بنى القرابة في مكة أنموذجا
شهد حقل التاريخ مع بداية القرن العشرين تحديا كبيرا تمثل ببروز حقل العلوم الاجتماعية الدوركايمية، الذي أخذ يعيد النظر في مفهوم التطور وفكرة التقدم، ويسعى لتوحيد كل العلوم الانسانية تحت عباءته. ولذلك أخذ دوركايم وتلامذته يدعون المؤرخ الى أن يكتفي بجني وتجميع المواد التي ينتج عالم الاجتماع منها عسله، والى أن يتخلص من “أصنام قبيلة المؤرخين” وفي مقدمتها الصنم السياسي، ليساهم في العبور من المفرد الى الظاهرة المنتظمة والى العلاقات الثابتة التي تسمح باستنباط قوانين علمية ومنظومات السببية.
بيد أن هذه الأزمة التي تعرضت لها قلعة التاريخ سرعان ما تحولت مع مؤسسي مدرسة الحوليات بلوخ وفيفر الى عامل حيوية، من خلال ارتدائهم للباس خصومهم الأكثر جدية، وخاصة أن العلوم الاجتماعية كانت توفر برنامجا متميزا لمقارعة التاريخ التاريخاني، وتطوير تاريخ جديد يشمل الفكر اللاعقلاني الذي جرى اقتراحه كدرع في وجه الماركسية.
وبعد احتواء علم الاجتماع وبنى شتراوس ومجتمعاته الباردة في الخمسينات من قبل التاريخ الجديد، ثار المجنون والجسد والجنس بعدها من عالم العقل الذي اخفاهم مع أعمال ميشيل فوكو وجاك لوغوف، ولتبلغ الكتابة التاريخية حينها مستوى عال من الانتاج الثري.
وعلى الرغم من أن الجدال بين العلوم الاجتماعية والتاريخ لم يهدأ منذ ذاك الوقت ،وخاصة مع الاعتراضات الدائمة للناسوتيين الذين عبروا في أحيان عديدة عن امتعاضهم مما تعانيه حقولهم ومناهجهم المسلوبة من خنق على أيدي المؤرخين .لكن ذلك لم يستطع أن يلغي حقيقة أن المؤرخ بقي بحفرياته في المدونات التاريخية ، وجهوده في الانفتاح على العلوم الأخرى أن يحافظ على موقعه المهيمن والمركزي وخاصة ان حصاده للتاريخ بقي يقدم صورة جديدة كل الجدة تتجاوز أحيانا رؤية حقل الاناسيين ،لا بل وتساعدهم على تصحيح مساراتهم، وكبح جماحهم في تأسيس “تاريخ وهمي” على حد تعبير دوركايم.
ولذلك ضمن هذا السياق ارتأينا أن نتعرف الى حدود العلاقة الملتبسة، والشكل الذي وصل اليه تقاسم المعارف في الساحة العربية، من خلال تقديم قراءة مقارنة لرؤية مؤرخ واناسي عربيين لحقل التنظيم الاجتماعي المكي والقائم على أساس نظام القرابة كما ترى ذلك الاناسة بخصوص المجتمعات البدائية، والذي لم يعد حكرا لأدواتها، بل أخذ يشهد جهدا متميزا مع المدرسة التاريخية التونسية والتي تجتهد من سنوات عديدة للتأسيس لخطاب تاريخي عربي جديد.
ولذلك فقد أثرنا ان نختار من بين دراسات عديدة، مقاربة المؤرخ التونسي محمد سعيد صاحب الأطروحة المثيرة للاهتمام عن “النسب والقرابة في المجتمع قبل الاسلام”. ومن الضفة الأخرى سنتطرق لدراسة الاناسي العراقي والمتخصص في دراسة الأساطير العربية القديمة فاضل الربيعي، والذي صدر له في الآونة الأخيرة كتاب عن دار جداول البيروتية تحت مسمى “غزال الكعبة الذهبي-بحث في النظام القرابي في الاسلام.”
عباءة العلوم الإنسانية
حيث ينطلق سعيد في دراسته من ادراكه المهم لاختلاف مهمة المؤرخ عن الاناسي الذي يبحث عن بنى العلاقات، بينما تبقى مهمة المؤرخ هي البحث في جذور هذه العلاقات.
