أخفق رئيس الحزب الشعبي الإسباني، مساء أمس الأربعاء، في الحصول على ثقة أعضاء مجلس النواب لرئاسة الحكومة المقبلة، فقد صوتت ضده أغلب التشكيلات الحزبية(180 صوتا مقابل 170 لصالحه) باستثناء حزب” ثيودادانوس ” الذي أبرم مع “الشعبي” تحالفا بغاية تسهيل تشكيل الحكومة دون المشاركة فيها وجوبا. وسيتكرر نفس المشهد يوم غد الجمعة.
وظل مقر مجلس النواب الإسباني على مدى ثلاثة أيام مسرحا لصراع ونقاش سياسي ساخن، تابع أشواطه الرأي العام الإسباني بشغف وترقب، مثلما يتصرف حيال مباراة مهمة في بطولات كرة القدم، علما أن كثيرين كانوا يتوقعون النتيجة السلبية وفشل “ماريانو راخوي” في تسجيل هدفه في شباك الحزب الاشتراكي العمالي، لإقناعه بالتغيب عن التصويت في اللحظة الحاسمة لفسح المجال أمام لتشكيل حكومة أقلية ؛متعهدا(راخوي) لقاء ذلك بإشراك الاشتراكيين في صياغة سياسات كبرى، في صورة مواثيق حكومية تتعلق بمحاربة الرشوة والفساد، وقضايا التربية والتعليم إلى جانب توحيد المواقف لردع النزعات الانفصالية وصيانة الدستور والتصدي لآفة الإرهاب وغيرها من التدابير الحكومية الأخرى وتحديدا تلك التي تضمنها الاتفاق الثنائي الموقع بين الحزب الشعبي وثيودادانوس ، وهو نسخة معدلة لاتفاق مماثل توصل إليه الحزب الاشتراكي مع نفس الحزب خلال محاولة، بيدرو سانشيث، تشكيل الحكومة الأولى على اثر الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 20 ديسمبر الماضي واعتذار “راخوي عن تكليف العاهل الإسباني.
وشدد راخوي، خلال الكثير من تدخلاته في جلسات البرلمان، على أنه لا يطلب من الاشتراكيين تأييدا ولا مساندة للحكومة التي يعتزم تشكيلها ،بل يمكنهم الاستمرار في القيام بدور المعارضة؛ ما يتمناه هو تسهيل قيام حكومة مستقرة تنتظرها البلاد، قبل أن تصاب بالضرر الكبير مصالحها في الداخل وخفوت تأثيرها في الخارج
وكمحاولات متكررة للإقناع توجه ،راخوي، في خطابه وتدخلاته بالكلام تصريحا وتلميحا إلى زعيم الاشتراكيين،فهو وحده من يمسك مفتاح الأزمة ،وإلا فإنه سيجبر الإسبان على التوجه من جديد وللمرة الثالثة في ظرف سنة، لانتخاب هيئة تشريعية جديدة، لا أحد يستطيع يقينا، التنبؤ بألوانها الحزبية وبالقوى المتصارعة فيها.
ومما زاد في تعقيد الأمور أن الانتخابات في حالة تكرارها، ستتزامن مع عطلة أعياد الميلاد(25 ديسمبر) وهو موعد سيتسبب في امتعاض الناخبين الإسبان ونقمتهم على السياسيين، ولذلك يجري التفكير في تقديم موعد الاقتراع أسبوعا على حساب تقليص فترة الحملة الانتخابية، التي ستدور حول نفس الأفكار والمواقف المتباينة ،على غرار الحملة الثانية.
وخارج البرلمان، يوجه اللوم الواضح إلى قيادة الحزب الاشتراكي، وتحديدا إلى الأمين العام، ليس من المخالفين للحزب وإنما من الجهات المتعاطفة مع الحزب التي تشاطره الرأي على أن “راخوي” هو الأسوأ الممكن، لكن الأكثر سوءا منه هو إعادة الانتخابات .
