قبل أربع سنوات، وقف أستاذ في شعبة الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط وسط حلقية أقامها الطلاب الذين أخضعوه لمحاكمة جماهيرية بعد أن وجهت له تهمة ثقيلة هي “التحرش الجنسي”.
الفضيحة تفجرت بعدما صارحت طالبة زملاءها بالشعبة بأنها وقعت ضحية عملية ابتزاز من طرف الأستاذ المذكور، والذي كان يشرف على بحث تخرجها.
“لم يستسغ طلبة الشعبة الأمر، فقرروا وضع خطة للإيقاع بالأستاذ” يقول وفاق، أستاذ مادة الفلسفة بالسلك الثانوي، والذي كان طالبا بنفس الشعبة بالجامعة ذاتها إبان إجراء المحاكمة الجماعية التي دارت أطوارها أمام أبواب الحي الجامعي السويسي، وانتهت بفصل الأستاذ نهائيا من الشعبة بعدما لاقى الخبر “صداه في ردهات إدارة الجامعة”.
يضيف وفاق، الذي يشتغل اليوم أستاذ المادة الفلسفة بالسلك الثانوي ” لقد كان الأستاذ المعني مجرد أستاذ مساعد، ونعلم جيدا أن صلاحيات الأستاذ المساعد محدودة ولا تخوله الإشراف على بحوث الطلبة، لكنه استغل منصبه للإيقاع بإحدى الطالبات وإقناعها بالإشراف على بحثها وذلك لحاجة في نفسه”.
القضية ما كانت لتأخذ هذا البعد لولا أن الطالبة التي فجرتها رفضت السكوت على تحرش أستاذها. “لحسن الحظ”، يقول وفاق، “لم تسلك هذه الطالبة طريق التزام الصمت على غرار باقي الفتيات”.
وإذا كانت طالبة شعبة الفلسفة قد اختارت كسر جدار الصمت وفضح أستاذها المتحرش، تختار عدد من الطالبات الأخريات بالمقابل الخضوع لقانون السكوت وطي المسألة بمجرد انتهاء السنة الجامعية.
“باش يحلى ليه الشرح”
“لم أعتقد أن ذلك اليوم سيكون بداية صفحة سوداء في حياتي” تقول هبة ذات 27 ربيعا، والتي اختارت أن تختبئ وراء اسم مستعار، لتحكي فصول قصتها المؤلمة مع التحرش الجنسي داخل أسوار الحرم الجامعي، حيث وقعت ضحية أستاذها ومؤطرها بسلك الإجازة شعبة علم النفس بإحدى الكليات التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط.
بنبرات متقطعة، تحدثت هبة “كان يوم الثلاثاء من فصل الربيع، لم يكن من عادتي حضور حصة ذلك الأستاذ، لكن نظرا لاقتراب موعد الامتحانات، وجدت نفسي مجبرة، أتذكر جيدا أنني ارتديت قميصا أحمر اللون، وأتمنى لو أنني لم أفعل”. صمتت لبرهة ثم تابعت ” ما إن ولجت قاعة الدرس، حتى بدأ أستاذي، الذي طالما كان قدوة لي، بالتغزل بي. لم أستطع تحمل عبء الإحراج الذي شعرت به أمام زملائي فقررت الانزواء في أحد أركان قاعة الدرس، عسى أن أستطيع التقاط أنفاسي. لكنه أصر على أن أجلس أمامه مباشرة “باش يحلى ليه الشرح” كما قال.
لم يخطر ببال هبة أن الأستاذ كان جادا في ما قاله، لذلك لم ترى مشكلة في أن تطلب منه الإشراف على بحث تخرجها خصوصا في ظل عدم تمكنها من إيجاد أستاذ مشرف. الأستاذ وجد في ذلك مناسبة للاستفراد بضحيته المقبلة، حيث ضرب لها موعدا غير اعتيادي على الساعة السادسة والنصف مساء بمكتبه في الكلية.