ولذلك سرعان ما يرتدي عباءة العلوم الانسانية دون ان يفتقد شيمته التاريخية، ليثبت من خلال مقولة اناسية حول غياب واقع لتكديس الثروة في المجتمعات القديمة، أن المرويات العربية التي تتحدث عن بدايات ايلاف قريش لا تمثل الصورة الدقيقة، بل ربما خضعت للعديد من التأثيرات السياسية المتأخرة. وأن خلق فكرة التجارة في مكة لم تكن ناتجة عن تطور ذاتي، وانما المبادرة جاءت من خارجها وخاصة مع هاشم أحد أبناء عبد مناف والمتنقل بين غزة ومكة. والذي نكتشف من خلال علاقات المصاهرة التي نسجها، و بالاعتماد على اعادة تقميش جديدة لرواية ابن الكلبي في “جمهرة النسب” الى نتيجة مثيرة ورائعة، ترى أن اشجار النسب المدونة في كتب النسب عند العرب قد لا تبدو بالدرجة نفسها من الترابط في المستوى التاريخي المعاش (وهذه الملاحظة مشابهة لما توصلت اليه بعض نتائج شتراوس في كتابه الاناسة البنيانية).وأن مبادرة هاشم قد أسهمت في توحيد نسيج اجتماعي مختلف في الأصل قائم على وجود تنظيم ثنائي في علاقات القرابة : الأول يتمثل بالبؤرة اليثربية –الهاشمية –الخزاعية والذي يقودها هاشم وبعض البطون الأخرى داخل مكة مع الأطراف الشمالية العربية،عبر تفعيل مؤسسة الزواج الخارجي . وبالتالي فنحن لسنا أمام زواج عابر كما يرى هشام جعيط.
أما التنظيم الثاني فيمثل البؤرة القرشية اليمنية الأكثر ارتباطا بالأوساط القبلية التقليدية والقائمة في علاقاتها القرابية على الزواج الداخلي.
لكن رغم الجديد في الدراسة تبقى برأينا حاملة للوثة فكرية مادية بقيت كراسب ماركسوي في ثقافتنا العربية ،وهذا ما يتضح لنا من خلال اجتزائه للبعد الديني والاسطوري في العديد من الروايات التي يحاول معالجتها بوصفها حوادث اجتماعية تعكس صراعا داخل مكة دون أن يولي للعوالم الدينية أهمية تذكر في حياة تلك المجتمعات ، ويتضح ذلك من خلال رؤيته لحكاية ” سرقة غزال الكعبة الذهبي” والتي ستكون أمام مقاربة اناسية تسعى الى تفجير مكنونات الحكاية الرمزية و الدينية ،والتي سنتعرف من خلالها على طبيعة العوالم الروحية في المجتمع العربي قبل الاسلام . وهي عوالم بقي العقل التعليلي العربي يستقي رؤيته تجاهها من رؤى” كوبرنيكية ” بقيت مفتونة بانعكاسات صورتها النرجسية على صفحات الماء ،حتى غرقت في شبر من الماء أمام تجليات الظاهرة الدينية القديمة والمعاصرة، ولعل هذا ما دعا البعض للحديث عن “الاسلام البدوي” الفقير من ناحية الطقوس والأساطير ، وأن يشمل أيضا الاتجاهات الاسلامية التي بقيت تحت حصار الاسئلة الراهنة ،وأخذت تسعى الى تقديم الرسالة السماوية في نصها القرآني على أنها تعبيرات عقلانية ،في حين أن الخطاب الديني بشكل عام هو خطاب ذو بنية اسطورية على حد تعبير أركون.
وبالتالي فان اعادة الاعتبار للعامل الاسطوري في كتابة التاريخ تتزامن مع اعادة الاعتبار للمقدس، خاصة أن الكون المجرد من القدسية كليا هو اكتشاف جديد للعقل البشري.
المرويات الأسطورية العربية
والجدير بالذكر أن الربيعي ومنذ سنوات أخذ ينفض الغبار عن المخزون الهائل من المرويات الأسطورية العربية بوصفها راسب ثقافي قديم يدل على المجتمع ومعتقداته ورؤاه الثقافية.
