بقلم: هيثم شلبي
كما كان متوقعا، قدم المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إحاطته نصف السنوية لأعضاء مجلس الأمن، في جلسة مغلقة سبقها لقاؤه (أي دي مستورا) مع كل من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، المسؤول في الخارجية الأمريكية جوشوا هاريس، ووزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف! وكالعادة، لم تخرج أي قصاصة أخبار بأي جديد حول لقاءات المبعوث الأممي أو فحوى إحاطته لأعضاء مجلس الأمن، وانتهى “المولد” على عبارات باردة بلا لون أو طعم أو رائحة من قبيل دعم أعضاء مجلس الأمن لدي مستورا في مهامه، ودعوة الأطراف إلى التجاوب مع جهوده، بالموازاة مع ضبط النفس والامتناع عن أي أعمال عسكرية شرق الجدار الأمني، إلى أن يتجدد اللقاء مرة أخرى في أكتوبر، لطلب التجديد للمينورسو في المنطقة، واعتماد الملايين التي ترصد لهم سنويا، والتي تنفق بدون أي عائد!
لقد مضى قرابة العقدين منذ أن أطلق الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان تحذيره من أن “صبر الأمم المتحدة بدأ ينفذ تجاه تعطل إيجاد حل لهذا النزاع”، ولا زلنا ننتظر ما الذي سيترتب على نفاذ الصبر هذا!! تصريح عنان ارتبط بخياراته الأربعة التي لا خامس لها لمشكلة الصحراء، التي أطلقها عام 2022، والتي يبدو واضحا اليوم أنه لم يتبق منها سوى الخيار الأخير، في حال استمرت الأمم المتحدة، وتحديدا مجلس الأمن، في التعامل مع القضية وفق آليات تفكير واقتراح دبلوماسيين كدي مستورا: فرض الاستفتاء دون انتظار موافقة الطرفين، فرض الحكم الذاتي دون انتظار موافقة الطرفين، تقسيم الصحراء بينهما، سحب بعثة المينورسو تركهما يواجهان مصيرهما بأدواتهما الخاصة!
الواقع يقول أنه وبعد مرور أزيد من ثلاثة عقود على وجود المينورسو، وبالتالي تداول الملف في مجلس الأمن، انتهى العالم من إمكانية إقامة استفتاء تقرير المصير بعد محاولات مضنية من 1991- 2000، حيث عبر عن ذلك كوفي عنان صراحة، وبكلمات لا تحتمل التأويل، وذلك في تقريره المقدم بتاريخ 22 يونيو 2001: “لقد تبين لمنظمة الأمم المتحدة أن فرص إجراء استفتاء أصبحت شبه معدومة، وأن الأفضل هو البحث عن حل سياسي”. عنان أصدر حكمه هذا أمام استحالة التوفيق بين اشتراط البوليساريو على اقتصار الاستفتاء على من وردت أسماؤهم في الإحصاء الإسباني (وأبنائهم طبعا)، ورفض المغرب لأي استفتاء لا يشمل جميع أبناء الصحراء. أما تقسيم الصحراء الذي سارعت الجزائر والبوليساريو إلى تلقفه بالترحاب، فقد قام المغرب بوأده قبل أن يجف حبره، على اعتبار أن وحدته الترابية غير قابلة للتجزيء من أجل إرضاء مجلس أمن عاجز!! بناء على الحقائق السابقة توقف مجلس الأمن عن ذكر كلمة استفتاء منذ القرار 1675 الصادر في أبريل 2006، وذلك حتى قبل أن يقدم المغرب مقترحه للحكم الذاتي رسميا بعدها بعام، استجابة لمطالب مجلس الأمن في البحث عن “حل سياسي متوفق عليه”. حصرية الحل السياسي جاءت بعد أن أغفل مجلس الأمن ذكر الاستفتاء خلال الأعوام 2003- 2006، وبعد أن أدخل البحث عن حل سياسي بجانب الاستفتاء في القرار 1309 لعام 2000، ونص صراحة على تفضيل الحل السياسي على الاستفتاء في أبريل 2001! لكن، هل يمكن القول أن حظوظ “الحل السياسي المتوافق عليه” أكبر من حظوظ مقترح الاستفتاء؟! لاسيما في ظل تمسك الأطراف بمواقفها؟
كما سجل العالم استحالة تنظيم الاستفتاء بعد تجربة شاقة استمرت على مدى عشر سنوات، يبدو أن المنطق يحتم الإقرار باستحالة الوصول إلى حل سياسي متوافق عليه، مع إصرار المغرب على وضع مخطط الحكم الذاتي وحده على مائدة الحوار المستديرة بحضور النظام الجزائري قبل صنيعته البوليساريو؛ وإصرار الجزائر “العبثي” على أنها ليست طرفا في الموضوع، وبالتالي رفضها للجلوس على المائدة؛ وبالتبعية، استمرار البوليساريو في اشتراط وضع الاستفتاء “المقبور” على مائدة الحوار، بجانب خطة الحكم الذاتي، وهي مواقف لا يمكن لدي مستورا ولا غيره من الدبلوماسيين جسرها دون تدخل مباشر من الدول العظمى التي تمتلك إمكانية الضغط على الجزائر لوقف محاولاتها إعادة الحياة إلى الاستفتاء الذي دفنه العالم، ولا يمكن لنفس مجلس الأمن أن يعطيه شهادة حياة مرة أخرى! ولأن مثل هذا الضغط مستبعد في ظل تشابك المصالح العالمية، واستمرار نفس الوجوه في التحكم في النظام العسكري الجزائري، فإن هبوط هذا النظام عن شجرة رفض المشاركة في الموائد المستديرة يبدو مستبعدا، في ظل غياب “سلم” يساعده في مثل هذا الهبوط دون أن تكسر رقبته!! وحتى لو نزل عن الشجرة، وقبل الجلوس إلى مائدة الحوار، فإن قبول المغرب بنقاش الاستفتاء بجانب الحكم الذاتي، مستحيل كاستحالة قبول الجزائر والبوليساريو باقتصار الحوار على مقترح الحكم الذاتي وحده!
