“رصيف 22″ـ محمدو ولد أبوه
أي عروس في هذا العالم لا تتهادى وهي في الطريق إلى عريسها الذي انتظرته طويلاً؟ هل تتخيّل عروساً تحمل نعليها وتولي هاربة وتختفي بضعة أيام حتى لا تقابل عريسها؟ هذا التقليد موجود فعلياً في مجتمعات “البيضان” (عرب الصحراء الكبرى)، لا سيّما في المجتمع الموريتاني، الذي ابتدع منذ القدم عادة “الترواغ”، السارية إلى اليوم.
تقضي هذه العادة بأنه، فور انتهاء عقد القران، تضع العروس وصديقاتها خططاً محكمة للاختفاء عن العريس. يبدأ تنفيذ الخطة من مكان تجهيز العروس بالزينة، فتستخدم النساء أساليب شتّى للفرار من العريس: يركبن الدوابّ ويسرن حتى يبلغن بئراً على سبيل المثال، ثم يتوجّهن إلى المكان الذي لن يخطر على بال “جيش الرجال” ويمضين ما استطعن من وقت قبل أن يعثر عليهن وتجلب العروس بالقوة إلى بيتها الزوجي.
أما العريس المحاط بحشد من أصحابه، فيجدر به منع العروس من “الترواغ”، وذلك عبر وضع حراسة مشددة على مكان تجهيز العروس. إذا فشل الحرّاس، وغالباً ما يحدث ذلك، فيترتّب عليهم استخدام كل خبرتهم في تقفي الآثار والبحث عن العروسة. يجري أصحاب العريس حينها تحقيقات مطوّلة مع النساء والأطفال والرعاة بغية الحصول على معلومة ترشدهم إلى مخبأ العروس.
خلال هذه “المعركة” التي تستغرق ساعات، وفي أحيان كثيرة تدوم أياماً، تحدث مفارقات لا تخلو من الطرافة. قد تلعب إحدى السيدات دور الخائنة، فتدل العريس على مكان اختباء العروس، لكن كثيراً ما يكون ذلك مجرّد خدعة، فيذهب العريس عكس اتجاه هدفه، ويضيع في متاهات من نوع “رأيناهن يعبرن هذا التلّ أو يشربن من تلك البئر، أو ذهبن إلى الحي الفلاني.”
من المعيب ألا يعثر العريس على عروسه، فالرجل الذي يفشل في هذه المهمة يعدّ “بارداً” وأبله، لا يستحق عروساً، ويصبح أضحوكة وسط عارفيه وأهل العروس.
تسري هذه العادة في المدن أيضاً، ولا يسلم منها حتى ضبّاط الشرطة، الذين يفشلون غالباً– برغم تجنيد عناصرهم– في العثور على العروس الهاربة. يقول ضابط شرطة في مقاطعة “الرياض” بالعاصمة نواكشوط: “كنت طليع دفعتي في إجراء تحقيقات البحث، ومع ذلك فشلت في العثور على زوجتي وخذلت عناصري، وقد تندّر أحدهم بالقول: “سيّدي، أحمد الله لأن هذه العروس ليست من تنظيم القاعدة وإلا دوّخت العالم كله”.
يتابع الضابط: “لحسن حظي أني أعرف سيدة لا تفوتها الشاردة والواردة في هذه المقاطعة، وهي من دلّتني على مكان اختباء عروسي”.
لماذا تختفي العروس البيضانية عن عريسها؟
الجواب ببساطة هو أنه تقليد اجتماعي قديم جداً، يهدف إلى “إظهار حياء الزوجة الجديدة وعدم رغبتها في الرجال”. تصبح العروس التي لا تنجح في هذه العادة عرضة للسخرية لأنّها “مسلوبة”، أي “عاشقة للرجال”، ما يتنافى مع “ما يفترض” أن تكون عليه قيم المرأة العربية الصحراوية.
يجمع الباحثون الاجتماعيون في موريتانيا على أن هذه العادة تُضفي جواً من الحيوية والبهجة على العرس نتيجة التشويق الذي يرافق عملية البحث، إذ حين يعثر العريس على عروسه، لن يأخذ بيدها إنما عليه، هو وأصحابه، الدخول في “معركة” مع الطرف الآخر حتى ينتزعوا منه العروس بالقوة. قد يُستخدم في تلك المعركة الضرب وتبادل النعوت، وليس مستبعداً سقوط جرحى. ومع ذلك، لا أحد يتذمّر أو يتأفف، وينتهي كل شيء في أوانه على خير ما يرام.
لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدث، فعروس البيضان ترتدي الثوب الأسود، عوضاً عن الأبيض، كأنها في حداد. لماذا؟ الجواب لدى الباحث الاجتماعي حسني ولد شاش: “أن لهذه العادة بُعداً دينياً يكشف جانباً من أحفوريات التشيع في المجتمع الموريتاني القديم”.
لكن الشاعر الموريتاني، النبهاني أمغر، يرى أبعد من ذلك. فقد هاجرت قبائل حسان العربية التي حكمت الصحراء الكبرى، منذ القدم من الجزيرة العربية. وفي جزء من المجتمع العربي في الجاهلية، كانت العروس تلبس الثوب الأسود، وهو ما خلّده بعض الشعراء في مطلع عصور الإسلام. للمثال، يقول “غيلان ذي الرمة”: وليلٍ كجلباب العروسِ أدَّرعته/ بأربعةٍ والشخص في العينِ واحد/ أحمُّ عُلاَفِيٌّ وأبيضُ صَــــــارِمٌ/ وأعْيَسُ مَهْرِيٌ وأشْعَثُ مَــاجــــد”.
الدموع، حزناً على مفارقة الأهل:
يحتّم على العروس البيضانية أن تبكي بحرقة من أجل أن تُظهر الحزن على مفارقة أهلها. وتجلس متحجبة بالمحلفة (زيّ المرأة الموريتانية) وهي تبكي، تهوّن عليها والدتها وبقية النساء. هنالك عرائس يبكين بصدق لدى مغادرة بيت الوالدين والإخوة إلى بيت رجل مجهول المعشر، لأنها لم تقابل في حياتها غير محارِمها من الرجال. إلّا أن بكاء العروس يثير سخرية صديقاتها اللواتي يعلقن على المشهد قائلات: “هذه الدموع الحارة هي شوق للعريس وليس لأمّك المسكينة. افرحي، ستذهبين إليه”.
تُميّز عادات عدة العرس البيضاني الذي تحول إلى شبه أسطورة، فتوقظ فضول الغرباء والسيّاح الذين يحرصون على حضوره للتعرف إلى تقاليده.