ولد محمد زين العابدين بن الشيخ محمد الأمين القلقمي، نهاية القرن التاسع عشر في منطقة الحوض لوالده الشيخ محمد الأمين بن زيني، وهو من أسرة أهل أحمد الجيد وهم من بيوت الرئاسة في القلاقمة، والقلاقمة من أبرز بيوت الشرف في موريتانيا. كان الشيخ محمد الأمين عالما جليلا وفقيها لا تكدره الدلاء له وصوفيا زاهدا.، قل فيه ما شئت من صفات الفضل والمجد فلن تستطع أن تحصر تلك الفضائل والفواضل… كان الشيخ محمد الأمين رحمه الله شيخًا وقورًا وعالمًا جليلاً، ومن طريقته أنه كان ينفِّر الناس من شرب الدخان، وينصحهم بعدم الأكل مع من يتناولها، وله مؤلفات أغلبها في التصوف والوعظ والإرشاد على شكل أنظام.
أخذ الشيخ محمد الأمين الطريقة الغظفية الشاذلية على الشيخ عالي بن آفه الدليمي، وآفة لقب واسمه يوسف وهو من أولاد الشويخ ثم من أولاد دليم، والشيخ عالي من كبار شيوخ التصوف في موريتانيا ومن متصدري الطريقة الغظفية المنسوبة للشيخ الجليل الشيخ محمد الأغظف الداودي.
ويعرف عن الطريقة الغظفية أنها من أبرز الطرق الصوفية في موريتانيا ويقوم منهجها التربوي على الزهد والورع والتحلي بمقامات الصالحين والتشبث بالسنة المحمدية الطاهرة. يتصل سند هذه الطريقة بالشيخ محمد الأغظف الداودي الذي تصدر عليه الكثير من أعيان وأعلام موريتانيا خصوصا الشيخ المختار بن الطالب أعمر بن نوح بن آبه البوساتي، وعنه أخذ سيدي أحمد بن عمار البساتي وهو جد أحد أبرز شيوخ الغظفية وهو الشيخ الغزواني بن الشيخ محمد محمود بن سيدي أحمد بن عمار. ومن مسادير الشيخ محمد الأغظف الشيخ مولاي زيدان بن سيدي محمد بن مولاي عبد الله الحسني الولاتي وعنه تصدر الكثير من أفاضل أهل ولاتة وغيرهم كما في كتاب فتح الشكور للطالب محمد بن أبي الصديق البرتلي. كما يعد الشيخ سيدي محمد بن أحمد الأسود أحد تلامذة الشيخ محمد الغظف. ومن أبرز أتباع الطريقة الغظفية المجاهد البطل والشهيد سيدي بن مولاي الزين الذي قتل مع مجموعة من أهل التناكي من إديشلي قائد الحملة الاستعمارية الفرنسية بموريتانيا كبولاني.
تصدر الشيخ محمد الأمين بن زيني وترقى في مقامات الصوفية هو في الحوض، وكان معه في حضرة الشيخ عالي بن آفة الشيخ الجليل محمد محمود بن بيه الذي تولى مشيخة الحضرة الصوفية الغظفية بالحوض بعد وفاة الشيخ عالي بن آفة سنة 1909.
وكان للشيخ محمد الأمين بن زيني الفضل في نشر هذه الطريقة في الأردن قبل قيام إمارة شرق الأردن الهاشمية حيث أقام له زاوية بالقرب من مدينة عمان والتفت حوله بعض قبائل شرق الأردن. وبعد مغادرة الشيخ محمد الأمين للأردن تولى مشيخة الغظفية في منطقة الجمرك تلميذه الشيخ عايش الحويان.
الهجرة عن الاحتلال الفرنسي والانخراط في المقامة
ما إن دخل المستعمر الفرنسي موريتانيا وبدأ يتوغل في أجزائها وخصوصا الترارزة والبراكنة 1903، وبعد ذلك تكانت والعصابة 1904، وآدرار 1909 ثم بدأ يشرئب لاحتلال الحوض حتى هب الشيخ محمد الأمين بن زيني وغيره من شخصيات الحوض البارزة استعداد لهذا الخطر الداهم ورفضا للاستعمار الغاشم. وتذكر الروايات المتواترة أن الشيخ محمد الأمين اتصل بأمير مشظوف محمد المختار بن محمد محمود فحثه على مواجهة الفرنسيين وكيف لا وهو سليل أسرة أهل المحيميد وفيهم إمارة القبيلة العظيمة مشظوف المعروفة ببسالة أبنائها وبطولاتهم ونصرهم للحق ووقوفهم في وجه الباطل. وكان الأمير محمد محمود يقول: سبحان الله ما أعلى همة هذا الشيخ وما أقوى شكيمته يريدني أن أحارب هؤلاء الفرنسيين الذين أحاطوا بي من كل الجهات.
