بقلم: مصطفى الفقي*
كتبت منذ عدة أسابيع عن وضع العرب في الشرق الأوسط بين إيران وتركيا وإسرائيل والمنظمات الإرهابية وفي مقدمها «داعش»، وقلت يومها «إن العرب قد أصبحوا كالأيتام على مائدة اللئام»، ولقد وجدت مقال الصحافي العربي الكبير غسان شربل رئيس تحرير «الحياة» في يوم الاثنين 22 حزيران (يونيو) 2015 تحت عنوان «أيتام الشرق الأوسط»، وعندما يكتب غسان شربل فإنني مثل غيري نقرأ بعناية واهتمام لأنه يطرق موضوعاته بذكاء شديد وحرفية واضحة فضلاً عن موهبة في اختيار العناوين ذات الجاذبية الشديدة، أقول ذلك لأنني أريد أن أؤكد أن الوضع العربي العام لا يبدو مطمئناً ولا مريحاً فنحن نمر بواحدة من أصعب فترات تاريخنا المعاصر حيث تتراكم حولنا التحديات وتحيط بنا المخاطر من كل اتجاه، وفي ظني أن الجميع قد تخلى عن العرب ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل استهدفت بعض القوى الدولية والإقليمية شعوب الأمة العربية في لحظة ضعفها في محاولة لتمزيق وحدتها وتقسيم دولها وتحويلها «كانتونات» طائفية بفعل التخابر والتآمر وتصدير الإرهاب إليها، ويهمني هنا أن أربط بين الإرادة العربية المفقودة والرؤية القومية الضائعة وذلك من خلال استعراض النقاط التالية:
أولاً: كلما فكرنا في الوضع العربي العام والمشكلات التي تحتويه اكتشفنا دائماً أن المرجع الأخير والمصدر الأصلي لكل معاناته ينبثق من قضية الإرادة السياسية، إذ إن كافة المسائل المتصلة بالأمن القومي والمرتبطة بالأزمات الاقتصادية والإشكاليات الثقافية والصراعات الدولية يتحكم فيها عند النهاية عنصر الإرادة السياسية الحاكمة فيما يمكن أن يحتاجها من قضايا واشتباكات، بل إن موضوع التقدم والتخلف مرتبط هو الآخر بعملية التغيير التي تؤدي إلى الأفضل، إن الإرادة السياسية لمهاتير محمد هي التي غيرت شكل الحياة في بلاده وقدمت للعالم دولة ماليزيا الحديثة، والقياس على ذلك وارد في كل التجارب الكبرى والإنجازات الهامة فسوف نجد أن ميلاد الفكرة الوطنية التي تغير وجه الحياة ينطلق من الإرادة السياسية ولعلي أكون صريحاً أكثر فأقول إن غياب الإرادة السياسية لدى العرب هو الذي يتحمل المسؤولية الأولى في إخفاق مشروعهم القومي، وحين يتحدث البعض عن فشل جامعة الدول العربية في القيام بدورها فإنني أقول صراحة أيضاً إنه لا توجد إرادة عربية لتفعيل دور الجامعة والتنازل لها عن بعض الصلاحيات القطرية حتى تكون تعبيراً عاماً عن إرادة اثنتين وعشرين دولة، لذلك فإننا نظن أن غياب عنصر الإرادة هو المسؤول الأول عن مشكلات الوطن العربي ومعاناة شعوبه.
