بقلم: هيثم شلبي
“صفعتان في يوم واحد”!! هذا هو الوصف الذي أطلقته وسائل الإعلام الفرنسية على إعلان اثنتين من أهم المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب القارة الأفريقية: تشاد والسنغال، رغبتهما في إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في بلادهما، مواربة أو بشكل صريح. الخطوة التشادية سبقت السنغالية ببضع ساعات من نفس اليوم، حيث أعلنت ببلاغ رسمي عن إنهائها -من طرف واحد- اتفاقيات التعاون الدفاعي والأمني مع فرنسا، مباشرة بعد توديع وزير الخارجية الفرنسي ومرافقيه العسكريين للعاصمة نجامينا، وهو ما أوحى، وإن بشكل غير صريح برغبتها في مغادرة الجنود الفرنسيين لأراضيها!! خطوة لم تتأخر السنغال عن “محاكاتها”، على لسان رئيسها هذه المرة، باسيرو ديوماي فاي، خلال لقاء صحفي مع جريدة فرنسية، حيث عبر بوضوح وصراحة، بأنه لن يكون هناك قريبا جنود فرنسيون في بلاده.
كلتا المفاجأتين، يبدو أنهما كانتا كذلك للنخبة الفرنسية دون غيرها، حيث يكاد يجمع جل المراقبين الأفارقة، على أن زمن الوجود الفرنسي في غرب القارة قد انتهى، وما المماطلة الفرنسية في الانسجام مع هذه الحقيقة، واتخاذ قرار صريح بسحب “جميع” الجنود الفرنسيين من المنطقة، إلا نوعا من “إنكار الواقع” دون امتلاك القدرة على تغييره! وتأكيدا لهذا المعنى، يمكن قراءة التبرير الذي قدمته سلطات تشاد والسنغال لقرارهما. فوزير خارجية تشاد عبد الرحمن كلام الله قال بوضوح: “يتعين على فرنسا أن تدرك أن تشاد قد نضجت، وأصبحت دولة ذات سيادة!!” فهل غابت هذه الحقيقة عن فرنسا حتى يذكرها بها وزير الخارجية التشادي؟! أما الرئيس السنغالي، فتساءل بشكل استنكاري: “لماذا ينبغي أن يكون هناك جنود فرنسيون في السنغال؟! قبل أن يجيب: هذا لا يتوافق مع مفهومنا للسيادة والاستقلال!!”، وأيضا نتساءل معه: ألا تدرك فرنسا معاني السيادة والاستقلال حتى يذكرها بها الرئيس السنغالي؟!
إن الكلمة المفتاحية التي استخدمها مسؤولو تشاد والسنغال “السيادة”، هي نفسها التي برر بها رؤساء السلطات الانقلابية في كل من مالي، بوركينافاسو، والنيجر، قراراتهم بطرد القوات الفرنسية من بلادهم، وإنهاء التعاون الأمني والعسكري مع المستعمر السابق فرنسا. ورغم ذلك، يبدو أن فرنسا لا تزال تناور وتتخذ خطوات “صغيرة” تحاول من خلالها الإيحاء بأنها “فهمت الدرس”، مع أن الإعلام الفرنسي نفسه، هو من يهاجم حكومته ويتهمها بأنها “بعيدة جدا” عن إدراك الواقع الجديد في أفريقيا، وبالتالي التعامل معه بطريقة ناجعة. فأمام هذه “الانهيارات”، تقترح أحدث خطة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “تخفيض” الوجود العسكري الفرنسي غرب القارة من 2300 جندي، إلى 600 جندي. وفي التفاصيل، تستهدف الخطة تخفيض الوجود الفرنسي في تشاد (القاعدة الأكبر) من قرابة 1000 جندي حاليا إلى حدود 300 جندي، مقابل الاحتفاظ ب 100 جندي في كل من ساحل العاج، السنغال، والغابون، نزولا من 600، 350، و350 على التوالي! هذه الخطوة الناقصة التي لا تستوعب حديث الأفارقة عن “السيادة”، وتزيد مستوى الغضب تجاه فرنسا، تبدو لمستعمرات فرنسا السابقة كمحاولة “التفافية” على مطالبهم المشروعة، مما يجعل هذه الدول تصرّ على الإعلان عن الطلاق “البائن” بطريقة فيها الكثير من الإهانة للسيد الفرنسي، بعد أن تجاهل مطالبهم بالجلوس “كأنداد” لصياغة مستقبل العلاقات الفرنسية الأفريقية، بشكل يخلو من الوجود العسكري الفرنسي المباشر في غرب القارة.
لكن، ما علاقة كل ما أوردناه في هذه المقدمة، التي يعلمها الجميع، بالمملكة المغربية، التي فتحت للتو صفحة جديدة في علاقاتها الاستراتيجية المتجددة مع فرنسا، بطريقة قوامها “الندية” ومراعاة مصالح البلدين على قدم المساواة؟! وكيف يمكن لهذا الواقع الجديد أن يفيد المملكة المغربية؟! بداية، لا يمكن، ونحن نطالع هذا المشهد “التحرري” الجديد في غرب القارة، ألا نستحضر نضال المغرب كنموذج ملهم لباقي دول القارة، في فرض الندية على القوى العظمى، وتكريس منطق المصالح وفق معادلة “رابح- رابح”، بعيدا عن مقاربة استبدال مستعمر غربي بمستعمر شرقي!! هذا النموذج المشرف، والصمود “الأسطوري” للمغرب في وجه القوى الدولية المهيمنة، ومن ضمنها المستعمر السابق فرنسا، زاد من توهج النموذج المغربي، وجدد مكانته كمساند حقيقي لحركات “التحرر” الأفريقي، وأثبت صوابية مقاربته للتعاون جنوب- جنوب، التي ما فتئ العاهل المغربي الملك محمد السادس ينادي بها منذ استلامه السلطة قبل قرابة ربع القرن. وإذا أضيفت هذه المكانة الجديدة، إلى المكانة التقليدية للمغرب لدى مختلف دول غرب القارة، بحكم الروابط السياسية والاقتصادية والروحية والثقافية والاجتماعية الخ، يصبح المغرب ناطقا -رسميا أو غير رسمي- باسم المنطقة، بما يجعله تلقائيا، أبرز “بوابة” إلى غرب القارة، بالنسبة للدول الكبرى المختلفة. يضاف إلى ذلك، الحضور التعاوني والاقتصادي الكبير للقطاع الخاص والبنوك المغربية، بما يكرس هذه المكانة. وبالنسبة لفرنسا، التي تدرك -سواء اعترفت بذلك أم لم تعترف- بأنها قد خرجت من غرب القارة، حتى لو استمرت في ممارسة بعض الألعاب اليائسة للحفاظ على حد أدنى من الوجود، ومعه “ماء الوجه”، فإن الخطوة التي اتخذتها خلال الزيارة التاريخية الأخيرة للرئيس ماكرون للرباط، بتأسيس صندوق استثماري مغربي- فرنسي ضخم يوجه للقارة الأفريقية، ولمشاريع ربطها بأوروبا عبر بوابة الأقاليم المغربية الجنوبية، هو أفضل تعبير عن الإدراك الفرنسي لهذه الحقيقة، وأفضل استجابة لها.
ولا يخفى، أن موقف المغرب داخل هذه الشراكة الاستراتيجية مع فرنسا، في حال كانت فرنسا خارج غرب القارة، هو أقوى بمراحل عما لو كانت لا تزال تحتفظ بحضور مباشر مؤثر داخل مستعمراتها السابقة، لأن المغرب، والحالة هذه، سيكون البوابة الوحيدة لدخول فرنسا إلى غرب القارة، وبالشروط المغربية الأفريقية. هذه النقطة الأخيرة تكسب الوجود المغربي في غرب القارة قوة ومتانة. فدول القارة، التي لا تمانع في استثمارات تراعي سيادة هذه الدول واستقلالها، تثق في قدرة المغرب على فرض المصالح الأفريقية على الدول الكبرى، حيث جربتها في هذا المجال، ولم تخذل ثقة الأشقاء الأفارقة فيها أبدا.
كخلاصة، فبعد النظر الاستراتيجي للملك محمد السادس، يظهر أفضل ما يكون، من خلال تحويل المغرب إلى جسر موثوق، راسخ، يعبر من خلاله الأفارقة إلى باقي قارات العالم، عبر الأقاليم الجنوبية. وهو ما اتضح من خلال تامين مستقبل دول غرب القارة طاقيا عبر أنبوب الغاز المغربي النيجيري؛ ومبادرة ربط دول الساحل بالمحيط الأطلسي؛ وأخيرا مبادرة إنشاء “حلف جنوب الأطلسي” للتعاون بين ضفتي المحيط الأطلسي (قارة أفريقيا مع قارتي أمريكا الشمالية واللاتينية). بهذه الطريقة، يمكن فتح أفاق أرحب للتنمية في غرب القارة، وتعميم قصة النجاح هذه إلى باقي أرجاء القارة، وهو ما يكرس مكانة المغرب كأحد أهم اللاعبين الأفارقة في القارة، والمرشح “الطبيعي” لتمثيلها في مجلس الأمن، عبر عضوية دائمة، وهذه قصة أخرى!!