بقلم: مصطفى القلعي*
لمّا كان الباجي قايد السبسي رئيسا للحكومة التونسية حلّ ضيفا على مجموعة الثمانية الكبار في يونيو 2011 في دوفيل الفرنسية، وطلب تمويلا بقيمة 8 مليار دولار يحتاجها الاقتصاد التونسي للنهوض مقابل إصلاحات وشروط. ولكن الاتحاد العام التونسي للشغل والأحزاب اليسارية تصدّت للمشروع وأسقطته باعتبار أنها رأت فيه رهنا لتونس وتهديدا لسيادتها.
ولمّا خلفت “الترويكا” السبسي في الحكم، زار راشد الغنوشي بروكسل ضيفا على المانحين الكبار منتصف 2012 وطالب أوروبا بإنشاء مشروع تمويلي في تونس شبيه بمشروع مارشال. أعجبت الفكرة أوروبا حتى أنّها، رغم التقديرات السلبية للاقتصاد التونسي، منحت حمادي الجبالي، رئيس الحكومة التونسية آنذاك، صفة الشريك المتميّز للاتحاد الأوروبي. ولكن الفكرة ماتت في المهد ولم يتمّ تفعيل اتفاقية الشريك المتميز بين الاتحاد الأوروبي وتونس، بعد أن أغرقت الترويكا، وحركة النهضة أساسا، نفسها في لعبة التشدّد والأصولية التي سمحت بزرع الإرهاب في أرض تونس.
في أواخر مايو 2015 زار الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي الولايات المتحدة الأميركية وكان الغنوشي رئيس حركة النهضة هو آخر من التقاه السبسي قبل سفره. وعاد رئيس الجمهورية محمّلا ببروتوكول شامل مع الولايات المتحدة يتضمن مشروعا اقتصاديا تتولّى تونس بموجبه إجراء ما يملى عليها من إصلاحات في الجباية والبنوك العمومية ومجلة الاستثمارات والقطاع العام ومنظومة الدعم العمومي، بينما تضخّ الولايات المتحدة بعد استيفاء تونس للإصلاحات قرضا بقيمة 500 مليار دولار لتونس. مقابل ذلك تنال تونس صفة الحليف غير العضو في حلف الناتو.
هذا السرد له خلاصتان؛ الأولى أنّ ما فشل فيه السبسي منفردا عام 2011 والغنوشي منفردا عام 2012، يحاولان النجاح فيه متحالفين سنة 2015 لاسيما أنهما كانا متنافرين قبل ذلك، والثانية أنّ حركة نداء تونس وحركة النهضة متفقتان حول الرؤية الليبرالية، متضامنتان في الموقف من الأطراف السياسية والاجتماعية المعارضة لهذه الرؤية وهي الاتحاد العام التونسي للشغل والجبهة الشعبية.
وكل مظاهر التوتر الاجتماعي التي تعيشها تونس اليوم ليست سوى نتيجة لهذا التضامن بين النهضة والنداء. فخلافهما الأيديولوجي الذي أداراه بإحكام معا ضمن الحملة الانتخابية عبر منهج التصويت المفيد، لم يؤثر في وفاقهما في الرؤية الليبرالية التي دعتهما للتحالف والتشارك في الحكم بعد انتخابات 2014. نعم الاقتصادي تغلب على الأيديولوجي، ولكن المشكلة كون المشروع الذي يطرحه السبسي والغنوشي وحليفاهما حزبا آفاق تونس والاتحاد الوطني الحر لا يُطمئن الشعب التونسي ولا قواه الاجتماعية. فهذا المشروع لا يكرر فقط خيارات النظام القديم بل إنه يمارسها مضاعفة. والفكرة التي يتكئ عليها حكام تونس الجدد ليست في الخيارات التي اختارها نظام بن علي بل في فساد إدارة هذه الخيارات. ولذلك سيعيدون إنتاج نفس المناويل منتظرين نتائج مختلفة.
بعد مدة قصيرة من تشكل حكومة الائتلاف الرباعي برئاسة الحبيب الصيد، قال حسين العباسي الأمين العام الاتحاد العام التونسي للشغل، إن تونس على مشارف ثورة اجتماعية. غير أنّ الائتلاف الحاكم أهمل تصريح العباسي واعتبره تهويلا.
كان تقييم الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل قائما على مؤشرات البطالة والفقر والتنمية والمقدرة الشرائية والمديونية والاستثمار. ومؤشرات اتحاد الشغل هي الأقرب إلى الواقع باعتبار انتشار هياكله في كل القطاعات وفي كل الجهات. ولكن الحكومة التونسية لم تصغ للاتحاد لسبب لم يكن واضحا حينها، ولكنه بدأ يتضح شيئا فشيئا ومفاده أن الحكومة لا تملك رؤية اجتماعية لمشاكل تونس بل تملك رؤية ليبرالية مغايرة تماما للاتحاد.
المفارقة التي لم يفهمها التونسيون هي أنّ كلّ الحكومات التي تداولت على حكم تونس بعد 14 يناير 2011 كانت رؤاها متعارضة مع اتحاد الشغل ولا تختلف عن رؤى بن علي. التونسيون يتساءلون لماذا يطالبون بالتنمية وبالعدالة الاجتماعية والعدالة الجبائية وبالتوزيع العادل للثروة وتأتيهم في كل مرة حكومة تعتمد الاقتراض، وتلهث وراء الاستثمار الخارجي بأي ثمن، وتندد بصندوق الدعم، وتعلن أن التشغيل ليس من مهام الدولة، وتحافظ على الوضع التنموي القائم ولا تلمس منظومة الجباية وترى أمامها ميلاد الأثرياء وتكّدس الثروات الفردية، بينما يموت أبناء الشعب بلا حقوق.
ما نبّه إليه الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل يحدث في تونس اليوم. ولكن الحكومة لا تراه ثورة بل تراه خروجا على القانون وتتعامل معه بشكل عقابي.
إن التعاطي مع الملف الاجتماعي هو الأمر الوحيد الذي استعدّت له الحكومة والأحزاب التي تشترك في تشكيلها. فهي أحزاب ليبرالية متفقة من حيث رؤيتها للقطاع العام الذي ترى فيه عبئا يعطل تهاطل القروض والاستثمارات على تونس.
تزداد احتجاجات القطاع العام. وتزداد أزماته كما يحدث في النقل الجوي والنقل الحديدي. وتكتسب الحكومة مناعة ضد الخوف من التصعيد النقابي لاسيما أن العد العكسي للشروع في ما تسميه الإصلاحات المؤلمة قد بدأ، حيث أن البروتوكول الممضى مع الولايات المتحدة يقتضي ألا يتجاوز الشروع في الإصلاحات البنكية وإصلاح الاستثمار ومراجعة منظومة الدعم والتخفف من عبء القطاع العام موفّى ديسمبر القادم.
* كاتب وباحث سياسي من تونس/”العرب”