ثانياً: دعنا نعترف أن حالة التشرذم التي يعيشها العرب حالياً هي المسؤولة عن تردي الأوضاع وحالة الانقسام التي تسمح بوقوع كثير مما يجري من تآمر وحصار وضغوط لتطويق العالم العربي وإجهاض إرادته السياسية، والأمر ليس جديداً فالتاريخ العربي الحديث حافل بمحاولات الغرب لإعدام إرادة العرب وتعطيل مسيرتهم وتحويلهم عن أهدافهم الأساسية وصرفهم عن غاياتهم الكبرى، ولقد تمكن أعداء العرب من اختراق صفوفهم وتصدير الإرهاب إليهم بما أدى إلى إعاقة المسيرة العربية وإضعاف العمل العربي المشترك وتغييب الإرادة العربية الواحدة وهذه كلها أمور ملموسة في العقود الأخيرة، وكلما أمعنا النظر في واقع الشرق الأوسط وتأملنا تطوراته سوف نكتشف أن غياب الرؤية العربية وتعطيل الإرادة القومية هما اللذان يتحملان المسؤولية، ولست أعني بذلك أننا نوجه اللوم لغيرنا ولكننا نعترف بأننا دائماً ما نعيب زماننا والعيب فينا.
ثالثاً: إن دول الجوار العربي هي المستفيد الأول من تعطيل الإرادة العربية وغياب الرؤية القومية، فالعرب لا يلتقون على كلمة سواء ويتسلل بينهم غيرهم للنيل من الوجود العربي في كل مكان، فالخطر الصهيوني الداهم يمثل أسوأ أنواع الاحتلال الاستيطاني للأرض العربية، كما أن الدولة العبرية هي المستفيد الأول من غياب الإرادة لدى جيرانها بل وضعف الرؤية الشاملة بحيث يستطيع العرب أن يدركوا حقيقة الأوضاع المحيطة بهم من كل اتجاه، ولقد برعت إسرائيل في الاستفادة من نقاط الضعف العربية واخترقت مسار العلاقات بين العرب والأفارقة وبين العرب ودول الجوار الآسيوي كما حطمت بشكل كبير طبيعة العلاقات بين الغرب والعالم العربي حتى أصبحت العلاقة بين معظم الدول العربية والولايات المتحدة الأميركية تمر بإسرائيل التي شوهت صورة العرب دولياً وخرجت دائماً عن إطار الشرعية علناً واستفادت من كل ما يعاني منه العرب من مشكلات وأزمات، وعندما يقارن البعض بين أدوار الدول غير العربية المتاخمة للوجود العربي فإننا نضع إسرائيل في المرتبة الأولى بحكم تاريخ الصراع العربي الطويل معها فضلاً عن سرقة وطن بالكامل ثم تمزيق المشرق العربي على النحو الذي نشهده.
رابعاً: تأتي إيران في مرتبة تالية للخطر الإسرائيلي لأننا نفرق في العلاقات الدولية بين خطر مستقل وخطر آخر تابع أو بين خطر أصيل وخطر ثانوي، ولا يجب المساواة أبداً بين الخطرين الإسرائيلي والإيراني وإن كان كل منهما مصدراً للقلاقل ومبعثاً للاضطراب في أطراف الأمة العربية، فالإيرانيون يحملون في أعماقهم رواسب تاريخية تجاه العرب والعروبة، وتبدو جذور الصراع قديمة وعميقة حتى تحت مظلة الخلافة الإسلامية الواحدة إذ لم يتمكن الانصهار الحضاري الإسلامي أن يجمع بين شيعة إيران والسنة العرب الذين يمثلون الغالبية العددية حولهم، وسوف تظل عقدة «أهل فارس» تجاه التاريخ العربي كله علاقة ملتبسة لا تحمل كلها الإيجابيات بحيث تطفو على السطح بين حين وآخر مظاهر لتلك العقدة التاريخية تتمثل في التدخل في شؤون دول عربية وتصدير القلاقل إليها مثلما حدث في لبنان وسورية وقبلهما العراق وبعدهما اليمن.
