لم تكن القضية الوطنية للمغرب والمغاربة يوما موضع شك في عدالتها ومتانة الإجماع حولها حتى تحتاج إلى ما يعزز هذا اليقين بتصريحات تصدر هنا أو هناك، من هذا البلد أو الشخصية أو تلك. من هم في حاجة إلى مراقبة التصريحات، هم أعداء الوطن الذين اختاروا أن يعملوا ضده على مدى العقود الأربعة الماضية، ونقصد جبهة البوليساريو، دون رادع من ضمير أو أخلاق. جبهة ما فتئت تتصدع يوما بعد آخر، داخليا بالأساس، مع تكشف زيف دعاواها للمواطنين الصحراويين المحتجزين لديها، ووهم ما ساقته من أكاذيب لتبرير احتجازهم داخل مخيمات لا تليق بكرامة البشر في تيندوف والحمادة، على “أمل” تبين أنه محض سراب، بقرب إنشاء جمهورية مستقلة جنوب المغرب. تصدع الجبهة الداخلي، يرافقه بعيدا عن الأعين، تصدع أكبر في جبهة الراعي الجزائري الرسمي، بعد أن انفض الرأي العام الجزائري منذ زمن بعيد عن متابعة هذا الملف الذي يسمم علاقتهم مع أشقاء الدم والكفاح المغاربة، ويعقّد العلاقة الطبيعية بين الشعبين الشقيقين.
وإذا كان التصدع الداخلي في تصاعد مع وفاة الزعيم “الصوري” للجبهة محمد عبد العزيز، نتيجة تخبط الأجنحة المتنافسة على وراثته، فإن التصدع الجزائري قد تكرس عبر الكلام غير المسبوق، لأحد كبار الشخصيات “الإدارية” الذي كان دوما قريبا من دوائر الرئاسة والمخابرات، ونقصد وحيد بو عبد الله، الرئيس المدير العام الأسبق للخطوط الجوية الجزائرية، وغيرها من كبريات المؤسسات العمومية الجزائرية، والنائب عن جبهة التحرير الوطني في البرلمان الجزائري، والذي زادت خرجاته الإعلامية مؤخرا، معلقا على قانون “التحفظ المفروض على المتقاعدين العسكريين”، عودة شكيب خليل، الموقف من الفريق محمد مدين “توفيق”، وآخرها ما اصطلح على تسميته إعلاميا “مذبحة الأطر” التي اتهم فيها صراحة رئيس الوزراء الأسبق، مدير ديوان الرئاسة الحالي أحمد أويحيى بأنه عرّابها.
خطورة تصريحات بو عبد الله، تأتي كونها تصدر عن نائب مشهور داخل الحزب التاريخي صاحب الأغلبية في البرلمان، وتعزز ما سبق لرئيس الحزب عمار سعداني أن ذهب إليه بالتركيز على “مصلحة الجزائر أولا”، مطالبا بإعادة النظر في سياسة بلاده نحو المغرب، ومهددا أن لديه كلاما حول قضية الصحراء لو قاله “فسينزل الجزائريون إلى الشوارع”!!
بوعبد الله تابع من النقطة التي انتهى عندها رئيس حزبه، بالتعبير عن مواقف غير مسبوقة، مطالبا زعيمي البلدين الجارين وسلطات البلدين بالجلوس سويا ووضع جميع خلافاتهما فوق الطاولة للبحث عن حلول مناسبة تحفظ مصالح الجميع. مطلب قد يبدو مع ذلك مكرورا. لكن ربطه بمواقف الرجل داخل نفس التصريح تعطيه معنى جديدا، حيث أكد أن البداية يجب أن تكون من “فتح بلاده لحدودها المغلقة في وجه المغرب منذ عام 1994″، وأن، وهذه سابقة، جلوس المغرب والجزائر وجبهة البوليساريو إلى طاولة التفاهم، يجب أن يبنى على أساس الاعتراف بإيجابية “مبادرة الحكم الذاتي المغربية” واستجابة لواقع “تعذر تنظيم الاستفتاء نظرا لاستحالة الاتفاق على هوية من يحق لهم المشاركة فيه”!! كلام لم يكن أحد في الجزائر يتخيل أن يسمعه على لسان أية شخصية عامة، للحفاظ على “الصورة_ الوهم” للتماسك الرسمي والشعبي “خلف حق تقرير المصير للشعب الصحراوي”..
بوعبد الله لم يكتف بذلك، بل عقد مقارنة بين الوضع في البلدين، بين مغرب “تقربه سياسات الملك محمد السادس ومشاريعه التنموية الكبرى من الدخول في ركب القوى الاقتصادية الصاعدة عالميا” وجزائر “أدمن مسؤولوه التغطية على فشلهم في جميع القطاعات عبر إلهاء الجزائريين بالشعارات الفارغة” والتي أطلق عليها “سياسة البنادر”! مؤكدا أن المغاربة لم يكونوا في حاجة لشهادة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ليتأكدوا من أنهم “محظوظون بعاهل نشيط وديناميكي كالملك محمد السادس” واصفا العاهل المغربي بأنه “ملك أفعال لا أقوال”.
تصريحات بو عبد الله، وإن سببت لغطا أقل من ذلك الذي سببته تصريحات سعداني، إلا أنها تصب في نفس الاتجاه، مزيدا من تصدع الجبهة التي تقف وراء البوليساريو “كمشروع” في مقابل مشروع مضاد يقول بضرورة التفاهم مع المغرب عاجلا ام آجلا. وهو ما يعكس تعدد الأقطاب داخل السلطة الحاكمة في الجزائر، وبزوغ نجوم وأفول أخرى، وتبدل المواقع ومعها تبدل عميق في السياسات. عملية تحتاج لرصد عميق لمعرفة مآلاتها، بدل الاكتفاء العبثي بالتمسك بنظرية العداء المطلق بين سلطتي البلدين، واعتبار أن النظام الجزائري عبارة عن كتلة صماء توجد على قلب رجل واحد فيما يخص موقفها المعادي للوحدة الترابية، لاسيما وأن الذي أمسك بهذا الملف على مدى عقود (المخابرات العسكرية ورئيسها الفريق توفيق) قد غادر المشهد السياسي –رسميا على الأقل- وأن محيط الرئيس في حالة تخبط، وأن أذرع “توفيق” الاعلامية والاقتصادية في حالة هجوم، ووسط هذا الركام كله توجد مؤسسة الجيش التي تحاول من جهة الحفاظ على تماسكها، ومن جهة أخرى حماية البلد من التهديدات الخطيرة لحدودها أمام الجماعات الإرهابية، ومن جهة ثالثة، ملأ فراغ جهاز المخابرات الذي تم تفكيك أهم أدواته، والتحسب لحالة فراغ الرئاسة رسميا، بعد أن تأكد فراغها عمليا.
أيا كان الأمر، فمنطق الأشياء وطبيعة الأمور لا بد أن تقود إلى تخلص الجزائر من تبعات الحرب الباردة وتركة الرئيس الراحل بومدين، وتغليب مصلحة الجزائريين والانسجام مع خيارهم الوحدوي المغاربي، واحترام ذاكرة النضال المشترك بين الشعبين الشقيقين.