تشعر الأرملة الليبية هالة عمر، بالخوف منذ أن عرفت بحصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) لعدد النساء المطلقات والأرامل والعوانس في مدينتها سرت، إذ ينوى قادة التنظيم تزويجهن بمسلحيه المنتمين إلى ليبيا وعدد من الدول العربية، بعد أن حصل على كشوف بأسمائهن وعناوين منازلهن وأسماء عائلاتهن من السجل المدني في المدينة، بعد اختطاف أحد مسؤولي السجل عدة أيام وسلب الأختام والبيانات منه.
فقدت السيدة عمر زوجها في ثورة السابع عشر من فبراير خلال قتاله ضد كتائب الديكتاتور الليبي الراحل معمر القذافي، حياتها تحولت منذ تلك اللحظة، إذ باتت تعاني وأطفالها الخمسة، لكن سيطرة داعش، على مدينتها في مارس/آذار الماضي، وطرد فجر ليبيا التابعة للمؤتمر الوطني منها، ضاعفت تلك المعاناة، وباتت حياتها وحياة أبنائها مهددة إذا رفضت تنفيذ أمر داعش، مثلما وقع لعشرات من أبناء المدينة ممن قتلهم أو سجنهم التنظيم، أو ممن أصبحوا من المختفين قسريا من أبناء المدينة الواقعة في وسط الشمال الليبي.
بعد سيطرة تنظيم الدولة على سرت، خرجت معلومات شحيحة عن ممارسات تعسفية من قبل التنظيم، بحق الأهالي، غموض شديد يلف المدينة دفع “العربي الجديد” لتقصي حقيقة ما يجري خلف أسوار أصحاب الرايات السود، الذين باتوا يسيطرون على واحدة من آخر معاقل أصحاب الرايات الخضر، من أتباع معمر القذافي الذين نقل أحدهم ممن يقاتلون مع داعش لمعدّ التحقيق، أن عناصر التنظيم قالوا له ولعدد من زملائه، “لو أن القذافي لم يحاربنا في ديننا لحاربنا الكفار المرتدين الموالين للناتو معه (أي الثوار)”، إذ إن أفراد التنظيم يقدرون للقذافي مقاتلته قوات الناتو، معتبرين إياه جهاداً مقدساً ضد غزو الأعداء.
ويكشف المقاتل الذي عمل عسكريا سابقا في كتائب القذافي، أن القول بأن أعوان نظام القذافي يناصرون التنظيم غير صحيح، رغم انضمام بعض العسكريين من سكان سرت (بعضهم من قبيلة القذافي) إلى التنظيم كمقاتلين، إذ إنهم لم يحتلوا مراكز قيادية فيه، على حد قوله.
ووفقا لما وثقه “العربي الجديد”، عبر شهادات عسكريين ونشطاء ومواطنين من أبناء سرت، نجحوا في الخروج منها، فإن المدينة لا يرفع فيها أو في توابعها، ما بين بوابة الستين الغربية وبوابة الستين الشرقية كما تعرفان محليا، (استحكامين عسكريين يقع كلاهما على بعد 60 كيلومترا من المدينة)، إلا الراية السوداء المعبرة عن سيطرة التنظيم، ولا وجود لعلم الثورة الليبية، ولا لعلم نظام القذافي الذي يدين له عدد كبير من السكان بالولاء، فكلا الرايتين طاغوتية لا يرفعهما إلا كافر، كما تنص أدبيات التنظيم وفقاً لما أفاد به عدد من أهالي المدينة لـ”العربي الجديد”.
أثناء أحداث ثورة السابع عشر من فبراير، دمرت سرت، التي كانت من آخر معاقل القذافي، لاستهدافها بالسلاح الثقيل بشكل مفرط، لكن سيطرة داعش أتت على ما تبقى فيها من عمران، “لكن الغريب أن الليبيين في المناطق الأخرى في شرق ليبيا وغربها لم يشعروا بالكارثة بعد، إذ إن أغلبهم يظن أن مأساة ليبيا تكمن في ما حدث ويحدث في بنغازي، لكن الكارثة الحقيقية التي قد تمزق ليبيا وتقسمها وتعرضها للخراب التام هي ما حدث في سرت”، وفقا لشهادة محمد إدريس، أحد أبناء سرت، التي أدلى بها عبر الهاتف من المدينة لـ”العربي الجديد”.
