بقلم: حبيب فياض*
عندما يتحوّل العنف الى ظاهرة مجتمعية، يصبح دليلاً على ارتكاس حضاري يصعب الخروج منه. ذلك أن تفاقم التخلف في مجتمع ما، لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية في التعبير عن ذاته من خلال حالة الضمور في العناصر المنتجة للنهوض، بل لا بدّ له أن ينتقل، في لحظة ما، من حال القصور في توفير مقتضيات التقدّم، الى فعالية عكسية تتجلى في الانفجار الجماعي على نحو يعبّر عن رغبة في تدمير الآخر السويّ، كبديل عن التشبه به والعجز عن التماهي معه.
من هنا، لم تكن ولادة «داعش» في لحظة تزامنية، من حيث المحددات السياسية، بمقدار ما جاءت لتعبر عن ذروة تعاقبية من الانحطاط الحضاري في مسار تقهقري طويل. فالظاهرة الداعشية لم تكن سوى تحول نوعي ضمن سياق تراكمي قائم على العنف والتخلف، ما أدى الى اختلالات فردية عبرت عن نفسها بطريقة جماعية، فأتاحت لها الظروف التشكل على شكل تنظيم يجيد إدارة شؤون القتل والتوحش والفوضى.
وانطلاقاً من القول بعدم وجود مرتبة وسطى بين الحضارة ونقيضها، يصحّ القول إن الحراك الداعشي المشهود هو البديل الطبيعي عن المنتج الحضاري المفقود في الدول والمجتمعات العربية. ذلك أن حتمية إنتاج ما تستبطنه البنى المجتمعية لدى الأمم والشعوب، تستوجب الداعشية كمنتج «حضاري» لدى العرب، في ظل العجز العربي عن الإنتاج الحضاري المعهود. علماً أن ظاهرة العنف الجماعية، والداعشية عينة منها، تتخطى بمفاعيلها وتداعياتها مجموع أفرادها. بمعنى أن ثمة ما يضاف الى الأفراد وهم مجتمعون ولا يتوفر عندهم وهم فرادى، وأن العلاقة بينهم تتشكل على نحو تفاعلي يضيف الى رصيد الجماعة ما يتخطّى من أرصدة فردية متجاورة مع بعضها البعض.
وبعيداً عن المواجهات المشروعة في ميادين الحروب دفاعاً عن الإنسان والأرض، يحدث أن يبتلى إنسان ما بداء الإنسانية، فينأى بوجدانه عن انتهاك حرمة الإنسان، ويبقى خارج الاصطفافات الغوغائية التي تعتبر التشفي جزءاً من مقومات المعركة والقدرة على الصمود والاستمرار. فالانحياز الى ممارسة العنف غير المشروع، حتى ولو كان ضد القتلة والمجرمين، لا يبتعد كثيراً عن خدمة أصحاب المشروع العنفي. العنف ضد المدنيين والأسرى والموقوفين لا يمكن قبوله بأي وجه من الوجوه، مهما حاول البعض التخفيف من شناعته بوضعه في إطار ردة الفعل، أو وضعه في خانة القصاص والعقاب. فالقوة بأيدي النبلاء وسيلة لمواجهة الظلم والدفاع عن المقهورين والمضطهدين. وهي لدى الأراذل وسيلة للغلبة والقهر والهيمنة وتحقيق النزوات والتعبير عن الانحرافات النفسية.
جاء في علم نفس الجماهير أن العامة تؤمن بالأساطير السياسية أكثر مما تؤمن بالأفكار الواقعية، وأنها تمتلك طاقات تفجيرية من المفترض أن يكون لديها مديات حضارية للتعبير عنها في مجالات الثقافة والعلوم والفنون. لكن، عندما تنعدم هذه المجالات من المجتمع في ظل بيئات قاحلة تعاني من وطأة التخلف والأنظمة المستبدّة، تتخذ هذه الطاقات مسارات انحرافية لتعبر عن نفسها بالنزوع نحو العنف بأشكاله المختلفة. يقول فرويد إن العنف هو نزعة تستند إلى رغبة تدميرية، وهي تعبر عن نزوع تلقائي نحو الموت، وتقابلها نزعة طبيعية أخرى نقيضة لها هي نزعة الحياة والتي تدفع الإنسان إلى الإبداع.
الواقع العربي، في زمن رواج الداعشية، أقرب إلى الأسطرة منه إلى الواقعية، بحيث أصبح الانسان العربي ضحية الطاقة التفجيرية لدى «داعش» الباحثة دوماً عن وسائل جديدة للإبداع في القتل.
*كاتب ومحلل سياسي/”السفير”