ومع استحالة الرجوع إلى مخطط التقسيم، يبدو الخيار الرابع لكوفي عنان هو الوحيد المطروح كمخرج من هذه الوضعية: سحب المينورسو وترك الأطراف “تقلع شوكها بأيديها” دون تدخل من العالم. وأغلب الظن أن قرارا مماثلا قد اتخذ مؤخرا، دون أن يحتاج الخمسة الكبار في مجلس الأمن إلى إعلانه!! على أن تأتي لحظة الإعلان، بعد أن تنشأ حقائق جديدة على الأرض تجعل مثل هذا الإعلان “تحصيل حاصل”، كيف ذلك؟!
إن غباء النظام العسكري في الجزائري، وافتقاد مرتزقة البوليساريو للحد الأدنى من الحكمة او الاستقلال، جعلهما يندفعان -ولا يزالان- تجاه محاولة تخدير الرأي العام في مخيمات تندوف، بأخبار الهجمات العسكرية الوهمية التي يشنونها على تجمعات القوات المسلحة الملكية المغربية، وهو ما أعطى -ويعطي- ذريعة للجيش المغربي بالرد على مصدر النيران، وصولا إلى تطهير كامل المنطقة العازلة “المحرمة” من أي وجود عسكري لمرتزقة البوليساريو. وسيقود ذلك إلى جعل الخط الدفاعي الأول، سواء بجدار رملي أو بدونه، يوضع ملاصقا للحدود الدولية مع موريتانيا والجزائر، ويقود إلى بسط سيطرة المغرب سلطته المباشرة على كامل أراضيه. هذا المعطى الذي تفيد معظم الأخبار والتحليلات بقرب تحوله إلى واقع، سيجعل وجود المينورسو نفسه غير ذي معنى، لتواجدها على أراض تسيطر عليها القوات المسلحة المغربية (وليست منطقة محايدة منزوعة السلاح)، ولا تشهد أي نشاط عسكري.
هذا المعطى العسكري، يتم تعضيده حاليا بمعطى سياسي مشابه، من خلال الطرد المتوقع “لجمهورية تندوف” من أروقة الاتحاد الأفريقي، وبالتالي انتفاء تمثيل مرتزقة البوليساريو لأي صحراويين، وتكريسهم كمرتزقة إرهابيين يحتجزون بعض المواطنين المغاربة قسريا في مخيمات تندوف بحماية جزائرية! وهذا المعطى سيتحول بدوره إلى واقع بمجرد استرجاع بعض الأصوات المؤيدة للمغرب لمقعدها في الاتحاد، بعد ترسيم حكومات مدنية منتخبة فيها: مالي، بوركينافاسو، النيجر، الغابون، السودان، وغينيا، وهو ما سيؤمن للمغرب أغلبية الثلثين الكافية لتصحيح “تشوه” ميثاق الاتحاد، الذي سمح “لدول” غير معترف بها في الأمم المتحدة بعضويته! هذا دون نسيان ما تقود إليه جهود الدبلوماسية المغربية من تراجع عن الاعتراف بالبوليساريو، واتخاذ أعداد متزايدة من الدول (داخل وخارج القارة الأفريقية) قرارات سيادية تعترف بمغربية الصحراء، وبحد أدنى اعترافا بالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كآلية لإقفال هذا الملف. رفع الغطاء الأفريقي عن البوليساريو، سيكون المرحلة الأخيرة في سحب الملف برمته من اللجنة الرابعة في الأمم المتحدة، وبالتالي تكريس الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على كامل ترابه الوطني.
يتضح من هذه المعطيات المنتظرة، التي لن يتأخر موعد تكريسها على أرض الواقع، بأنها تتم خارج الأمم المتحدة، وإن كان بمعرفة وتأييد -أو عدم ممانعة- الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، لضمان عدم صدور ما شأنه عرقلة مسارها، وهو ما سيجعلنا نحتفل قريبا بخروج آخر جندي من بعثة المينورسو، وإعلان إقبار هذه المحاولة الجزائرية (الفرنسية في الحقيقة) البائسة لتقسيم المغرب، ومنع تواصله مع محيطه الأفريقي، على أمل أن يعجل ذلك في رحيل الطغمة العسكرية الحاكمة في الجزائر، واستئناف المغرب علاقاته الطبيعية على مستوى المغرب الكبير، لما فيه مصلحة كامل شعوب المنطقة، وهو ما تلوح تباشيره أقوى من أي مرحلة سابقة!