لم يعد مجديا للمراقبين والمتابعين منذ زمن طويل أن يحسبو عدد المعارك التي اعتادت السلطة الفلسطينية أن تملأ العالم بالضجيج والتصريحات إعلانا عن رغبتها في خوضها ضد الكيان الصهيوني، ثم تنكص حتى قبل أن يبتل جسدها عرقا، تاركة معشر الصحفيين الذين وثقوا بجديتها، وزادوا من عندهم بما جادت به قريحتهم من إثارة… “دراري”.
فمنذ زمن الراحل ياسر عرفات، أدمنت السلطة الفلسطينية أن تخرج لمعاركها الإعلامية مع إسرائيل دون عدة من تخطيط، ولا تقدير لمدى قدرتها على الاستمرار، ولا قياس لما يخلفه التراجع عن استكمال جميع هذه المعارك من أثر سلبي على مصداقيتها أمام العالم عموما، وأمام شعبها على وجه الخصوص، حتى أصبح المؤمن الوحيد بجدية هذه السلطة في خوض أية معركة سياسية لا يتجاوز معشر الصحفيين الذين يجدون في تصريحات مسؤوليها النارية مادة لمقالاتهم.
مناسبة الحديث هي تراجعها الأخير على لسان جبريل الرجوب مسؤول الرياضة الأول فيها عن تهديداته “العنترية” بطرح عضوية إسرائيل أمام الفيفا للتصويت، مع إدراكه اليقيني باستحالة جمع 157 صوتا من أصوات اللجنة التنفيذية للهيئة الدولية ال 209، وبالتالي استحالة نجاح هذا المسعى. قد يقول قائل أن السلطة حصلت بالمقابل على حزمة من القرارات البديلة التي قد تسهم في لجم إسرائيل وتحد من مضايقتها للرياضيين الفلسطينيين، والرد على هذه الحجة بسيط: ألم يكن من الأجدى أن تخوض السلطة ومسؤولوها مفاوضات هادئة مع دوائر القرار داخل هذه الهيئات وفي أوساط الأشقاء والأصدقاء وبالتشاور معهم، بدلا من هذا السيل من التصريحات الانفعالية؟
ألم يدرس العقلاء في السلطة الفلسطينية، إن وجدوا، ما خلفته معاركها “الدونكيشوطية” السابقة في المحافل الدولية من أثر سلبي على مصداقيتها؟ من معركة “الدولة المستقلة” في الأمم المتحدة، إلى معركة المحكمة الجنائية الدولية، ومعركة “تقرير غولدستون” ومعركة طرح معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال على أنظار مندوبي اتفاقية جنيف الرابعة، وهي معارك كان من شأن الاستمرار في خوضها أن يتسبب في أذى شديد للكيان الصهيوني، ويقدم للشعب الرازح تحت الاحتلال من الخدمات، أضعاف ما تقدم له هذه السلطة الهزيلة معدومة الصلاحيات. والأسوأ أن الحجة الجاهزة التي تنجح من خلالها الولايات المتحدة وإسرائيل في وأد كل تحرك فلسطيني، وتتساوق معها سلطتها هي: “من أجل الحفاظ على مسيرة السلام”، وكأن هذه المسيرة لا يمكن لها أن تمشي إلا على ركام المصالح الفلسطينية وعذابات شعبها.
والغريب، أن السلطة الفلسطينية قد أدمنت أن “تتحفنا” بمعركة صوتية على هامش أي مؤتمر عربي أو إسلامي أو دولي، دون أن تنجح في إكمال واحدة منها حتى النهاية، وكأن لسان حالها يردد المثل المغربي: “حزموني ورزموني وما تعولوش عليا”، ولم تتوقف للحظة لتراجع هذا السلوك الذي لا يسهم سوى في مزيد من الإساءة لصورتها.
ولا يظنن أحد أن هذا السلوك يخص السلطة الفلسطينية وحدها، بل يهم “حركة حماس” صاحبة الولاية على قطاع غزة، ناهيك عن أمثلة عربية كثيرة لدرجة تجعله سلوكا عربيا عاما، وفلسطينيا بشكل خاص. وهنا، لا نطالب أحدا بخوض أي حرب، بل نطلب فقط إعفاءنا من متابعة سيل التصريحات الحارقة والمثيرة من هنا وهناك، سواء من مسؤولي السلطة، أو ممن لا يزال يصدق من الصحفيين، بأن المسؤول الذي يملأ الدنيا ضجيجا، بقادر على أن يخوض أية معركة، ناهيك عن تحقيق أي إنجاز.