة الصفر وحتى إلى ما قبلها، متخلين عن فكرة الدولة الوطنية لتعود النزعات القومية، والجهوية، واللغوية لتسيطر على الفكر الأوروبي ومقدراته، في ظل أزمة اقتصادية وسياسية مستمرة، تحيطها ظلال أزمة هوية، يخشى جميع القادة الأوروبيين من الاعتراف بوجودها بين ظهرانيهم؟.
* مجلة السياسة الدولية