هناك إجماع في العالم، على استنكار الإجرام الداعشي الذي تعرض له سكان مدينة سرت، والمذابح التي طالت أهلها المدنيين العزل من السلاح الذي ذهب ضحيته عدد كبير من الضحايا. وقد ذكرت الإحصاءات الأولية أن عدد القتلى يزيد عن 170 قتيلا، دون وجود قوة تستطيع حماية هؤلاء المدنيين، فالجيش الليبي محاصر في جزء من البلاد، أقصى الشرق، تحت طائلة حظر دولي، يمنع وصول السلاح إليه، من أي مكان في العالم، أما الميليشيات بما فيها تلك التي تدعي انتسابا لثورة 17 فبراير، فهي مشغولة بتثبيت ملكها في البلاد، وسيطرتها على مناطق اعتبرتها حيازة لها، بما في ذلك العاصمة طرابلس التي تقع تحت سيطرة ميليشيات تسمي نفسها فجر ليبيا، ولا صالح لها في الخروج من المدن التي تسيطر عليها، معنية بالتمكين لحكم الجماعة في الجزء الغربي من البلاد، تخشى إذا تحركت لنصرة المدنيين في سرت، أن تفقد سيطرتها على هذا المركز الذي احتلته احتلالا، وقد تأتي قوة منافسة تأخذ مكانها، وهي التي سبق أن طردت قوات موالية للزنتان، كما دخلت في معارك مع قوى تتبع الجيش الرسمي، ولم تقم بزحفها وترتكب ما ارتكبته من انتهاكات وما حصل بينها وبين خصومها من حرب وما سقط من قتلى في صفوفها والصفوف المقابلة لها، لكي تترك العاصمة دون ثمن، أو أن تضمن لنفسها شراكة في حكم البلاد في المرحلة القادمة، وهناك حراك ميليشياوي غير الموجود في طرابلس، متواجد في جنوب البلاد، وربما في جزء من شرق البلاد وغربها، يدخل في تحالفات ومساومات مع الدواعش أنفسهم وتجمعه بالدواعش أواصر الإيمان بإسلام سياسي متطرف واحد، ولا يضيره أن يجد داعش قد حقق نصرا في هذه المدينة ذات الموقع الإستراتيجي من مدن ليبيا الرئيسية.
المزيد: 169 قتيلا في غضون يومين بمدينة سرت
فمدينة سرت، تتمتع بموقع إستراتيجي على الساحل الليبي، لأنها حلقة الوصل بين شرق البلاد وغربها وجنوبها، توفرت لها بنية تحتية أكثر من أي مدينة أخرى، حيث كان النظام السابق يعتبرها العاصمة، وضخ المليارات من أموال النفط ليجعلها كذلك، وفيها ميناء ومطار وبها قواعد عسكرية، بحرية وجوية، وتحظى باستقبال أكثر مقدار من المياه التي تأتي عن طريق الأنابيب العملاقة للنهر الصناعي، وفي خليجها يقع الهلال النفطي بموانئ التصدير الشهيرة مثل البريقة والزويتينة وراس لانوف الذي يضم مصنعا للبتروكيميات أيضا، وقد حظيت خلال العقود الأربعة من حكم القذافي باهتمام خاص، فهي مدينة أهله وأنصاره، وبمثل ما كانت مسقط رأسه، فقد كانت المكان الذي قطع فيه هذا الرأس، ولعل هناك من أراد الثأر له من أهل هذه المدينة بمساعدة داعش على الوصول إلى حكم سرت، نكاية بأهل الحراك الثوري الذي أطاح بالعقيد وتسبب في قتله، لكنه بالتأكيد نادم لأنه دخل في صفقة مع الشر والإجرام والتوحش، وتنظيم ليس له صديق ولا صاحب ولا حليف إلا الشيطان.
توالت صيحات الاستنكار لما حصل في سرت، وخرجت البيانات من أغلب عواصم العالم وتهاطلت دموع التماسيح من أهل السياسة في المجتمع الدولي، وتصاعدت آلة الإعلام تصنع جعجعة لا يصحبها طحين، ودعت جامعة الدول العربية إلى اجتماع طارئ لمندوبيها في مقرها في القاهرة، ليناقش الجرائم التي يرتكبها داعش في سرت، ولا أحد يتوقع أن تكون للاجتماع فعالية، مثله مثل اجتماعات روتينية سابقة له تتناول الشأن الليبي، تصدر عنها إلا بيانات الشجب والإدانة.
هناك عذر تقدمه قوى المجتمع الدولي، وتستخدمه ذريعة في عجزها عن الفعل، في ما يتصل بالحالة المؤسفة في ليبيا، وتجعل تحقيق مطلبها المرتبط بهذا العذر، شرطا لتقديم أي معونة إلى ليبيا في إخراجها من الحالة المتأزمة التي تعيشها، بما في ذلك رفع الحظر عن تسليح الجيش الليبي، وهو إنهاء حالة الانقسام التي يعيشها أهل الحراك السياسي الليبي، والتي نتج عنها وجود حكومتين، إحداهما في الشرق والثانية في الغرب، ووجود مجلسين للبرلمان شرقي وغربي، ووجود أكثر من جيش، غير الجيش الرسمي، في شكل ميليشيات أكثر قوة وأكبر عددا من الجيش نفسه، وهو وضع يجب أن ينتهي على أيدي الليبيين، بالوصول إلى إقامة حكومة وحدة وطنية عن طريق المفاوضات التي تشرف عليها بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، تملأ الفراغ الذي تراه القوى الدولية سببا في انتشار قوى التطرف وسيطرتها على مناطق كثيرة من ليبيا، مع بقاء البلاد مسرحا لعصابات الإجرام الدولية التي تتاجر بالهجرة غير الشرعية، وأسهمت في أن تجعل ليبيا مركز تجمع لقوارب الموت التي تنطلق من شواطئها.
المزيد: من يتصدى لتنظيم “داعش” في ليبيا؟
ولا شك أن هذا المطلب الدولي، واستفحال الأزمة الأمنية في البلاد، وتفاقم المأساة التي يعاني منها أهالي سرت على يدي التوحش والإجرام الداعشيين، يضع تحديا أمام أهل الحراك السياسي، وأطراف النزاع المشاركين في المفاوضات، يجعلهم مطالبين من شعبهم بالارتفاع إلى مستوى المسؤولية، والإسراع في إنجاز حكومة الوحدة الوطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، وقبل أن تتحول ليبيا إلى مشكلة عصية على الحل.
* كاتب ليبي/”العرب”