بقلم: ميشيل كيلو*
بنت السياسة الأميركية موقفها من (داعش) على أسس أوهى من خيوط العنكبوت، اعتبرتها “دولة” تشبه دولة طالبان، همومها وخياراتها داخلية/ محلية، وليست خارجية أو دولية التوجهات والميادين. فمن الحماقة إجبارها على نقل معاركها من داخل مناطقها إلى العالم الخارجي، لأن ذلك يحولها إلى تنظيم “قاعدي”، عدوه الغرب وبقية العالم، بما سيترتب على تطور كهذا من تعقيدات وأعمال عنف لن يكون العالم الغربي قادراً على احتوائها في مدى منظور، ناهيك عن إخراج نفسه من الأوضاع التي ستجره إليها، وهو الذي ليس بحاجة إطلاقاً إلى معارك مع قوى يمكن أن تستغل ما في بلدانه من اختراقات ونقاط ضعف كثيرة، وأن تستهدف مصالحها وممثليها خارج حدودها أيضا. بهجومها المتزامن على الكويت وتونس وفرنسا وعين العرب، بدأت “الدولة” معركتها، كتنظيم قاعدي، ضد بقية العالم، وانهار رهان أميركا الساذج على منع تحولها إلى تنظيم كهذا، من خلال شن غارات جوية وهجمات برية محدودة عليها، بينما انفتحت أبواب الجحيم على تطورٍ، لا يعرف أحد إلى ما سيؤول، وما نتائجه، مع أننا نثق جميعا في أنها ستكون وخيمة إلى أبعد حد. توضح عمليات يوم الجمعة الماضي الإجرامية أن بلادنا ستكون منطلق وساحة عنف معولم، سينتشر خلال زمن قد لا يكون طويلاً، سيشمل العالم من دون أن يستبعد أية دولة عن أفعاله المباشرة وتأثيره المخيف. ومن يراقب عدد الذين تدفقوا على داعش من مواطنات البلدان المتقدمة ومواطنيها وحدها، يجد أنه يتراوح بين 25 و35 ألفا. فإذا أخذنا بالاعتبار قصر المدة التي تفصلنا عن يوم ولادته، ولا تتجاوز عامين، أدركنا أنه سيكون في وسعه شن هجماته على أي موقع في العالم، وتشكيل خلايا نائمة حيث يحلو له، والتخطيط لمختلف أنواع العمليات العسكرية وشبه العسكرية ضد أي مرفق يريد استهدافه، وتسديد ضربات متزامنة، أو متعاقبة، في أكثر من مكان، من دون أن يكون باستطاعة ضحاياه كشف مخططاته مسبقاً، أو الرد بطرق تحول دون تكرارها.
يتجه العالم بسرعة نحو وضع يضمر عوامل وقوى، يصعب إدراجها في أية توافقات شرعية أو تفاهمات دولية، أو إخضاعها للأسس التي يقوم عليها النظام الدولي، وتنضوي تحتها بصعوبة البلدان الصاعدة والقوى الجديدة. سيهدد هذا الوضع البلدان التي تواجه أزمات لا تستطيع حلها، خصوصاً في العالم العربي/ الإسلامي، بدوله شديدة الهشاشة التي سبق لداعش أن ألغت إحداها، عنيت الدولة السورية التي لم تكن بين أكثرها تأخراً وضعفاً. ولعله من المهم التذكير هنا بأن (داعش) دولة يترأسها (خليفة يرى في نفسه إماما للمسلمين تجب طاعته)، كما قال في إحدى خطبه، ودولتها لن تكتمل، ما دامت هناك دولة لم تندمج فيها، داخل المجال العربي/ الإسلامي.
ليس تحول (داعش)، من دولة منطوية على ذاتها إلى تنظيم قاعدي يقاتل العالم، غير عقوبة تنزل به، أنتجها تقاعس أميركا وروسيا عن دعم ثورة الحرية السورية وسماحهما بذبحها، وتوهمهما أن إغماض عينيهما عنها، واستخدامها أحدهما ضد الآخر، سيعود عليه بمغانم استراتيجية سيتيحها له تلاعبه بورقة المذهبية، ورفضه ما قاله السوريون دوماً، وهو أن إطالة الصراع لن تخدم غير أعداء الحرية والحضارة من أتباع النزعات المتطرفة الذين سيطفون على السطح، بقدر ما تغرق القوى الديمقراطية في بحار التجاهل والرفض، والصراع المذهبي/ الطائفي.
دفع أبرياء في الكويت وتونس وفرنسا وعين العرب ثمناً فادحاً لهذه السياسات الدولية، ليس فقط لأن (داعش) تحولت إلى تنظيم قاعدة، عالمي الانتشار والقدرات، بل كذلك لأن أحدا لم يتعلم من تجربة أسامة بن لادن الذي تلقى قرابة خمسين مليار دولار معونات أميركية، واستقبل الرئيس الأميركي، ريغان، رجاله في البيت الأبيض، وحياهم وأسماهم (أبطال الحرية)، ودرب عسكره وسلح مقاتليه بأحدث ما كان في ترسانة بلاده من سلاح، كصواريخ “ستنجر” المضادة للطائرات و”تاو” القاتلة للدبابات. وحين خرج الروس من أفغانستان، انقلب بن لادن على حلفائه الغربيين والعرب، وطرح مشروعه الخاص، المعادي لهم. عندئذ تبين لهم أنه استخدمهم أكثر بكثِير مما استخدموه، وانقلب إلى عدوهم الألد الذي بدأ ضدهم حرباً مركبة ومتشعبة الميادين، ربما كانت أشد خطراً عليهم من الحربين العالميتين اللتين خاضوهما.
دفع الشعب السوري ثمناً، ما كان في وسع مخلوق تصوره، بسبب سياسات وصراعات العالم الخارجي المجنونة في سورية. واليوم، يبدو أن الدور جاء عليه، ليدفع هو ثمناً أشد فداحة بكثير من أي شيء سيكون في وسعه تصوره، فهل يصحح سياساته السورية، ويقلع عن التلاعب بأرواح السوريات والسوريين وحيواتهم، ويعمل لوضع حد لعذاباتهم وموتهم؟
اللهم لا شماتة: “على نفسها جنت براقش”، كما كان أجدادنا الحكماء يقولون في حالات كهذه.
* كاتب سوري/”العربي الجديد”