بدأ الحوار الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة، أخيراً، وأكثر من أي وقت مضى، يتجه نحو مسارات خاطئة، تُنذر بفشله، أو على أقل تقدير، فشل المبعوث الأممي، برناردينو ليون، في إيجاد مسودة حوار يتفق عليها الأطراف في البلاد، ولو مبدئياً، ما لم يكن واقعا في جولات الحوار الماضية. بل رأى مراقبون كثيرون أنه زاد الهوة بين المتحاورين، بالمسودات الحوارية التي لم تكن متزنة بتعديلاتها المختلفة، لتأتي المسودة الأخيرة (الرابعة)، وتزيد من لهيب الاختلافات بينهم، وإن حاول بعضهم شرح إيجابياتها ليقنع بها حلفاءه، لكنه لم ينجح ولو بنسبة ضئيلة في ذلك، ليصير عدم قبول المسودة أمراً واقعاً، لا يحتاج إلى مزيد من النقاش والتحاور، بل ذهب بعضهم إلى ضرورة إبعاد الوسيط الأممي إن أريد للوساطة الأممية الاستمرار، وتحقيق مبدأ التوافق الأولي على أقل تقدير.
من هنا، نرى أن الوسيط الأممي نهج مساراً خاطئاً في كثير من جولاته الحوارية، وأركز، هنا، على التالي:
أولاً: التهديد بالقوة بفرض المسودة الأخيرة من بعض سفراء الدول الحاضرين للحوار لأعضاء الفريق المحاور من المؤتمر الوطني العام في الصخيرات المغربية، وهذا ما جاء على لسان رئيس المؤتمر الوطني العام، والذي لم يلق ردا أو توضيحا أو حتى “تبريرا” من الوسيط الدولي للحوار. ثانياً: التقاء الوسيط الدولي ببعض من أعضاء ورؤساء المجالس البلدية داخل البلاد أو خارجها، من دون الرجوع إلى السلطة الشرعية التي يتبعونها. ثالثا: عدم التوازن في اختيار الأعضاء المستقلين، ولا حتى وضع آلية واضحة تبين ماهية دخولهم في الحوار، باعتبار أن كثيرين منهم لا يملكون أدنى تأثير في البلاد، ناهيك عن طرفي الحوار. رابعاً: استحداث حوار متواز للأطراف الداعمة لكلا المتحاورين في الجزائر مبكراً، وقبل بلورة أية خطوط عريضة يمكن أن يتفق عليها طرفا الحوار الأصليان في الصخيرات، ما جعل دورهم أقل فعالية، أو حتى منعدماً في الجولات التي ظهرت فيها مسودة الاتفاق بتعديلاتها. خامساً: الفروق غير المتكافئة بين مسودات الحوار التي تصدر بين جولات الحوار، ما تُبين ضعفا في الأداء، وعدم وجود قواعد ثابتة، يسير عليها الوسيط في إنجاح الحوار.
هذه كلها مسارات خاطئة قادها الوسيط الأممي، لتكون أيضا بعدها نتائجه غير مقبولة من أحد أو كلا طرفي الحوار، في أكثر من مرة، ليصل إلى المسودة الأخيرة، والتي نسفت أدنى معايير الحيادية في كثير من موادها، وعدم تعرضها لقضايا خلافية جوهرية، والتي تعتبر لُب الخلاف، مبرراً ذلك بأن يكون ذكرها في الملاحق اللاحقة للمسودة.
ولعل من أهم ما أشارت إليه المسودة الأخيرة في موادها إنشاء مجلس الدولة المنبثق من المؤتمر الوطني العام، وإعطاؤه صبغة استشارية! على الرغم من كونه الطرف الأصيل في الحوار. وفي المقابل، لم تُشر المسودة إلى ضرورة بطلان جلسات البرلمان المنحل بحكم المحكمة العليا، وإعادة انعقاده بطرق يتفق عليها (قد) تُعطيه صبغة قانونية ناشئة عن مسودة الحوار التي يتفق عليها مبدأ لحل الأزمة لا أكثر، وكذلك لم تُشر إلى ضرورة بطلان قراراته السابقة، وإعادة انتخاب رئاسته بعد انضمام الأعضاء المقاطعين له مبدأً توافقياً، يمكن أن يتفق عليه، كل هذه الإشكاليات وغيرها جعلت كثيرين يرفضون المسودة، جملة وتفصيلاً، كونها تُشرعن لجسم معدوم شرعياً بحكم المحكمة العليا، وأنها لم تعط للطرف الآخر أي صيغة يمكن، من خلالها، أن يُحدث توازنا عند اتخاذ القرارات بأن تكون مقبولة من الطرفين، ولم تراع المسودة حكم المحكمة العليا، وتكيّف الاتفاق بما لا يضر مع حكمها، وبما لا يضر أيضا بالحوار بصيغة متوازنة عادلة، يمكن الاتفاق عليها وتكيفها قانونيا.
لم يحدث هذا كله، فبدأت الأصوات في البلاد ترتفع بضرورة كف الوسيط عن وساطته، لانحيازه غير المبرر في جولات حوار كثيرة، وانعدام الثقة، وعدم وضع حل شامل للأزمة بحزمة واحدة واضحة المعالم والمسارات. ومن هنا، نشأ قول عن مدى الاستفادة من هذا الحوار، بعد أن وضحت منعطفاته ومزالقه، إذ ليست البلاد بحاجة إلى مزيد من ضياع الوقت، من الانقسام، لكشف عدم نجاحه واستبداله بمسارات أخرى، أكثر جدية وفعالية.
*كاتب ليبي/”العربي الجديد”