بالنظر إلى الحساسية العالية التي ينظر بها كل مغربي تجاه أي تطور يخص قضيته الوطنية، تابع الرأي العام الوطني عبر مختلف وسائل إعلامه أنشطة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في الجزائر ، وزيارته لمخيمات تيندوف والعاصمة الجزائرية، واللقاءات التي جمعته مع قيادة البوليساريو والجزائر، بما فيها “المسرحيات” ذات الطابع “الإنساني”، التي شاب “إخراجها” الكثير من الهواية نظرا لغياب المخرج المحترف، وخروج الممثلين عن النص، مما جعلها تحيد بالمحصلة عما هو مرسوم لها من الأهداف.
إقرأ أيضا: بان كي مون يريد استئناف المفاوضات بين المغرب والبوليساريو
لكن ما نحن بصدده هنا، هو التحذير من مغبة الوقوع في شرك الإعلام الرسمي الجزائري و “مندوبيه” في تيندوف، بإعطاء تأويلات وأبعاد لا تحتملها تصريحات المسؤول الأممي، بل والبدء في الحديث عن بوادر أزمة بين المغرب والأمم المتحدة على خلفية بعض المصطلحات التي تفوه بها رجل، من المعروف أنه “يتحدث كثيرا دون أن يقول شيئا ذا قيمة!!”. صحيح أن عبارات من قبيل “حق تقرير المصير للشعب الصحراوي” و “تنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية” هي عبارات تثير حفيظة المغاربة، لكن وضعها في سياقها الدبلوماسي من شأنه التقليل من قيمة اللغط الذي أثير بشأنها.
“الموظف” الأممي، أفاض في الحديث عما يحسنه، ألا وهو التباكي حول “الأوضاع الإنسانية” للمحتجزين في مخيمات تيندوف، مبديا القلق بشأنها، وهو قلق يشاطره إياه كل مغربي تجاه ظروف احتجاز أشقائه هناك، كما أنه نفس القلق الذي يبديه “كي مون” في كل مكان يحل به، حتى حاز عن جدارة واستحقاق لقب “مستر قلق“!!. أما عندما أراد التطرق إلى مستقبل القضية، فلم يخرج عن سياق اللغة المستخدمة داخل أروقة الأمم المتحدة وفي تقاريرها المتعاقبة، والموروثة منذ عهد الأمين العام الأسبق ديكويار في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كرر دعوته الأطراف المختلفة الانخراط في محادثات بناءة بنوايا حسنة من أجل الوصول إلى حل سياسي “متفق عليه” يضمن “للشعب الصحراوي تقرير مصيره”. وهنا لنا وقفة..
هذه العبارة الواردة على لسان الموظف الأممي (حق تقرير المصير)، هي العبارة المعتمدة في أدبيات الأمم المتحدة، وبالتالي لا داعي لإثارة اللغط حولها وتحميلها أكثر مما تحتمل، وهي من القوالب الدبلوماسية التي لا تقول شيئا حقيقيا، بل إن مقترح المغرب حول الحكم الذاتي يعتبر ترجمة مغربية لها. هذه الترجمة التي تتيح لأبناء الأقاليم الجنوبية أخذ زمام إدارة شأنهم العام بيدهم، حازت على اعتراف الكثير إن لم يكن معظم دول العالم المؤثرة، لاسيما الدول الكبرى، التي أجمعت على أن هذا المقترح يشكل أساسا قويا لما يبحث عنه المجتمع الدولي منذ أربعة عقود. من جهة أخرى، فإن وضع الأمين العام “اتفاق الطرفين” شرطا “لتقرير المصير” لا يضير المغرب في شيء، بمعنى أنه ليس مجبرا على الموافقة على “حل” لا يناسب رؤيته الوطنية، ومصالح مواطنيه في هذا الجزء العزيز من المملكة المغربية. وقد بدا واضحا أن قرابة العشر سنوات من التفاوض لم تقد إلى مثل هذا الاتفاق، وغالبا لن تقود لتباعد التفسيرين بخصوص تقرير المصير، فبالنسبة للمغرب، قرر الصحراويون مصيرهم منذ المسيرة الخضراء، وأعادوا التأكيد على هذا الأمر بانخراطهم الفعال في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبلادهم، وشكل تصويتهم الكثيف على دستور 2011 والانتخابات الجماعية عام 2015 “استفتاءهم الخاص والنهائي” على تقرير مصيرهم بيدهم، جزءا كريما من وطن عزيز.
