أظهرت الخريطة التي نشرتها السلطات التركية أن طائرة سو 24 الروسية التي أسقطتها طائرتان تركيتان من طراز أف 16 قد حلقت في المجال الجوي التركي على مدى عشرة أميال على الأكثر، وهي المسافة التي تصل بين جانبي اللسان التركي الممتد في الأراضي السورية في إقليم هاتاي.
وبحسب بيانات صانع الطائرة الروسية، فإن السرعة الأدنى التي يمكن لهذه الطائرة أن تحلق بها تبلغ مئتي ميل في الساعة. أي أن الطائرة لا يمكن أن تكون قد أمضت في المجال الجوي التركي أكثر من 3 دقائق.
ولكن إذا افترضنا أنها لم تكن تحلق بالسرعة الأدنى، وهذا هو الأرجح، فقد يكون زمن الاختراق الجوي أقل من دقيقة واحدة. وكان البنتاغون أكّد أن البيانات المأخوذة من مسرح العمليات توضح أن الطائرة الروسية حلقت بضع ثوان فقط في المجال الجوي التركي. ثوان قليلة كانت كافية لتحذيرها عشر مرات ثم إسقاطها.
تحدّي “سيّدة الجو” :
وقائع ما حصل لا تدل على أنه حادث عارض بالنسبة للجانبين. من الجهة الروسية، ليس خافياً على المتابع لوقائع التدخل الروسي في سوريا، أن الإدارة الروسية تصرفت منذ اللحظة الأولى بوصفها ليست سيدة الجو السوري فحسب، بل دولة عظمى في المنطقة ولا يحق للآخرين التجرؤ على محاسبتها.
في الأيام الأولى للتدخل الروسي المباشر في سوريا، اعترضت الحكومة التركية على تحرش مقاتلات روسية بمقاتلات تركية كانت تقوم بدورية اعتيادية على الحدود. لم تمض ساعات على الإعلان التركي حتى أعادت المقاتلات الروسية الكرة مرة أخرى. كما تعرضت طائرات تركية مرة ثانية في غضون ساعات لعملية تحرش جوي.
وبعد ذلك بأيام أفادت السلطات التركية أن بطاريات صواريخ مضادة للطائرات منصوبة على الأراضي السورية وجهت صواريخها نحو طائرات تركية في عملية تحرش ثالثة خلال أقل من أسبوع.
الأميركيون أنفسهم اشتكوا من أن طائرات روسية حلقت على مسافة قريبة جداً من طائرات أميركية فوق سوريا ولم تستجب لنداءات التعريف عن هويتها.
وقبل أيام أبلغت روسيا سلطات الطيران المدني اللبناني، وخارج الأطر الرسمية تماماً، قرارها بإغلاق أحد أهم مسارات الطيران المدني التي يستخدمها لبنان، بسبب مناورات بحرية تجريها البحرية الروسية في المتوسط. وخلافاً لكل الأعراف الديبلوماسية، لم تنتظر السلطات الروسية موافقة الحكومة اللبنانية على الطلب. في الفترة نفسها، أغلقت المطارات في شمال العراق بسبب اختراق صواريخ كروز روسية تطلق من بحر قزوين للأجواء العراقية.
قرار مسبق بإسقاط الطائرة:
على الجانب التركي، كان واضحاً أن القرار بإسقاط الطائرة متخذ من قبل. وسهّلت “الوقاحة الروسية” المهمة على الأتراك، إلى حد بدوا معه كما لو أنهم حقاً يدافعون عن سيادة أجوائهم.
وبخلاف المرات السابقة التي تميز فيها الرد التركي على التحرشات الروسية بالتعقل، فإن أنقرة لم تسلك طريق الاعتراض التقني هذه المرة، بل لم تحاول إجبار الطائرتين الروسيتين على التحليق بعيداً عن مجالها الجوي. تم إسقاط الطائرة بغية إفهام موسكو أن القصف في المنطقة التي تقصف فيها يعتبر بالنسبة لتركيا خطاً أحمر دونه الاستعداد للدخول في حرب.