بعد لقاء أول أصر الأستاذ على أن يكون شخصيا مؤكدا رغبته في التعرف أكثر على هبة في حين لم يولي أي اهتمام لبحثها، ضرب لها بعد أسابيع موعدا آخر في نفس التوقيت والمكان.
“بمجرد أن دخلته حتى أقفل الباب بالمفتاح، وحاصرني على الحائط من أجل تقبيلي، حاولت جاهدة مراوغته، لكن لم أستطع” تضيف هبة بصوت مرتجف. “طلب مني الجلوس، أحضر القهوة وعلبة الشوكولاتة كما في اللقاء الأول بينما كانت رائحة زكية وموسيقى كلاسيكية تملأ المكان. جلس بقربي وأمسك بيدي قائلا “كتعجبيني وإلا بقيتي معايا مايخصك خير”.
الأستاذ حاول إغراء طالبته من خلاله منحها ميزة “حسن” ومساعدتها على الحصول على شهادة الماستر والدكتوراه لاحقا والتوسط لها للتدريس بالكلية على غرار عدد من الأستاذات اللواتي رضخن له سابقا على حد زعمه.
التفكير في الخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر دون أن يكون ذلك على حساب شهادتها الجامعية أو شرفها كان هو ما يشغل هبة. خلال اللقاء الثالث والأخير حيث كان من المفترض أن تسلم له النسخة النهائية من البحث، ذهبت وكلها توجس من الخطوة المقبلة التي يمكن أن يقدم عليها الأستاذ.
“جلس بقربي ثم بدأ بمعانقتي وتقبيلي، وفجأة وقف، ثم نزع بنطاله وملابسه الداخلية وطلب مني ممارسة الجنس معه، “تصدمت وتخلعت” شعرت بأن قلبي على وشك التوقف من سرعة الخفقان”، تقول الطالبة وهي تستعيد ذكرى تجربتها المخيفة.
أمام الاندفاع الشبقي للأستاذ جاء الخلاص من حيث لا تدري. ” إنني حائض اليوم”، بادرته هبة بالقول. “وشنو ندير أنا دابا” رد الأستاذ والصدمة والغضب يعلوان وجهه. لأجل التملص من هذا الموقف لجأت الطالبة إلى حيلة ثانية، واعدة الأستاذ بأنها ستكون له بالكامل حالما تنتهي دورتها الشهرية، لتخرج من الورطة التي وإن لم يحصل فيها الأستاذ مراده، إلا أنها خلفت أثرا نفسيا عميقا لدى الطالبة.
“متزوجة؟…وما العيب في الخروج معي”؟
نور “اسم مستعار”، 26سنة، هي الأخرى كانت ضحية لأحد أساتذتها خلال فترة التأطير بسلك الماستر، بجامعة محمد الخامس بالرباط. تقول نور ” كنت حريصة على اختيار مؤطر كفء لبحثي في سلك الماستر، نظرا لتجاربي السيئة مع بعض الأستاذة في هذه الكلية.
وقع اختيار نور على أستاذ يشهد له بالتفاني في العمل وتأطير البحوث، بالإضافة إلى اللطف الذي كان يبديه تجاه طلبته. سعادة نور كانت كبيرة بعد أن تحمس الأستاذ للإشراف على بحثها، حيث عرض عليها المساعدة من خلال التوسط لها لإجراء تدريب في إحدى المؤسسات المعروفة من أجل أن تتمكن من إنجاز بحث ميداني.
قصص تحرش الطالبات لم تكن غريبة على نور، لكنها كانت تعتقد أنها مجرد إشاعات ولم تظن يوما أنها يمكن أن تصبح بطلة لإحداها.
شيئا فشيئا بدأ الأستاذ يتجاوز حدود المسوح به في العلاقة مع طالبته بعد أن صارته دعواته لتناول الغذاء أو شرب القهوة بعيدا عن الجامعة تكرر، ناهيك عن عبارات الغزل من قبيل إعجابه بشخصية الطالبة لكونها “فتاة ناضجة”.