وتعاني مدينة سرت نقصا في الخبز والوقود وغاز الطهي وتردي شبكات الاتصالات وانقطاعا متكررا للكهرباء وسوء الخدمات الصحية وإغلاق المستشفيات وارتفاع الأسعار ونقص المواد الأساسية، خاصة تلك التي تهم شريحة الأطفال بالدرجة الأولى كالحليب والدواء وفقا لشهادات عدد من الأهالي، الذين أكدوا لـ”العربي الجديد”، أن التنظيم أقدم أيضا على خطوة استفزتهم بحصر النساء المطلقات والأرامل والعوانس في سرت لتزويجهن بمسلحيه، علاوة على إغلاق عناصر التنظيم للمحلات التي تبيع السجائر بهدف منع التدخين في المدينة.
وتحذر الحقوقية الليبية والناشطة في قضايا المرأة والأسرة نجاح حسن الدامي، من أن سيطرة داعش على سرت كان لها انعكاسات خطيرة على الأسرة والمرأة بشكل خاص، وتقول لـ”العربي الجديد”:”بالإضافة إلى تداعيات الحرب نفسها من تهجير وتشريد طاولت النساء والأطفال، فإن التنظيم يضع المرأة في إطار معين يحط من قدرها ودورها في المجتمع، ولديه فلسفة في التعامل معها بدونية، أما العمل وقيادة السيارة والحركة والتنقل فهي أمور يحظرها التنظيم على النساء”.
تفوق عسكري
حسن السرتاوي (اسم مستعار) لضابط عسكري ليبي من أبناء مدينة سرت، وصف لـ”العربي الجديد” قدرات التنظيم في المدينة، قائلا “المدينة خاضعة كليا لداعش، فهو يسيطر على كل مفاصلها سيطرة تامة بواسطة مجموعات عسكرية وإدارية منظّمة بشكل دقيق، منذ تمكنه من طرد القوات التابعة لرئاسة أركان المؤتمر الوطني، على خلفية تكفير التنظيم لمن يمتنع عن مبايعة زعيم التنظيم أبوبكر البغدادي، إذ أصرّ التنظيم على رفع رايته أعلى المؤسسات الرسمية مما نتج عنه اشتباكات حاولت فيها قوات المؤتمر فرض سيطرتها على المدينة، لكن التنظيم نجح في طردها والاستحواذ على سرت وأعلنها إمارة تابعة للتنظيم”.
اتخذ التنظيم من مجمع “واغادوغو” الذي يعد أهم مجمع حكومي في سرت مركزا لقيادته، ويتميز المجمع الذي بناه النظام السابق بأنه مقاوم للقذائف المدفعية والقصف الجوي.
باستيلاء التنظيم على سرت انهارت قناعة كانت سائدة في المنطقة بأن قوات المؤتمر هي الأقوى في وسط ليبيا مما أحدث دعاية للتنظيم، خاصة بعد تنكيلة بأسرى قوات المؤتمر والتمثيل بجثامينهم أمام الجميع بتهم الجاسوسية والردة عن الإسلام والخيانة، بحسب ما يقول السرتاوي.
ويتفق مواطنون ليبيون من سرت مع الضابط العسكري، مؤكدين أن ثقل التنظيم من سلاح وعتاد ومقاتلين يتركز في منطقتي هراوة والنوفلية شرقي مدينة سرت، إذ اتخذ التنظيم من مجمع “واغادوغو” الذي يعد أهم مجمع حكومي في سرت مركزا لقيادته، ويتميز المجمع الذي بناه النظام السابق بأنه مقاوم للقذائف المدفعية والقصف الجوي، وتتمركز فيه أحيانا القيادات البارزة للتنظيم التي يوجد من بينها قيادات عربية وأفريقية إلى جانب مقاتلي التنظيم، وفق ما يؤكد الأهالي.