ولذلك ففي قراءته لسورة المسد يرى بان استخدام عبارة اختصت “بيد” ثم بمال أبي لهب وما كسب، يمكن أن يكون متصلا بمسألة الكشف عن جانب مسكوت عنه من عبادات ومعتقدات قريش والعرب بأكثر مما هو متصل بمشكلة شخص عارض النبي.
فقد كان هناك كثيرون ممن عارضوه بقسوة ولم يندد بهم القران بهذه الصورة، وبالتالي فان هذا الهجاء جاء تذكيرا بحادثة قديمة، يوم كان أبو لهب شابا يافعا يقود عصابة من سفهاء قريش، قامت بالسطو على الكعبة وبسرقة الغزال الذهبي الذي كان يزين جدارها.
وحينها ثارت قريش وقررت أن تقوم بقطع يد أبي لهب، لكن أخواله الخزاعيين –خصوم قريش – قدموا له الحماية ومنعوا قطع يده. كما أن هذا التنديد في السورة انما يشير الى سستام قرابي أخذ يتشكل مع قدوم الاسلام قائم في أركانه على الدين، بدل ذرات القرابة القديمة.
بعد هذه المقاربة الجديدة والتي ما تزال خافية ومفقودة في رؤية المؤرخ العربي بشكل عام، والمتعلقة بالاعتداء على المقدس من خلال سرقة متاع العدة الشعائرية. يبحث الربيعي في نظام القرابات وذلك من خلال الاعتماد على المروية العربية، لكن سرعان ما يقع في شباك ما نبه اليه شتراوس مرارا وتكرارا من انه ليس كلما وجدنا في أسطورة أو مروية شكل من أشكل الحياة المجتمعية، فان هذه اشارة تحيلنا الى واقع موضوعي يفترض به أن يكون موجودا فيما مضى.
وكأننا نغدو مع الربيعي أمام غارة شنت بصورة خاطفة على حقول التاريخ ،ثم اكتفت أن اضافت الى حصيلة عملية الهجوم وصفاتها الخاصة ، فصار بوسع المرء والحالة هذه أن يطمئن الى حصوله على حل “اجتماعي” جاهز سلفا مهما كانت المشكلة المطروحة عليه .والدليل على هذه التضحية بالتاريخ والحلول الجاهزة والحتمية تكمن في رؤية الربيعي لتاريخ نظام القرابات داخل مكة .فعبد مناف بن قصي برأيه قد انتبه مبكرا الى أهمية ربط القرابات بالدين ،وقد اتضح له هذا التحول بجلاء مع ازدهار تجارة الايلاف التي وضع أسسها الاولى قصي ثم واصل أحفاده قيادتها دون أن يكثرث بأي رؤية تاريخية مغايرة لجذور الايلاف، ثم أن الأمر يتكرر مع عبد المطلب جد النبي والذي سرعان ما يؤسس لحلف مع خزاعة لأبعاد دينية وسياسية ، ولينتهي الأمر مع الهندسة الاجتماعية الجديدة التي جاء بها الاسلام والمتمثلة بنظام قرابي جديد قائم على اسس الدين والذي لا نشك في صحته .وليظهر الربيعي من خلال هذه القراءة وكأنه مفعم ب”أسطورة العود الأبدي” حيث تظهر قصة مجدد التوحيد الابراهيمي قصة كل واحد من ايام قصي تتسق ضمنه ادنى التفاصيل وتتجاوب فيما بينها، والذي يأتي ليكرر ما فعله الاباء من تفعيل لنظام القرابات الديني قاطعا بذلك مع أي سياق تاريخي شهده نظام القرابات داخل مكة.
وهكذا يتبين من خلال هذه المقارنة أن توزيع المهام البحثية والذي يجد تبريره في تراثات قديمة، قد ساهم في فصل النياسة عن التاريخ أكثر مما هو لازم.وعلى الرغم من أن هذه القطيعة ليست باتجاه واحد، لكن حيوية بعض الكتابات التاريخية العربية الجديدة ما تزال تحفظ باعتقادنا للقلعة التاريخية صلابتها المعرفية وتفوقها أمام غارات النياسة العربية.
المصدر : نشر في جريدة الحياة اللندنية