بقلم: د. أحمد إبراهيم الفقيه*
إحدى مفارقات الحالة الليبية، أن تكون مدينة درنة، هي المدينة المختطفة من التيارات الدينية المتطرفة، التي أعلنتها ولاية إسلامية، وخرجت منها المبايعة للخليفة في الموصل أبوبكر البغدادي، خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين في الدولة الإسلامية المسماة اختصارا داعش، وهي المدينة التي ارتبطت بالتمدن والحضارة، وقادت على مدى التاريخ موجات التقدم حتى صارت عنوانا للتدرج الحضاري في ليبيا بماضيها العريق منذ العصر الهيليني، إلى العصر الروماني عندما كانت تسمى دارنس، وصولا إلى العصر الحديث، وهي تقدم لليبيا نخبتها المتميزة في الإدارة والفن والقانون والدبلوماسية.
فقد حباها الله بموقع هو الأجمل فوق الخارطة اللييية، متربعة على هضاب الساحل الليبي المقابل لشواطئ اليونان، وهو ساحل خصيب يتاخم سلسلة تلال الجبل الأخضر، العامرة بشلالات تغذي الأودية والأرض الزراعية المحيطة بالمدينة، فتوفر لها مكانا ومناخا، وطبيعة ساحرة، هيأتها لأن تكون مركز الانبعاث الحضاري، حيث كان رواد الأدب في العصر الحديث ومنذ بواكير القرن الماضي، ينتمون إلى هذه المدينة، شعرا ونثرا، مثل إبراهيم الأسطى عمر الشاعر الوطني والمؤسس لأحزاب وطنية مثل جمعية عمر المختار، ونثرا مثل وهبي البوري رائد القصة الليبية. وانطلقت الحركة المسرحية من درنة على أيدي فنانين مثل أنور الطرابلسي، وكان الجيل الأول من مؤسسي الدبلوماسية وبناة الدولة الليبية أغلبهم من أبناء هذه المدينة الرمز والقيمة، فكان شيئا غريبا أن تصبح ومنذ انهيار نظام معمر القذافي وانبلاج ثورة 17 فبراير 2011، هي مركز الاستقطاب للتطرف الإسلامي، بدءا من القاعدة، وصولا إلى الدواعش، وغيرها من تنويعات على هذه التنظيمات العنقودية التي يؤسسها أهل الغلو والتكفير والمعاداة لقيم الحضارة والديمقراطية. مفارقة صارخة ومؤسفة، وتدل على الانحدار والسقوط الذي يمثله هؤلاء الزنادقة، وأنه لا مناعة ولا حصانة ضد التطرف لأي بقعة من أراضي الوطن العربي.
ولا بد من القول إن المسائل لم تبدأ من فراغ، وإنما هناك ما يمكن اعتباره أساسا لمثل هذه المفارقة المذهلة، إذ كان طبيعيا ومتسقا مع التاريخ ومع الجغرافيا، أن نجد مدينة مثل درنة، تأنف وتشمئز من العهد الاستبدادي، وما فرضه من سياسات سقيمة عرجاء، وأن يأخذ هذا التمرد كما هو الحال في المراكز المدنية، شكلا سلميا ومدنيا وحضاريا، ولكن نظام القمع والاستبداد الذي حكم ليبيا لأكثر من أربعة عقود، لم يكن يستطيع أن يحتمل هذا النوع من المعارضة السلمية المدنية الحضارية، وبدأ التحرش بأهل درنة، والمحاصرة والملاحقة، فكان لا بد أن تنشأ حركة تمرد مسلح، محتمية بالبيئة الجبلية المحيطة بمدينة درنة، وأحراشها وأوديتها وكهوفها وتلالها، ثم وبسبب شراسة المواجهة، صارت المقاومة في درنة تستقطب قوى تماثل النظام شراسة وعنفا، وتتنافس معه في أساليبه ذات التوحش والسقوط الأخلاقي، إلى درجة أن النظام استخدم أسلحة كيميائية في حربه ضد المناوئين الهاربين في الجبال، وتحولت المنطقة المحيطة بمدينة درنة إلى أرض النزاع المسلح بين نظام معمر القذافي ومعارضيه داخل ليبيا.
عندما تفجّرت ثورة 17 فبراير كانت هذه الجماعات وبينها الجماعة المقاتلة الليبية، قد أنشأت لنفسها قاعدة في المنطقة، واعتبرت درنة، حصتها في العهد الجديد، والمنطقة التي ترفع فوقها رايتها، وتعلن أنها من ممتلكات دولتها الإسلامية، وتبدلت الولاءات والرايات، ولكنها حافظت على انتمائها إلى فكر التكفير والتطرف، وصولا إلى مبايعة داعش وخليفة المسلمين في الموصل، وتعيين ممثل للخليفة في درنة من اليمن اسمه “أبو البراء الأزدي”.
وقد تواترت الأخبار من درنة في اليومين الأخيرين، أن تحالفا بين القوى المعادية لداعش داخل المدينة قد دخل في معركة مع عناصر الدولة الإسلامية، وأطردها من الأماكن التي كانت تتمركز فيها داخل المدينة وفي أطرافها وقتل الكثير من عناصرها، وقام بأسر آخرين بينهم نائب الخليفة البغدادي نفسه، واستطاع التحالف إخلاء درنة من داعش، وإن لم يكن هذا الإخلاء، يعني القضاء على كل أهل التطرف في المدينة.
هذه المعركة أعطت فرصة للجيش الوطني التابع للبرلمان الشرعي، بأن يتقدم لاحتلال بعض المواقع في المدينة، إيذانا بتحريرها من التنظيم الإرهابي وغيره من التنظيمات المتطرفة، وهي مسألة أشاعت جوا من التفاؤل بين الليبيين، ورأوا فيها بادرة أولى على طريق تحرير بلادهم من الإرهاب والتطرف، بسبب ما لمدينة درنة من قيمة تاريخية، وما لهذا الانتصار على داعش من قيمة رمزية في المدينة التي تسمى مدينة الصحابة لاتخاذها قديما مكانا التقى فيه الصحابة المشاركون في الفتوحات وصارت مكانا لإقامتهم ووفاتهم.
*كاتب ليبي/”العرب”