وفي هذا السياق يلح المنتقدون على “سانشيث” زعيم الحزب، كي يفصح عن مخططاته المضمرة للخروج من الأزمة ، وهي عموما، لا تبدو مقنعة لأحد ، إذ لا مفر له من أمرين :تجريب إمكانية التحالف مع “بوديموس” وخليط من الأحزاب القومية الصغرى تتجاذبها أفكار وتوجهات شعبوية فوضوية ويسارية وبعضها يشهر تأييده للجمهورية والاعتداد بعرقه واصله ؛ما يعني استحالة الانسجام في حكومة بين تلك المكونات الرافضة للاستقرار، وبين الحزب الاشتراكي ذي التقاليد التاريخية في النضال السياسي والاحتكام إلى العقل والتجاوب مع منطق الدولة بتفضيل المصلحة العليا للبلاد.
وتتراوح تقديرات المحللين بخصوص امتناع “سانشيث” عن إبداء مرونة ما حيال الوضع السياسي القائم والتوصل إلى حلول ممكنة وعملية ولو مؤقتة تنهي حالة الانسداد السياسي وتجنب العودة إلى صناديق الاقتراع . وهذا الاحتمال الأخير لن يكون قطعا في صالح الاشتراكيين الذين فقدوا منذ عام 2011 أكثر من خمسة ملايين صوتا، وبالتالي يصعب عليهم مهما كانت حصافة القيادة وشعبيتها، تغيير الكفة لصالحهم في غضون الأسابيع المقبلة حيث تهيمن على المشهد أجواء المزايدات وتبادل التهم ؛كما أن المنافسات الانتخابية المحتملة ستمنح حزب “بوديموس” الفرصة من جديد لصب مزيد من الزيت على النار والمساهمة في تعميق الأزمة السياسية في بلد يواجه سلسة تحديات في الداخل والخارج .
ومن اللافت في هذا الصدد ملاحظة أن يومية “الباييس” الإسبانية التي طالما كانت رحيمة في كثير مع الاشتراكيين ، بل مساندة للكثير من مواقفهم وسياساتهم في أكثر من مجال ؛أصبحت في الفترات الأخيرة ومنذ اندلاع الأزمة السياسية، ميالة إلى الصرامة والنقد في التعاطي مع توجهات الزعامة الاشتراكية الجديدة ، وكثيرا ما لمحت إلى “الدوافع الشخصية” التي تحرك زعيما اشتراكيا يحس أنه يواجه معارضة متنامية متربصة به داخل صفوف حزبه إلى جانب عدم رضا القادة التاريخيين المؤسسين الذين طالما نصحوه بالمرونة والاعتدال وتغليب مصلحة البلاد بخصوص مقترحات زعيم الحزب الشعبي الحائز على المرتبة الأولى في انتخابات ديسمبر واستطاع تحسين صورته في يونيو الماضي ، بينما تراجع الاشتراكيون بزعامة “سانشيث” في كلا الاستحقاقين إلى أدنى حصيلة في تاريخ الحزب ؛ما أفقده الحق الدستوري والأخلاقي في المطالبة بقيادة حكومة ائتلافية .ربما باتت هذه قناعة “سانشيث” لذلك تراه يلعب في الوقت الضائع.
وترى تحليلات متطابقة أن لفترة الفاصلة عن الموعد المفترض للانتخابات المقبلة ، ستتخللها استحقاقات جهوية في منطقيتي “غاليثيا وبلاد الباسك ” ينتظر الجميع النتائج والمؤشرات التي ستفرزها . فإذ تراجع الحزب الاشتراكي ،وهو المتوقع ،فإن الأجهزة القيادية في الحزب ستجد نفسها مضطرة على التفكير الجدي في حل لإخراج البلاد من أزمة تتخبط فيها ، خاصة إن تعززت صفوف الحزب الشعبي ،ما سيكون ذلك دليلا إضافيا على أن قطاعات واسعة من الناخبين والرأي العام يثقون في قيادته وسياساته .
ويستند هذا الاحتمال، على عبارات وردت أخيرا على لسان زعيم الاشتراكيين ،حينما سئل عن رأيه في إعادة الانتخابات ؟ فأجاب بجكل مغلفة بالبلاغة، أننا لم نصل بعد إلى ذلك النهر، وحينما يحصل سنبني جسرا لعبوره؟
لكن، إذا تهاوى الجسر، فإن تيارات النهر القوية ستجرف الزعيم الاشتراكي، نحو ضفة لا احد يعرف طبيعتها ومكانها ومن فيها ؟