ويتخذ مسلحو التنظيم من الأودية مقرا لهم، ويحرصون على عدم مغادرة أهالي سرت المنطقة التي يتواجدون فيها، “ولا يتركزون في مكان واحد حتى لا يتعرضوا لهجوم بأسلحة فتّاكة من خصومهم بسبب خلو المنطقة من المدنيين” كما يقول العسكري السرتاوي، الذي أكد أن التنظيم يقوم أحيانا بنقل الأهالي وترحيلهم من منطقة إلى أخرى في نطاق سرت، لكنه يبقيهم تحت تصرفه ولا يسمح لأحد بمغادرة نطاق سيطرته، وحتى الحالات المرضية الخطرة وحالات الولادة لا يسمح لها بالمغادرة إلا بإذن وموافقة أمير التنظيم في سرت، بعد تقديم ما يضمن العودة عقب انتهاء العلاج، وأغلب الحالات يتم السماح لها بالذهاب فقط لمستشفيات واقعة ضمن نطاق جغرافي يخضع لسيطرة التنظيم كمستشفى رأس لانوف.
ويعتقد السرتاوي أن “انتزاع المدينة من يد التنظيم لن يتم إلا بغطاء جوي كامل لا يقل عن 25 طائرة مقاتلة حديثة تحصر قواته في مناطق محددة قبل قصفها وتدميرها وتحويلها إلى أرض محروقة وهذا النوع المتقدم من السلاح الجوي ليس موجودا في ليبيا، ولن تستطيع أي من الحكومتين المتنازعتين في طرابلس وطبرق توفيره بجهد محلي، إذ كشف التنظيم في الاستعراض العسكري الذي نظمه بطول طريق السبعة-النهر (طولها حوالى 18 كم) عن سيارات حديثة مسلحة بسلاح متوسط وثقيل يفوق القدرات المحلية، لإرهاب السكان، حتى لا ينتفضوا عليه”.
رأي السرتاوي، يعارضه الكاتب والمحلل السياسي الليبي عبدالحميد النعمي، الذي يرى أن داعش في سرت يمثل ظاهرة إعلامية أكثر منها سياسية أو عسكرية، “فهو لا يشكل خطرا حقيقيا وليس له مقومات الصمود والاستمرار، وباستطاعة الليبيين وبجهد محلي بدون دعم دولي إن اتحدوا تطهير البلاد من داعش” كما قال لـ”العربي الجديد”.
الحكم بالـرعب:
وفقاً لشهادات أبناء سرت لـ”العربي الجديد”، فإن التنظيم يعتمد في جمع المعلومات على نشر سلوك الوشاية وشراء الذمم والولاءات ويجبر المواطنين على الاستتابة (إعلان التوبة) ومبايعة قيادة التنظيم، كما يقوم بالتمثيل بالجثث وتعليق الأسرى بالحبال على السواري وأعمدة الإنارة في شوارع المدينة بعد قتلهم، ليراها المارة معلقة عدة أيام كنوع من الردع بالرعب. وقتل التنظيم حديثا 36 من أهالي سرت أغلبهم من قبيلة الفرجان التي حاولت -يساندها عسكريون من كتيبة الجالط التابعة للجيش الليبي- مواجهته على خلفية قتل التنظيم للشيخ خالد الفرجاني وهو شيخ سلفي (مدخلي) هاجم التنظيم صراحة في خطب الجمعة، واصفاً منتسبيه بـ”الخوارج، واجبٌ قتالهم والجهاد ضدهم” إذ اندلعت مواجهات شرسة في الحي رقم 3 بالمدينة بداية أغسطس/آب المنصرم كشفت عن تفوق عسكري كبير لداعش بالمدينة.
