مضى ربع قرن عن عقد قمة «الإستراتيجية الكبرى للتنمية المغاربية المشتركة»، القمة التي عقدتها بلدان المغرب العربي سنة 1991 بـ«راس لانوف» الليبية، حينئذ أقرت القمة مجموعة من الأهداف المسطرة بغاية تحقيق الوحدة الاقتصادية المغاربية خلال سقف زمني محدد، من بين تلك الأهداف ضمان حرية تنقل الأشخاص والسلع ورؤوس الأموال، ووضع خطط لتعزيز التبادل التجاري بين أعضاء الاتحاد، وكذا العمل سويا على نهج سياسة اقتصادية مشتركة.
غير أنه لا شيء من ذلك تحقق حتى الآن، ولا زالت اقتصادات البلدان المغاربية الهشة تعمل بشكل انفرادي في سياق عالمي، يتجه نحو التكتلات الاقتصادية لمواجهة تحديات العصر.
واقع المبادلات التجارية
حصر تقرير اللجنة الاقتصادية الإفريقية التابعة للأمم المتحدة، حجم المبادلات التجارية بين البلدان المغاربية خلال 2015 في 4,8 في المائة من مجموع المبادلات التجارية لهذ البلدان بقيمة مالية لا تتجاوز الملياري دولار، واصفا التقرير سوق المنطقة المغاربية بأنها «الأقل دينامية في العالم رغم توفرها على الضروريات».
في الوقت الذي فيه تبلغ التجارة الخارجية البينية في دول جنوب شرق آسيا %21، ودول أمريكا الجنوبية: %14,8، في حين تصل مبادلات بلدان الاتحاد الأوروبي حوالي %66 من الحجم الإجمالي للمبادلات التجارية لبلدان المنطقة.
وتفضل كل دولة بالمنطقة المغاربية التعاطي مع بلدان أوروبا كشريك رئيسي بدل المبادلة بينها تجاريا، حيث تستحوذ إيطاليا وفرنسا وإسبانيا عن معظم تجارتها الخارجية، مع العلم أن جزءا مهما من المواد المستوردة من قبل كل بلد مغاربي متوافر لدى جيرانه، كالشأن مع النفط المتوفر عند الجزائر، والخضروات والفواكه المتوفرة لدى المغرب، والمعادن الموجودة لدى موريتانيا.
وسيزداد المرء ذهولا إذا علم أن كل الترتيبات التنظيمية التي تستدعيها المبادلة التجارية بين أعضاء المنطقة المغاربية مسطرة منذ سنوات على الورق، حيث تم التوقيع على ما يقارب أربعين اتفاقية في هذا الصدد، منها اتفاقية توحيد التعريفة التجارية واعتماد التبادل الحر، إلا أنه يبقى كل ذلك مجرد بروتوكولات شكلية لا تترجم إلى الواقع.
من جهة أخرى لا تساهم صادرات الدول المغاربية الخمس مجتمعة في التجارة العالمية إلا بـ %1 من مجمل التصدير العالمي، أي ربع صادرات فرنسا وثلث صادرات بلجيكا، أما إيراداتها فلا تكاد تبلغ %0,55، وضعف التصدير والتوريد يحيل إلى أن اقتصاديات بلدان المغرب العربي تعاني من هشاشة فادحة، وغير قادرة على الانفتاح نحو الأسواق الخارجية، مما يجعلها أحوج إلى المبادلات التجارية بينها لتنشيط اقتصاداتها بعض الشيء.
عوائق تحقيق البلدان المغاربية للاندماج الاقتصادي
تعد هزالة المبادلات التجارية البينية في المنطقة المغاربية، كما بيناها آنفا، بحد ذاتها عائقا لتحقيق تكامل اقتصادي، إذ تعتبر المبادلات التجارية مدخلا رئيسا للوصول إلى هذا المبتغى المنشود، وغياب تراكم في تجربة المبادلات التجارية المغاربية لا يوفر خبرة كافية لانطلاق دينامية فعالة تسير قدما نحو اندماج اقتصادي في ظل سياق عالمي يزداد تشعبا ومنافسة.
كما تفتقد الدول المغاربية للبيئة المواتية لتحقيق تكامل اقتصادي فعال مثلما يذكر تقرير اللجنة الاقتصادية الإفريقية الأممية، حيث يسجل بالمنطقة المغاربية ضعفا في البنية التحتية اللازمة للمبادلات التجارية الخارجية مثل الموانئ و السكك وأساطيل السفن والطائرات، علاوة على البيروقراطية المعقدة التي تعرقل سير المبادلات التجارية بالإضافة إلى تباين السياسات الجمركية بين بلدان المغرب الكبير.
لكن العراقيل الرئيسية التي منعت قيام اتحاد اقتصادي مغاربي طوال ربع قرن من إعلان وثيقة لم الشمل، تكمن في الجانب التاريخي والسياسي، فبينها معوقات ظرفية وأخرى لا زالت مستمرة حتى الآن.
بدأت هذه المعوقات الظرفية بانفجار الوضع الأمني بالجزائر في بداية التسعينيات، ثم ظهرت أزمة لوكربي بين ليبيا والغرب، والخلاف السياسي بين أعضاء المغرب العربي حول مسار السلام الإسرائيلي الفلسطيني وأخيرا انهيار الوضع بليبيا.
