بقلم: طالع السعود الأطلسي*
جدَّد الشَّعب الموريتاني الثِّقة في محمد الشيخ ولد الغزواني، رئيسًا لموريتانيا، عبْر انْتخابات تميَّزت بمنافسة ديمقراطية حقيقيَّةٍ وساخنةٍ.. ممّا يجعل فوْز ولد الغزواني تطويعا للديمقراطية من داخل البنية القبَلية للمجتمع الموريتاني في مسارِ تقدُّم البِلاد الطويل المُتدرِّج والواصِل. تجديدُ رئاسة الغزواني هو تصديقٌ على محصول ولايته المُنتهية، وهو تطلُّعٌ شعبي لتخصيب المُنْجز، في استكمال مُقوِّمات الديناميكية التنموية الَّتي تخترقُ موريتانيا.
العاهل المغربي الملك محمد السادس أبْرَق للرئيس مُهنِّئًا إياه باسم المملكة المغربية، راجيًا له “كامل التوفيق في مُواصلة قيادته” لموريتانيا. تهنئةٌ بطعم الارْتياح لامتدادات قيادة الرئيس ولد الغزواني، للشأن الداخلي الموريتاني على جواره المغربي. وهي أيضًا تهنئةٌ بقوّة العزْم، يقول العاهل المغربي “لأؤكِّد لفخامَتكم عزمي القوي على العمل سويًّا معكم، للسيْر قدُما في تعزيز وتطوير علاقات التعاون المتميِّزة، القائمة بيْن بلدَيْنا الجارَيْن، والتي يحدونا حرصٌ مشتركٌ للارتقاء بها إلى مُستوى شراكة نموذجية”.
الملك محمد السادس انْتقى كلماته بمصْفاة الصِّدق ودقّة الواقعية السياسية، وتوابِلهما الحرص على الإيمان بالأخوَّة المغربية الموريتانية المُتأصِّلة تاريخيا، والكامنة في التفاعل الاجتماعي بين الشعبين، وفي تبصر الدولتين. لم تكن التهنئة الملكية المغربية مُجرَّد تصرُّف دبلوماسي اعتيادي.. هي برنامج عمل والْتزام، لتحقيق التراكُم النوْعي المطلوب في العلاقات بين البلديْن، ولتأكيد جاهزية موريتانيا لتحييد البلاد عن انْحشارات خارجية في اختياراتها وتوجُّهاتها الداخلية والدبلوماسية.
موريتانيا امتنعت عن تفويت استقلالية قرارها السياسي لغيرها في مُشاغباتٍ (ليس إلاَّ) ضِدَّ المغرب، لأن رئيسَها غيورٌ على كرامة بلاده، وحريصٌ على تأمين منافعها في مُحيطٍ إقليمي مُعقَّم من التكتُّلات المنفوخة بالعَداء وبنَفَس التخريب، الفاشل، للصائب الجيواستراتيجي المغاربي وفي الصحراء والساحل الأفريقي.
تهنئة الرئيس الجزائري للرئيس الموريتاني المنتخب، دعته إلى “تحقيق تطلعات شعوبنا في المنطقة المغاربية وفي الساحل”.. هي تدعوه إلى تَخَلِّيّات دوَل الساحل عن الجزائر، وتأزُّم علاقاتها مع مالي والنيجر، وتدعوه إلى الانضمام لمحاولة نسْفها للبناء الوحدوي المغاربي، بتلك اللقاءات خارج “اتحاد المغرب العربي”. هي دعوة لموريتانيا إلى فَشالات جزائرية يسعى حكام الجزائر إلى تقاسُمها مع القيادة الموريتانية بلا طائل، رغم ضغوطها السياسية وإغراءاتها المالية وحتى تهديداتها الأمْنية المُبَطَّنة، التي تُطلقها من حدودهما المشتركة (حوالي 500 كلم).
في المقابل، المغربُ احترَم نزوعَ موريتانيا إلى الحياد الإيجابي في نزاعات المنطقة. أرادها دوْما طرَفا مالكا لقراره ومُنْخرطا في التعاوُن الثنائي من مَوْقع حفاظها على مصالحها. لا يؤلِّبُها ضد أحد ولا يحشُرها في شِباك انْحرافات عن النَّافع الأخوي والسديد الإستراتيجي. لا بل إن المُبادرة الملكية الأطلسية تجاه دول الساحل الأفريقي تمكِّن موريتانيا من فضاءٍ تنموي جماعي، تتفاعل فيه مع محيطها الأفريقي والإقليمي، بتبادل إرادي للمنافع وصاف من الدَّسيسة، والتي لا تعمل إلا على تسميم العلاقات بين دول يفترض أنها تجمعها تطلعات تنموية عريضة وضخمة لا يَقوَى على حملها إلا صِدْق النوايا في اتحاد عمل جِدِّي.
هذه المنطقة من أفريقيا وضمنَها المنطقة المغاربية يُتوَقَّع وُصول ارتجاجات ارتدادية فيها للزلزال الفرنسي خاصة والأوروبي عامّة. لأن ما حدث بعد انتخابات البرلمان الأوروبي، من اهتزاز في البُنى السياسية الأوروبية، في مُستوى الهوِّيات الوطنية التي تحتويها، ستكون له ارْتدادات في الامتداد الأفريقي – الأوروبي، وفي الشمال الأفريقي أساسا، لعامل تماسِّه الجغرافي والاجتماعي مع أوروبا.
فرنسا التي تبْدو أقرب الدوَل الأوروبية إلى شمال أفريقيا، الشرخ السياسي والاجتماعي فيها لن تلْأمه نتائج انتخابات 7 يوليو.. لعلَّها ستوسعه، أيًّا كانت الأغلبية التي ستُفرزها. وضمن مُسبِّبات ذلك الشَّرْخ “قضية” المهاجرين إلى فرنسا، وبالتبعية سيصل التوتر إلى بُلدان مُنطلقهم. التأزُّم الداخلي الفرنسي، في التعاطي مع الفرنسيين “الآخرين”، يُتوقع أن يمتد إلى دولهم، سياسيا واقتصاديا. وموريتانيا واردة في اللوْحة، وستكون مدعوَّةً إلى تحيين بنيات تعاطيها الدبلوماسي مع فرنسا، شأن دول جوارها.. لوحدها لن يكون تحمُّل ذلك سهلا. عدا المغرب، بقية جيرتها ستكون في وضع تأزُّم وفي مخاض تحوُّلات مفروضة ومفاجئة.
المغرب أهَّلَ نفسه، سياسيا واقتصاديا، لتمنيع نفسه من “الإشعاع” الفرنسي، بحيث لا تُتوقّع تحولات دراماتيكية في علاقاته مع فرنسا. ستجد موريتانيا المغرب بجانبها موضوعيا، يدعوها إلى التفاعل والتكامل والتعاضُد على مبدأ التكافؤ والتآخي. ولد الغزواني يعرف ذلك، والذين صوتوا لصالحه اختاروه لأنه يعرف ذلك، ويضع في مستقبل موريتانيا تدفُّقا عاليَ الصبيب من التعاون الموريتاني والمغربي، الإنساني والاقتصادي والإستراتيجي.
*صحيفة العرب