للمزيد:داعش يعلن تخرج أول دفعة لـ “أشبال الخلافة” في سرت الليبية
وخلافا لما راج مؤخرا عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي لا يتمتع التنظيم بحاضنة اجتماعية في سرت، كما أفاد شهود ونشطاء من المدينة لمعد التحقيق، مؤكدين أن داعش يصفّي حساباته مع من يعتبرهم خصومه في المدينة بحرق بيوت بعضهم أو هدمها، ولا سيما من كان من أهالي سرت منضمّا لإحدى الكتائب المناوئة له وخصوصا الكتيبة 166 التابعة لرئاسة أركان طرابلس التي حاصرت التنظيم عدة أشهر قبل أن تنسحب قافلة إلى مصراته (شمال غرب).
ثري ويتضخم:
ينفق التنظيم أموالا طائلة على عمليات تجنيد الشباب، ووفقا لشهود عيان اتبع التنظيم خلال الفترة الماضية سياسة إغراء الشباب بمبالغ مالية تقدر غالبا بمتوسط 1500 دينار (500 دولار تقريبا)، مقابل الانضمام إلى صفوفه والقتال معه، وهو ما عزز من قوته وزاد من عدد مقاتليه الذين يقدر بعض الأهالي عددهم بأكثر من ألفي مقاتل، فيما قال تقرير نشرته الأمم المتحدة بداية الشهر الحالي أن عدد مقاتلي تنظيم الدولة في ليبيا يعد بين ألفين وثلاثة آلاف، بينهم 1500 عنصر في سرت.
إقرأ أيضا:هل وصل زعيم “تنظيم الدولة” إلى مدينة سرت الليبية؟
وبحسب تقرير لنشرة “سمول آرمز” صدر تحت عنوان “الجنوب الليبي المشاكس وعدم الاستقرار في الإقليم” في بداية عام 2014 فإن مقاتلي التنظيم يصلهم دعم مستمر، وخصوصا من جهة الجنوب الليبي (الصحراء)، التي تعد ممرا آمنا للجماعات المتطرفة تستخدمه في التنقل بالاعتماد على حلفاء قبليين، من دون أن تستوطن به”.
ووفقا لتقرير النشرة، فإن السكان المحليين يؤكدون هذا الوجود، لكنهم ينفون بشكل قاطع إقامة هذه المجموعات الجهادية معسكرات تدريبية أو تجنيد السكان المحليين، إذ إن التعبئة العسكرية في المنطقة الجنوبية، تجري في الغالب على أسس قبلية وعرقية، وهو رأي يتفق معه الناشط الليبيبي حسن التباوي الذي أكد لـ”العربي الجديد”، أن جميع التحركات العسكرية والنزاعات المسلحة في الجنوب ذات خلفية قبلية وعرقية، لا صلة لها بما يحدث في سرت ودرنة وبنغازي من نشاط لجماعات جهادية.
جنسيات المقاتلين
يرى العسكري الليبيي حسن السرتاوي، أن العديد من مقاتلي داعش في لبيبا، سودانيو الجنسية، نجح التنظيم في تجنيدهم في السودان وإدخالهم عن طريق حدود البلاد المفتوحة من الجنوب إضافة إلى يمنيين وجزائريين وتونسيين وجنسيات أخرى عربية وإفريقية مختلفة بأعداد قليلة وهم في كامل القوة والاستعداد.
السرتاوي أضاف أن التنظيم في سرت لا يعاني من قلة السلاح، ولا يواجه صعوبة في التسليح، فهو مسلح بما يكفي ويفيض عن حاجته منذ دخوله إلى سرت، إذ انضمت إليه عقب إعلان إمارته خلايا جهادية موجودة في المدينة منذ ثورة 2011، وهي العوامل التي جعلت من قدرة قوات المؤتمر الوطني العام على دحر التنظيم التي كانت في المدينة مستحيلة، لكن الأمر قد يتغير بعد نجاح الفرقاء في الاتفاق على توحيد حكومتي طبرق وطرابلس، كما يعتقد الضابط الليبي السابق.