بيد أن الخلاف بين المغرب والجزائر حول قضية الصحراء كان دائما ولا زال العائق الأكبر أمام الوصول إلى سوق مغاربية مشتركة، فلطالما خلفت هذه المشكلة الحادة عداء سياسيا بين البلدين وقوضت عنصر الثقة بينهما، مما أضاع على المنطقة المغاربية وشعوبها الكثير من الفرص والموارد المالية والبشرية، التي كان بالإمكان استغلالها لتنمية اقتصاد مشترك وتحسين حياة الناس، بدل تبذير الأموال في سباق التسلح واستغلال الوضع كغطاء لاستمرار الفساد والريع.
فرص تحقيق تكامل إقتصادي
عتبر سيمون جريج، المسؤول عن قسم المغرب العربي في البنك الدولي، أن «الاندماج صار ضرورة حتمية اليوم، لأن البلدان المغاربية، بتفعيل اندماج فعلي، يمكنها أن تربح مجتمعة ما بين 3 و9 مليارات دولار سنويًّا»، ويقدر خبراء البنك الدولي أنه بإمكان كل دولة مغاربية أن ترفع نسبة نموها بـ %2 في حال تحقيق اتحاد اقتصادي، بالإضافة إلى توفير فرص شغل إضافية وتحسين مناخ الاستثمار، ما يرتد إيجابا على القدرة الشرائية للمواطنين.
يعزز هذا الطرح الشروط المواتية للدول المغاربية، الممثلة في وجود سوق استهلاكية ضخمة تقارب 90 مليون، ويد عاملة شابة، وقرب جغرافي، ناهيك عن توفر المنطقة على ثروات تتنوع بين النفط والمعادن والسمك والخضروات، ما يشكل بيئة خصبة لتجارة بينية مغاربية مشتركة.
أضف إلى كل ذلك تقارب الدوافع والطموحات وتقارب الأذواق والثقافة بين شعوب المنطقة، بما يتيح بنية ديموغرافية وقيمية منسجمة تدفع نحو التقدم والنماء.
ومن جانب آخر يفرض المحيط الاقتصادي العالمي الاندماج في تكتلات لموجهة تحديات العولمة المجسدة في القدرة على المنافسة والوصول إلى الأسواق الخارجية، وإصرار البلدان المغاربية على الاعتماد على نفسها بشكل فردي يجعلها عرضة للصدمات الاقتصادية، ويضعها في موقع ضعيف خلال مفاوضاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي بسبب افتقادها إلى مقومات المنافسة الخارجية.
وإذا كانت هناك فرص للنماء في حال إنجاز سوق تجارية مشتركة بالمنطقة المغاربية، فإن هذا الأمر لا يعني حل جميع المشاكل الاقتصادية التي تؤرق تلك البلدان، إذ هشاشة اقتصاداتها واعتمادها على تصدير المواد الخام بدل تطوير التكنولوجيا لديها، يجعل لأي اتحاد اقتصادي آثارا محدودة.
في هذا السياق يذكر عبد اللطيف الجواهر والي بنك المغرب (محافظ البنك المركزي)، ورئيس سابق لاتحاد المصارف المغاربية: «تركيا لوحدها، حققت 791 مليار دولار من الناتج الداخلي الخام، وسكانها أقل من 75 مليون نسمة، وإسبانيا حققت بدورها 1350 مليار دولار ولا يتجاوز سكانها 47 مليون نسمة، في حين لم تحقق الدول المغاربية مجتمعة سوى 430 مليار دولار وسكانها يقاربون 90 مليون نسمة».
ما يحيل إلى أن اقتصادات دول المغرب العربي تفتقد لعناصر القوة الذاتية أصلا، الأمر الذي قد لا يحقق النماء المنشود إذا ما تم إنجاز اندماج اقتصادي مغاربي، لكن من شأن اندماج للتجارة البينية أن يحل بعض مشاكل المنطقة المغاربية كما تقول كرسيتين لاكارد رئيسة الصندوق الدولي.
ومن أجل ذلك ينصح خبراء الاقتصاد الدول المغاربية بالتركيز أولا على تجفيف مستنقعات الفساد واعتماد الشفافية الاقتصادية، إلى جانب ضرورة إصلاح النظام الضريبي وتوفير بيئة جاذبة للكفاءات ورؤوس الأموال.
لكن كالعادة دائما ما يرتبط أي إقلاع اقتصادي بالحياة السياسية الصحية، وطالما ليس هناك علاقات دبلوماسية ودية بين أعضاء المنطقة المغاربية، فمن الصعب توقع تفعيل سوق مغاربية مشتركة في المستقبل القريب.
المصادر :
التبادل التجاري بين دول اتحاد المغرب العربي..وسبـل تعزيـزه
تقرير أممي يكشف هزالة المبادلات التجارية بين الدول المغاربية
دعوات لتحقيق الاندماج الاقتصادي بين دول المغرب العربي
الثورات العربية وضرورة التكامل الاقتصادي المغاربي
التكامل المغاربي: طموحات وعوائق
الاندماج الاقتصادي المغاربي بين الإقليمية و العولمة