أما عبارة “تنظيم الاستفتاء” والتي وردت على لسان الأمين العام للأمم المتحدة وإن في سياق مختلف، فإن التمعن فيها يضعها في نفس مصاف سابقتها، وإن حملت بعض التجاوز. فقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالخصوص، أقلعت منذ زمن بعيد عن الحديث عن تنظيم الاستفتاء كوسيلة لتقرير المصير للصحراويين، وما إحياء “بان كي مون” للمصطلح إلا نوع من الحماسة الزائدة أمام المضيف الجزائري، سرعان ما تداركها وأتبعها بعبارة شرطية أفرغت التصريح من محتواه، عندما قرنها أيضا “باتفاق الطرفين على تنظيمه”!! وهو الأمر المعروف سلفا استحالته، فلم الجلبة؟؟
بالمقابل، وفي أفق زيارة الموظف الأممي للمغرب، من المنتظر أن يقوم بإسماع المغاربة مدحا مماثلا لجهودهم المستمرة على صعيد تحسين وضعية حقوق الإنسان في الأقاليم الجنوبية، وكذا جهودهم التنموية لفائدة إنسان هذا الجزء من المغرب، مع التعريج على ضرورة “تسجيل اللاجئين الصحراويين في مخيمات تيندوف” وهو المطلب المغربي والأممي الذي أغفله “كي مون” متعمدا في الجزائر، وسيتداركه في المغرب.
بان كي مون يا سادة، وإن علا مقامه، فهو لا يعدو كونه “موظفا رفيع المستوى” بالنظر إلى امتيازاته وليس صلاحياته. أما الكلمة الفصل فهي للقوى الكبرى المسيطرة على مجلس الأمن والمسرح الدولي برمته، لاسيما تلك التي تمتلك في جيبها الورقة الحمراء، ولا يتوقع أن يحمل تقريره الجديد سوى رصد ما قامت به بعثته وممثله خلال عام، وذلك لتبرير الميزانية والامتيازات “المحترمة” التي تؤهلهم للاستمرار في عملهم سنة أخرى، وسيصاغ تقريره بعبارات عامة لا تتجاوز كثيرا إطارات التقارير والقرارات السابقة، الداعية إلى “تعاون الطرفين من أجل الدخول في مفاوضات بناءة تسهم في وضع حد لهذا النزاع” وحث دول الجوار (الجزائر وموريتانيا) على تدعيم هذا التفاهم، وهو ما لم يحصل خلال العقود الأربعة الماضية، ولن يحصل قبل حدوث تغيير حقيقي في بنية القوى الممسكة بزمام الأمور في الجزائر.
وعليه، نقول لوسائل الإعلام الوطنية: رفقا بالمغاربة، ولا داعي لدق الطبول ونفخ أبواق التحذير من قدرة “مستر قلق” على تغيير قواعد اللعبة وصياغة تقارير تقلب موازين القوى داخل مجلس الأمن، وتضع المغرب في موقع حرج نهاية الشهر المقبل، بحيث يجد نفسه مجبرا على تنظيم استفتاء مستحيل، أقرت الأمم المتحدة نفسها باستحالته بعد أن اكتشفت عبث المعايير التي صاغتها لتحديد هوية من يحق لهم التصويت فيه، وليكتسب الجميع بعضا من الثقة “الحاسمة” التي وردت في خطاب الملك محمد السادس في نوفمبر 2014، عندما قرر الحقيقة الخالدة التي تمثل الخط الأحمر داخليا وخارجيا: “المغرب سيظل في صحرائه والصحراء في مغربها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”.