تَوافقَ الليبيون المشاركون في جولات حوار الصخيرات المغربية على إطار عام لإعادة بناء السلام في وطنهم الذي مزقته الحرب الداخلية منذ سقوط النظام في ربيع 2011. ولئن تغيّب عن مناسبة التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق الإطار يوم السبت 11 يوليوز المنصرم وفدُ المؤتمر الوطني العام، فإن ردودَ الفعل التي خلفها الحدث أجمعت على أن صفحةً جديدةً فُتحت في مسار تطور الأزمة الليبية، وأن الإمساكَ بمفاصل الاتفاق سيقود الليبيين إلى أفق المصالحة الوطنية وإعادة بناء مؤسسات دولتهم، وتجنيب مجتمعهم مآسي الحرب التي حولت بلدهم إلى كيان فاشل.
قادت شهور الحوار بين الفرقاء الليبيين على أرض المغرب، وبإشراف الأمم المتحدة، إلى إنضاج أفق التخلي عن الحرب، والتماس سبيل التفكير الجماعي في استكمال البناء السلمي للدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية.. صحيح أن الحوار لم يُمعن في التفاصيل والجزئيات، لأن في ثناياها يكمن الشيطان، كما يُقال، لكن نجح، وإن بشكل نسبي، في إقناع الجميع باستبدال منطق السلاح بلغة الحوار والتداول والبحث عن المشترك.. ثم إن القيمة الاستراتيجية لشهور المفاوضات في أرض المغرب تكمن في أنها مكّنت الفرقاء الليبيين من إعادة ترميم جسور الثقة التي كسرها هولُ البنادق، ومزقها صراعُ الميليشيات. والحقيقة أن بناء الثقة يحتاج إلى جهد وصبر كبيرين، والأهم يحتاج إلى رجال ونساء قادرين وقادرات على بث روح الثقة في ضمائر الناس من أجل بلوغ السلام الذي ينشُده عموم الليبيين.
يُجانب الحقيقة من يعتقد أن عودة السلام والاستقرار والأمن إلى ليبيا شأن ليبي يخُص الليبيين بالدرجة الأولى، أو قضية داخلية تندرج ضمن ما يُسمى المجال السيادي لليبيا..إن ما يجري في ليبيا من اقتتال عبثي يهم المنطقة برمتها، ويطال بذيوله وتبعاته كل بلدان الجوار القريب والأقل قُرباً. ومن يمعن النظر في الموقع الجيوـ استراتيجي لليبيا، وحدودها المشتركة مع أكثر من قطر، يُدرك خطورة استمرار هذا البلد الشقيق فريسةَ الحرب وتبادل السلاح. لنتأمل كيف ستصير الأمور في بلد مفتوح على ثلاث دول أساسية في المنطقة هي تحديدا: مصر، تونس والجزائر، ناهيك عن الحدود التي تربطه مع أقطار إفريقية على خط النار بسبب الإرهاب وتهديدات تنظيماته. ففي تونس، وهي الحلقة الأضعف أمنيا على خط التماس مع ليبيا، تحولت أراضي هذه الأخيرة إلى حلبة لتدريب التكفيريين التونسيين وتغذية عملياتهم، والأمر نفسه قد ينتقل إلى دول أخرى مجاورة. لذلك، لابد من النظر إلى الأزمة الليبية من منظور ما تمثل من خطورة على المنطقة ككل.
يمكن لاتفاق الإطار الذي تُوجت به حوارات الصخيرات المغربية أن يشكل أرضية مشتركة لاستئناف سيرورة الانتقال التي شرعت فيها ليبيا في أعقاب سقوط نظامها عام 2011، ويمكن للأطراف المتوافقة إن هي اقتنعت بشكل لا رجعة فيه أن تطوره وتدقق أفكاره لبناء مشروع جديد، يُنقذ البلاد وَيَحِملُها إلى بَرِّ الأمان.
لاشك أن خريطة الصراع في ليبيا معقدة ومتشابكة، ومتضاربة التوجهات والمصالح، ولاشك أن الفراغ الذي تركته الحقبة السابقة من زاوية ضعف المؤسسات وهشاشة وسائط التواصل بين الدولة والمجتمع تضغط بثقلها القوي على ما يجري الآن في الأراضي الليبية، لكن من الأكيد أن تحويل توافقات الأطراف الموقعة بالأحرف الأولى على اتفاق الصخيرات إلى ممارسات حقيقية على أرض الواقع سيقطع مع الترددات، وربما المقاومات التي ستُواجه اتفاق الإطار، وستمكن عموم الشعب الليبي من كتابة تاريخ جديد لبلده، ولدولته الجديدة بمؤسساتها وثقافتها السياسية الجديدة. غير أن ليبيا تحتاج إلى دعم إقليمي وجهوي صادق وحقيقي، يجمع الأطراف المتصارعة ولا يفرقها، ويؤازر بفعالية أنصار الدفاع عن مشروع السلام في ليبيا..كما تحتاج ليبيا إلى يقظة دولية تُيسِّر ديناميات الحوار، وتُصاحب كامل الأطراف في بناء ليبيا الجديدة، سواء من حيث استكمال تحقيق الوحدة الوطنية حول مشروع البناء، أو من خلال إنجاز خطواته من مصالحة وطنية، وصياغة دستور جديد، وتشكيل المؤسسات الدستورية والسياسية .. إنها رحلة طويلة وشاقة، لكن سالكة وممكنة.
* عضو إتحاد المحامين العرب/”أخبار اليوم”