ويعد محمد المختار بن محمد محمود بن أحمد محمود بن المحيميد خامس أمراء مشظوف. وكان أمير قويا عادلا شهما نافذ الكلمة. تولى بعد مصرع ابن عمه أحمد بن اعلي محمود سنة 1314هـ/ 1887م وبقي في الإمارة ثلاث عشرة سنة حتى اغتاله محمد سالم بن الخاطر البحيحي سنة 1327هـ/ 1910م، وكان ابن الخاطر هذا ضمن سرية من أولاد غيلان والركيبات.
ولما تم احتلال أغلب مناطق الحوض بعد احتلال تكانت وآدرار شد الشيخ محمد الأمين بن زيني ومعه ابنه زين العابدين في جمع كبير من الأسر من قبائل شتى سعيا منهم إلى الخروج عن الفرنسيين. وكان لهذه الهجرة وقع مؤلم على الفرنسيين فقد رأوا فيها رفضا صارما وقطيعة جازمة، فكيف يترك ستمائة شخص بلادهم التي ألفوها ويغادرون أهلهم وعشائرهم إلا لأمر ملم لا يمكن الصبر عليه؟
ومن بين هؤلاء المهاجرين بعض الأسر القلقمية والمسومية والبوساتية والدليمية خصوصا من أبناء عمومة الشيخ عالي بن آفة وكذلك بعض أبناء الشريف بودبوس وغيرهم.
حل الركب الغظفي في منطقة فزان بليبيا سنة 1911، وعند مقدمهم استقبلهم السكان بالابتهاج والترحاب، وآووهم وبجّلوهم وأكرموهم وأقاموا في ضيافتهم مدة من الزمن. وفي السنة التالية من مقدمهم أي سنة 1912م (1330هـ) التحقوا بالجهاد مع الليبيين، وشاركوا المقاومة الليبية في معارك سواني بن يادم. وقد اشترك الشيخ محمد الأمين بن زين –كما يقول د حماه الله بن السالم- برأيه في خطة حركة تسيير الجهاد، وكان يرى أنه لابد من تأسيس بيت مال لصالح الجهاد إذا ما أريد الصمود والاستمرارية ضد العدو. شاركت المجموعة الغظفية –كما يقول أكثر من مصدر- في معركة سواني بن يادم في ليبيا ضد الغزو الايطالي. ويشك الباحث الحسن بن حريمو في إمكانية مشاركة المجموعة الغظفية في هذه المعركة فهي تقع بضواحي طرابلس الجنوبية في حين أن إقامة الشيخ محمد الأمين والمجموعة الغظفية كانت في مدينة أوباري بإقليم فزان في أقصى الجنوب الليبي. وقد تحدث عن الشيخ محمد الأمين القلقمي ودعوته وسعة علمه وشدة تحريمه وتشديده الإنكار على من يشرب الدخان وفصل في ذلك المؤرخ الليبي القاضي الحضيري فيما كتب عن فزان.
في الطريق إلى تركيا عبر الحجاز والأردن
لما لم يأخذ المجاهدون الليبيون برأي الشيخ محمد الأمين المتعلق بتأسيس بيت مال لصالح الجهاد لكي يتم الصمود والاستمرارية ضد العدو ومن ليبيا انتقل الركب الغظفي إلى الحجاز فأدوا فريضة الحج وشدوا الرحال نحو الأردن ويعد الشيخ محمد الأمين بن زيني القلقمي أول من عمر منطقة الرشيدية والطفيلة بشرق الأردن خلال العشرينيات من القرن الماضي. ومن شرق الأردن ذهب الركب إلى تركيا وخصوصا مدينة أضنة وقاتل إلى جانب الأتراك في الحرب العالمية الأولة (1914-1918).
وأضنة هي خامس أكبر مدن تركيا، وعاصمة محافظة أضنة المحاذية للحدود التركية السورية، وتبعد 50 كم عن البحر الأبيض المتوسط و 12 كم عن قاعدة انجرليك الجوية لحلف شمال الأطلسي.
وقد توفي الشيخ محمد الأمين بن زيني سنة 1969م، بأضنة وما زالت ذريته وذرية الأسر الغظفية التي رافقته موجودة في هذه المدينة وبذلك الإقليم وما زالوا محافظين على شيمهم الأصيلة ويوقومونهم بدورهم الطلائعي في تعميق الدين الإسلامي والسير على النهج الصوفي الغظفي السني المعتدل.
