الإستراتيجية الفكرية المطلوبة

لعل من أولى دواعي الاستجابة لهموم المجتمع العربي حالياً، البحث عن آفاق التغيير والتطوير والأمل في المستقبل، لأن قوى التطور هي الغالبة مادام في الإنسان حب الحياة.

فالتطورات الأخيرة التي أسفرت عن تقدم ملحوظ لـ«داعش» في سوريا والعراق، وما تبع ذلك من ضغوطات سياسية وعسكرية على كيانات بعض الدول ووحدتها الوطنية، وتداعياتها الإقليمية المستمرة، رغم وجود تحالف دولي يضم أربعين دولة لمواجهة التنظيم الإرهابي، واستنجاد العراق بميلشيات الحشد الشعبي الشيعية المدعومة إيرانياً، وتغيير الولايات المتحدة إستراتيجيتها في المنطقة نحو ما تعتبره توازناً بين العرب وإيران..

المزيد: التحول في مراكز القوى العربية

كل هذا أدى إلى تشكل وعي عروبي مشترك مبني على الثقة بالذات وعلى استعمال كل القوى الذاتية والمشتركة لتحقيق الأهداف وصون المصالح وحماية الحدود، وهو ما جسدته عاصفة الحزم بقيادة المملكة العربية السعودية، والتي أعادت الروح للجسد العربي وذادت عن حياض العروبة في مواجهة إيران التي ظنت أن طبولها في اليمن ستكمل دائرة عدوانها، بعد أن قرعتها في بيروت وبغداد ودمشق، وهذا يستلزم منا نحن المفكرين جهداً فكرياً لقيادة إستراتيجية فكرية تداوي مرض العقل والواقع العربيين بوصفات استشفائية لإخراج الأمة من أزماتها.
فعطالة الفكر والعقل العربي أديا إلى تخلف شامل في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والتربوية، وبدلا من الاستعانة بالعلم وقوانينه يستعيض الفكر والمفكرون عن ذلك بخزعبلات فكرية وأوهام أيديولوجية، فالجامعات ومراكز الأبحاث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، بدلا من أن تكون مختبرات علمية ومؤسسات فاعلة معرفياً، تفقد أهميتها في تطوير المجتمعات العربية، وتصبح خلايا تجمعات طلابية وأحزاب تتصارع على تفاهات لا تسمن ولا تغني من جوع، كما أننا نتصارع على عقائد وليس على الحقيقة.

لذلك فالعالم العربي بحاجة لطاقة مدفوعة بروح النقد والعقلانية الراشدة والتنويرية التي تتجاوز الصراعات والأسئلة الخاطئة والفاشلة والتقابلات العميقة، وهي التي توازن بين الرؤية الثباتية والرؤية الحركية التي تشخص وتؤثر على الذات في نظرة تجمع بين التحليل والتركيب والنقد والإصلاح والمنهج والرؤية لبناء نظام عقلاني تنويري عربي جديد ونظام معرفي يبعث الحياة في العقل العربي، إن التطوير الذي نحتاج إليه هو الذي يحرر الذات من رواسب اللاعقلانية ويقرِّب الإنسان العربي من المفاهيم العقلانية ليستنبتها استنباتاً داخلياً، وقد استثمر المرحوم محمد عابد الجابري في مفهوم البيئة (بمرادفاته المختلفة) ليس فقط لغاية ابستمولوجية وتاريخية، وهي التأصيل الثقافي لمفاهيم الحداثة، ولكن أيضاً لغاية خطابية، وهي مواجهة الذين ينقلون نقلا ميكانيكيا فجاً، حسب قوله، المفاهيم الغربية إلى الثقافة العربية، فالنقل الميكانيكي للمفاهيم الحداثية يضرها أكثر مما ينفعها، لأنه من جهة، لا يمنحها المشروعية، أي إكساب المفهوم المنقول سلطة ثقافية في الفكر العربي المعاصر، ومن جهة ثانية، لا يمنحها القابلية للاستنبات، أي ربطها ربطاً عضوياً بالثقافة العربية المعاصرة.
الذي نحتاج إليه في وطننا العربي بعد الخراب المدمر الذي نراه اليوم في العديد من الأوطان هو «صنع ما ينبغي أن يكون» على أساس «معرفة صحيحة لما كان»، بدفع عجلات الفكر العربي قدماً إلى بر العقلنة وإنهاء رواسب اللامعقول. فإصلاح العقل توطئة لازمة لإصلاح ما اعوج في الأوطان والسياسة. ونبقى هنا أوفياء لخط الفارابي (وكان أيضاً خط المرحوم الجابري خلافاً لابن رشد) الذي وضع السياسة على رأس العلوم، ولكن نضيف إليه العلم لإعادة بناء الوطن العربي في إطار من الوحدة والتنوير والعقلانية.
إن عملا فكريا من ذلك القبيل يمكن أن يمثل قاعدة التغيير المطلوب وبداية محمودة لانطلاقه، وكل هذا يشمل، كما يرى الفيلسوف المغربي عبدالله العروي في حديثه عن الثورة الثقافية، فهمنا للكون والإنسان والواقع والتاريخ، هي ثورة في المنهج تغير كل اتجاهاتنا الفلسفية ومنهجنا التقليدي العقيم، وتبني إستراتيجيات خلاقة، إنها أشبه بالثورة الكوبرنيكية التي قلبت كل شيء في ذهن الإنسان دون أن يتغير أي شيء في الكون.

*أكاديمي مغربي/”الاتحاد”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *