خلال العقدين الماضين، أصبح المسلمون يشكّلون نسبة عالية في جلّ البلدان الأوروبيّة التي جاؤوا إليها بحثا عن العمل، أو بغرض الدراسة، أو هربا من القمع ومن الإضطهاد. وبذلك يمكن القول إن الإسلام بدأ يعود بقوّة إلى أوروبا ليحتلّ فيها مكانة بارزة عقب كسوف مديد كانت بدايته خروج العرب من صقليّة، ثمّ من الأندلس.
واحتراما لهذه الجالية التي يزداد اتّساعها سنة بعد أخرى، وفّرت أغلب الدول الأوروبيّة، مثل فرنسا التي يعيش فيها عدد كبير من المغاربة، وبريطانيا التي تستقطب مسلمي شبه القارة الهندية، وبعض الدول الإفريقيّة المسلمة، وألمانيا التي يقيم فيها ما يزيد على 7 ملايين تركيّ، أماكن تمارس فيها العبادات الإسلاميّة بكلّ حريّة، ومنحت الجاليات المسلمة حقّ ممارسة شعائرها الدينيّة من دون أيّ ضغوط.
وبذلك أصبح الإسلام واقعا يوميّا مأولوفا. والآن حين تسير في بعض الأحياء التي يشكّل المسلمون أغلبيّة سكّانها، تخال أنّك في الجزائر، أو في اسطمبول، أو في الدار البيضاء، أو في تونس، أو في إسلام أباد، وليس في باريس، أو برلين، أو لندن، أو أمستردام… وبسبب انتمائهم إلى مجتمعات رعويّة، وزراعيّة، وقبليّة، اصطدم هؤلاء المسلمون بعادات لم يألفوها، وبنمط من الحياة غريب عنهم، وبعادات وتقاليد كان من العسير عليهم تقبّلها ومجاراتها.
مع ذلك وجدوا بين الأوروبيين من يدافع عن وجودهم، وعن حقوقهم، ومن يعمل على حمايتهم من الحركات العنصريّة والشّوفينيّة. لكن بعد انهيار جدار برلين، وسقوط ما كان يسمّى بالاتحاد السوفياتي، وبلدان المجموعة الاشتراكيّة، تغيّرت الصّورة، وتبدّلت الظّروف. فالأفكار التقدميّة شهدت انحسارا كبيرا إن لم تكن قد تساقطت مثل أوراق الخريف. والمثقّفون الملتزمون بالدفاع عن قضايا الحرية، وعن المظلومين، والمظهدين قلّ عددهم، ولم تعد كلمتهم مسموعة مثلما كان حالهم في الماضي القريب.
وأما على المستوى الإقتصادي والإجتماعي فقد اشتدت الأزمات وتفاقمت متسببّة في ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل. وفي ظلّ مثل هذه التحوّلات الخطيرة، شهدت الأحزاب، والمنظّمات اليمينيّة المتطرّفة يقظة جديدة، متمكّنة في ظرف زمنيّ قصير من التّغلغل في أوساط العاطلين عن العمل، وضحايا الأزمات الاقتصاديّة المتفاقمة. مقابل ذلك، فقدت الأحزاب اليساريّة الكثير من أنصارها. وهكذا راحت الأطروحات اليمينيّة والعنصريّة تغزو القلوب والعقول، مقنعة المفتونين بها أنّ الجاليات الأجنبيّة، المسلمة بالخصوص، هي المسؤولة الأولى، والأخيرة عن البؤس الإجتماعي والاقتصادي الذي ضرب الملايين من الأوروبيين.
وقد ازداد وضع الجاليات المسلمة سوءا بعد ان تعددّت العمليّات الإرهابيّة التي يقف وراءها أنصار الحركات الأصوليّة المتطرّفة. وما هو مؤكد وثابت بحسب الأبحاث التي أجريت هو ان عددا لا بأس به من أبناء المهاجرين المسلمين ضالع في العمليّات المذكورة. وفي الخطب التي يلقونها في المساجد المنتشرة في العواصم والمدن الأوروبية، بات من المألوف أن يقوم الأئمة المتشددون بالدعوة إلى “الجهاد المقدّس”، والتحريض عليه نازعين عن الإسلام وجهه الإنساني المتسامح، محوّلين المسلمين إلى كائنات مهووسة بالدم، والجريمة.
وكان من الطبيعيّ ان تجد المنظّمات، والأحزاب اليمينيّة والعنصرية في العمليّات الإرهابيّة، وفي الخطاب المتطرف العنيف والحاقد، وسيلة لتوسيع نفوذها الشيء الذي جعلها تبدو أحيانا وكأنها الوحيدة القادرة على أن تضمن للأوروبيين الخلاص من “الشرّ القادم”. وهذا ما أثبته الواقع السياسي في فرنسا بعد الجرائم الفظيعة التي اقترفها الجزائري محمد مراح في مدينة تولوز، ومجزرة “شارلي ايبدو” التي نفذها الأخوان كواشي، واقدام شابّ نيجيري مسلم يقيم في لندن على ذبح جندي في الشارع العام.
المزيد: شارلي ايبدو.. نار في جبال الجليد
وتنضاف هذه الجرائم إلى سلسلة من العمليّات الإرهابيّة اقترفت في اسبانيا وهولندا وبلجيكا. كما أن تنتظيم “داعش” الذي تمكن في فترة زمنية وجيزة من أن يبسط نفوذه على مساحة واسعة بين العراق وسوريا، استقطب مئات من الشبان المسلمين المهاجرين، ليصبحوا من أنصاره الأكثر تشددا وتعطشا للدم.
وقد وجد بعض المنظّرين اليمينيّين في كلّ هذا ما يبرّر أطروحاتهم التي تقول بإنّ الإسلام أصبح بعد انهيار الشيوعيّة العدوّ الأشدّ خطورة بالنسبة للعالم الغربي الرأسمالي.
وقد كتب أحد الصحفيين الفرنسييّن يقول: “إن الأصوليّة الإسلاميّة أصبحت بطريقة عاجلة وسريعة، التّهديد الأساسيّ للسلام والأمن العالميين. وهذا التّهديد يشبه التهديد النّازيّ والفاشي خلال عقد الثلاثينات من القرن الماضي، والشيوعي خلال عقد الخمسينات”.
ويبدو لي أن الجاليات المسلمة في أوروبا مسؤولة بدرجة كبيرة عن هذه الصّورة القبيحة عن الإسلام والمسلمين. فقد نسى الكثيرون من أبنائها الأهداف التي جاؤوا من أجلها إلى أوروبا، وراحوا يتصرّفون وكأنهم غزاة. وفي مواجهة العنصريّة، هم يركنون الى العنف والإرهاب، معتقدين ان الردّ على الكراهيّة بالكراهيّة، وعلى الحقد بالحقد هو الضّمان الوحيد للحفاظ على وجودهم.
وإذا ما هم استمرّوا في ذلك، ولم يسارعوا بالتخليّ عن مثل هذه الأساليب الهمجيّة، وبنبذ الغوغائيين من صفوفهم، فإن العواقب ستكون وخيمة، وسيكونون هم الخاسرون في النهاية.
*كاتب وصحفي تونسي/”مجلة الخليج”