وعلى الأثر، أكد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن قرار مساعدة التركمان في سوريا لا تراجع عنه، وكذلك الأمر بالنسبة لإقامة منطقة آمنة داخل سورية. وهذه المرة لم يتردد إردوغان في التصريح بأن حكومته تقدم السلاح للمقاتلين التركمان الذين “يدافعون عن أنفسهم ومناطقهم في وجه نظام ظالم”.
الخلاصة، ثمة توتر مقصود يريد منه الأتراك القول إنهم مستعدون لقلب الطاولة، وعلى الروس أن يقرروا ما إذا كانوا مستعدين للدخول في مواجهة جدية مع تركيا هذه المرة.
هل تندلع حرب روسية تركية؟
لا يختلف اثنان في ما يتعلق بالتفوق الروسي عسكرياً على تركيا. لكن الجيش التركي ليس جيشاً ضعيفاً. والواقع أن تركيا عضو في الناتو يعني أن القرار التركي بالتصعيد سيضع الناتو في موقف صعب فعلاً، لكنه أيضاً سيضع روسيا في موقف أصعب.
بحسب ردود الفعل الأولية، يصعب التقدير إذا ما كان الناتو سيدافع عن تركيا، أو سيفعّل المادة 5 من ميثاقه، والتي تنص على أن أي اعتداء على دولة من الناتو هو اعتداء على الحلف.
وفي الجانب الأميركي، لم يبدُ على الرئيس باراك أوباما أنه متحمس للدفاع عن حلفائه. تصريحات واشنطن بدت أشبه بتصريحات الأمم المتحدة: دعت إلى خفض التوتر، وأكدت أن من حق تركيا الدفاع عن نفسها، لكنها أكدت أيضاً أن الطائرة الروسية لم تخرق المجال الجوي إلا لثوان معدودة. وبكلام آخر: هذه الثواني لا تستأهل أن نشن حرباً كبرى.
لكن المتغير في مشهد دول الناتو هو اللاعب الفرنسي، الذي جاء إلى البيت الأبيض وهو يقرع طبول الحرب. كان المشهد مخالفاً تماماً لمشهد الرئيسين الفرنسي جاك شيراك والأميركي جورج دبليو بوش منذ 14 عاماً، حين كان الأخير يصر على الدخول في حرب العراق، وكان الأول يؤكد له أن النصر في المعركة لا يحقق لأميركا السلام الذي تنشده. هذه المرة، كان أوباما يطالب بتخفيف التوتر، وهولاند يؤكد أنه سيعمل مع تركيا على إقامة منطقة آمنة.
في النتيجة، لن تستهين روسيا بقدرات دولتين مثل تركيا وفرنسا، فضلاً عن احتمالات الدعم السعودي شبه المؤكدة. وهذا ما يعني أن أيّة خطوة خاطئة في هذا السياق قد تؤدي فعلاً إلى نشوب حرب، ليس مؤكداً أن لروسيا اليد الطولى فيها. فبين الدول الثلاث يبدو الاقتصاد الروسي هو الأضعف، وتالياً قدرة الحكومة الروسية على تمويل حرب مكلفة محدودة جداً، بعكس خصومها الثلاثة. وعليه، فمثل هذه الحرب لن تكون نزهة من دون أن يعكر صفوها أحد.
على أيّة حال، أكدت واقعة إسقاط الطائرة الروسية، أن أولى الخسائر البشرية الروسية في سورية جاءت على يد الأتراك. وأن هذا المسار فُتح ولن يغلق قريباً. بمعنى أنه إذا لم تحافظ روسيا على مصالح الدول المتدخلة في الشأن السوري وتراعيها فإنها ستتعرض آجلاً، وعلى الأرجح عاجلاً، لحرب استنزاف لا تملك القدرة على الصمود فيها طويلاً.