“تجاهلت رسائله ودعواته المتكررة، كما أكدت له أنني متزوجة”، بيد أن ذلك لم يمنع الأستاذ من الاستمرار في تعقب طالبته، معتبرا أن لا شيء يمنعها من الخروج معه حتى ولو كانت متزوجة.
امتناع نور عن الرضوخ لتحرش أستاذها دفع الأخير إلى نهج سلوك انتقامي من خلال رفضه تقديم المساعدة لها في البحث ومنحها نقطة موجبة للرسوب “لا لشيء سوى لأنه أراد مقابلتي يوم الامتحان الاستدراكي لكي يؤكد لي أنه لازال معجبا بي”.
تقول نور أنه وإن كانت تجربتها قد مرت بسلام، فإن عددا من الطالبات لا زلن يعانين اليوم في صمت خلف أسوار الجامعة المغربية، في ظل تماطل المسؤولين عن متابعة المتحرشين من الأساتذة، وكذا عدم وجود قانون زجري يضمن حق الطالبات في مثل هذه الحالات.
الأستاذ.. “رسول ولا يحق له الخطأ”
يعرف صلاح العريني، الباحث في علم الاجتماع، التحرش الجنسي بكونه كل فعل يثير مضايقة ويتسبب للغير في الشعور بانعدام الأمن والإحراج. ويتميز هذا الفعل بممارسته من طرف شخص يتوفر على سلطة، مادية كانت أو معنوية، مشيرا إلى أن هذا الفعل لا يقتصر على الحرم الجامعي فحسب، وإنما يحضر في جميع الأوساط الاجتماعية، من مؤسسات عمومية وخاصة بما فيها المساجد والمدارس.
في نفس الإطار، يؤكد الباحث السوسيولوجي أن الظاهرة ليست حكرا على مجتمع دون غيره، فهي ظاهرة عالمية وتاريخية، كما انها لا ترتبط بسلطة الأستاذ، وإنما بسلطة الذكر، حيث أن الإحاطة بالظاهرة لا تتم في منأى عن مفهوم الذكورية، حسب قوله.
وعن سبب حضور التحرش الجنسي داخل الحرم الجامعي، أرجع العريني ذلك إلى عدة أسباب من بينها الاستقلالية التي تحصل عليها الطالبات بعد الانتهاء من مرحلة التعليم الثانوية والمرور إلى التعليم العالي، واصفا إياها بـ “مرحلة الانعتاق من الوصاية الأسرية”، والتي بموجبها تمنح للطالبة الفرصة لتفجير ما سبق حرمانه، على رأس ذلك الاعتناء بالجسد ومحاولة لفت انتباه الأقران.
إلى جانب مسألة الاستقلالية، يسطر الباحث الجامعي على النضج القانوني بالنسبة للطالبات، وكذا غياب السلطة التفتيشية والرقابة بالنسبة للأستاذ الجامعي، الذي لا يراعي أخلاقيات حرمة المكان ويستغل سلطته لابتزاز الطالبات مقابل الحصول على نقط جيدة، خاصة وأن نظام التنقيط في الجامعة لا يخضع لرقابة الإدارة كما هو الشأن بالنسبة للتعليم الإعدادي والثانوي.
“التحرش الجنسي، ظاهرة مرتبطة بالأساس بمفهوم الهيمنة الذكورية في المجتمع، والتي تعطي للأستاذ “الذكر” الحق في ممارسة جانب من سلطته عن طريق ابتزاز الطالبات، اللواتي لا يميز بين شكلهن بحيث يمكن أن تقع الطالبة المحجبة بدورها ضحية للتحرش”، يقول العريني.
ويؤكد الباحث في علم الاجتماع، أن لتحرش الأستاذ بطالباته تبعات على المستوى الاجتماعي والأخلاقي، مشيرا إلى أن صورة “الأستاذ القدوة” تتخلخل في أعين الطلبة والمجتمع ككل، حيث يتعرض للمحاسبة الاجتماعية على أساس أنه “رسول ولا يحق له الخطأ” وهو الأمر الذي “يفقد خطابه المصداقية كما يمس رصيده الأخلاقي والاجتماعي”.