زين العابدين وإحياء مشروع المقاومة
شارك زين العابدين في الرحلة الغظفية المذكورة وكان إلى جانب أبيه في ليبيا وفي الحجاز وفي شرق الأردن. ويبدو من خلال الوثائق الفرنسية أن انضم رحل إلى القاهرة خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ومن مصر توجه للحجاز. ويبدو أن أباه الشيخ محمد الأمين استدعاه من الحجاز فعاد لتركيا وانضم إلى الجيش التركي والحرب لما تنته، فترقى في سلم الجيش ليصير أول ضابط موريتاني في الجيش العثماني.
وكانت علاقات زين العابدين وكذلك والده بالسلطان العثماني علاقات قوية ومتينة، وقد تعززت وتقوت مع وصول كمال أتاتور للحكم وإعلان الجمهورية التركية سنة 1924. وغير مستبعد أن يكون الزعيم التركي كمال أتارتورك قد التقي بالشيخ محمد الأمين بن زيني وبابنه زين العابدين عندما قاد أتاتورك الحرب الإيطالية العثمانية أو كما يطلق عليها الحرب الليبية أي العمليات الحربية التي جرت بين مملكة إيطاليا وبين الإمبراطورية العثمانية ما بين 29 سبتمبر 1911 وحتى 18 أكتوبر 1912 لاحتلال طرابلس وبرقة وفزان وهي الأقاليم التي باتت تعرف اليوم باسم ليبيا.
وما إن حلت سنة 1930 حتى غادر زين العابدين تركيا متجها نحو مصر مرة ثانية، وقد تزامنت تلك العودة مع إصدار الاحتلال الفرنسي للمغرب الظهير البربري وذلك في 17 ذي الحجة 1340هـ/16 مايو 1930م.
أقام زين العابدين أشهرا في القاهرة حيث انتسب للجامع الأزهر، فكان من أوائل الطلاب الموريتانيين بهذا الجامع العريق. وفي مصر ربط زين العابدين علاقات مع العالم المغربي أبو شعيب الدكالي والمكي الناصري كما تقول الوثائق الفرنسية. وفي بداية سنة 1932 عاد زين العابدين مشبعا بالفكر الحديث ليعمل على نشره في صفوف الشباب المغاربي.
وقد بعث إليه الشيخ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين وهو في المشرق ليعود إلى موريتانيا سنة 1933 فانتقل من القاهرة وحل بطنجة قادما من مرسيليا تحت مسمى “مبعوث تركي” ليصل بعد ذلك لتيزينت ومن هنالك انتقل إلى مناطق جبال الأطلس.
كان في كل مرة يغير اسمه ففي نوفمبر-أكتوبر 1933 كان في الدار البيضاء تحت مسمى السيد محمد بن عبد الله. ثم عمل محصلا في محل بالدار البيضاء وكان اسمه السيد أحمد الحاجي.
ومن الدار البيضاء ذهب إلى موريتانيا آخذا مسمى محمد بن إبراهيم ومن هناك تم نقله إلى دكار في يناير 1934، ليعود إلى المغرب مرة ثانية وينزعم بمراكش حملة تستهدفت اليهود فتم سجنه بعد اتهامه في ضلوع النشط والقوي في الأعمال المضادة للسامية في مراكش.
ما إن شارك بنشاط وفعالية في بعض التحركات المناهضة للفرنسيين في المغرب والتي منها مضايقة بعض اليهود المغاربة العاملين والخادمين للفرنسيين حتى بدأت شكوك الفرنسيين تحوم حوله. وقد تم إرساله بالطائرة إلى دكار حيث تم تسفيره إلى مسقط رأسه الحوض.
وصل زين العابدين إلى تنبدغة سنة 1934 وحاول أن يجمع شمل المقاومة من جديد مركزا على أتباع الطريقة الغظفية. ولم يكن الشيخ المحفوظ بن الشيخ محمد محمود بن بية موجودا حينها في تنبدغة مما جعل زين العابدين بذهب إلى منطقة كوش ويستقر هناك وفي نيته مقارعة الفرنسيين. لكن عيون الفرنسيين ووشايات بعض الزعماء القبليين به جعلت السلطات الاستعمارية تعتقله من جديد وتفرض عليها نفيا قرب بماكو عاصة مالي حيث ظل في نفيه حتى توفي رحمه الله تعالى ويوجد ضريحه في مدينة من جمهورية مالي تسمي ديلة رحمه الله رحمة واسعة.