خامساً: إن العلاقات العربية التركية هي محصلة للزمان والمكان فقد جثم الأتراك على صدر المنطقة لعدة قرون شدوها نحو التخلف وحرموها إمكانية الفكاك من سطوتهم أو الاتجاه نحو بناء الدولة العصرية الحديثة. لقد حرم الأتراك شعوب الأمة العربية من الدخول في عصر النهضة في وقت مبكر مع غيرهم، وباستثناء حركة التمرد الكبرى التي قادها محمد علي من مصر ضد الوجود التركي في المنطقة فإننا لا نجد حركة موازية في نفس الاتجاه بل نشعر أحياناً أن الأتراك يحملون ميراثاً تاريخياً من روح الاستعلاء التي يتميزون بها ويحاولون ممارستها على شعوب الجوار العربية بل ويدعمون الإرهاب ويعطونه أحياناً المساعدات اللازمة، ولقد تقدم الأتراك في السنوات الأخيرة بمشروع إسلامي كبير للسيطرة والحكم في الشرق الأوسط وقد حظي ذلك الملف باهتمام رئيس تركيا الحالي رجب طيب أردوغان الذي يشغل موقعاً قيادياً في التنظيم العالمي لـ»الإخوان المسلمين» والذي يوظف دوره في خدمة أهدافهم بل ويتحرك بدوافع عثمانية تلوح فيها أمام ناظريه فكرة «الخلافة»، ولعل النموذج التركي في تعامله مع العرب يشعر بأن عليه أن يقود المنطقة على رغم أنه يلهث وراء الاتحاد الأوروبي يستجدي عضويته، واضعين في الاعتبار أن تركيا عضو في حلف الأطلسي وذات علاقات وثيقة بكل من واشنطن وتل أبيب وكل ما عدا ذلك هو مزايدة سياسية مكشوفة.
سادساً: إن العرب إذا كانوا جادين بحق في اختراق حجب المستقبل ويريدون بناء الدولة العربية الحديثة في كل قطر من أقطارهم فإن عليهم أن يدركوا أنه لا بد أن تجتمع إرادتهم وتلتقي كلمتهم بمفهوم عصري حديث للولوج إلى مستقبل نتطلع إليه ولقد سبقتنا أمم الدنيا وشعوب العالم ونحن جامدون بلا إرادة، تائهون من دون رؤية، نصحو لفترات قليلة ثم نغفو بعدها من جديد، وليس هناك وقت أدق ولا أصعب من الذي نواجهه حالياً حيث تمر الأمة العربية بظرف حرج سوف يحدد بدرجة كبيرة نوع المستقبل الذي نتجه إليه، ونحن ندرك جميعاً أننا في قارب واحد فإنما ننجو كلنا أو نغرق جميعاً، والإرادة شيء ينبع من الذات ولا يأتي من فراغ ولكنه امتداد طبيعي لصحوة يتغير بها المسار وتعتدل معها الأمور.
سابعاً: لا يكفي أحد العنصرين وحده، فالإرادة من دون رؤية كالقوي الأعمى، والرؤية من دون إرادة كالمبصر الضعيف، ولا بد للعنصرين معاً أن يلتقيا حتى يتحدد المسار وتتضح الأدوار وحتى يبدو أمامنا في الأفق البعيد مهرجان الفجر يطلع على هذه الأمة التي شهدت أعظم الأمجاد وشيدت واحدة من أكبر حضارات الدنيا ولكنها اليوم تواجه ما لم يكن متوقعاً عبر تاريخها الحديث، بل إن عدوها أحياناً عدو خفي لا نكاد نتعرف إليه لأنه إرهاب عشوائي يعمل في الظلام ويقتل ويعدم ويرجم ويحرق ويغرق ويقطع الرقاب ويرتكب كل الفواحش، ونحن نتصور أن ذلك بعيد عنا ولكنه يعيش في وسطنا فهو يأتي من فئة خرجت علينا وأساءت إلينا وانقلبت على ناموس الحياة وسنة الوجود وعبثت بصحيح الإسلام.
هذه قراءة مخلصة لوضع متأزم نشعر به جميعاً ويدعونا بلا هوادة أن نفكر في المستقبل بكافة أبعاده وآفاقه لأن الإرادة والرؤية متلازمتان وإلا بقينا دائماً كالأيتام على مائدة اللئام!
* كاتب مصري/”الحياة”