لم تنته الرياض من إعادة السلام والوفاق الى اليمن، فهل من المنطق أن تمضي في مشروع سلام نحو ليبيا؟ نعم، لأنها قادرة على ذلك، ولأن شياطين الشر الكامنة داخل وحول الصراع الليبي، الكفيلة بتوحشه أكثر، لن تنتظر حتى تفرغ المملكة مما في يدها.
الوضع هناك سيء، ولكن يمكن أن يصبح أسوأ إذا ما طال إهماله، بينما هو سهل ممتنع، يمكن إصلاحه إذا ما توافرت العزيمة والنية الطيبة والأخوة الصادقة، وهذا كله متوافر في الرياض، التي لا مصلحة لها في ليبيا، ولا تطمع في أرضها ولا نفطها، إنها تريد سلامتها فقط.
يدعوها لذلك أيضاً، فشل الأمم المتحدة وعجز جيران ليبيا، ووجود رغبة حقيقية لدى الليبيين. يريدون دوراً للرياض، ومن هؤلاء وزير الخارجية الليبي محمد الغيراني، ووزير العدل مصطفى القليب، وحسين الجازوي المحسوب على الحركة الإسلامية، هكذا قدم نفسه، والذين التقيت بهم – مصادفة ببهو فندق بأنقرة – فأبلغوني رسالتهم هذه وأمنوني أن أوصلها للقيادة السعودية، وها أنذا أفعل. نعم جميعهم من حكومة طرابلس التي يترأسها عمر الحاسي، والمسماة «حكومة الإنقاذ الوطني»، ويعترفون بأنه مختلف عليهم وليسوا محل إجماع، ولا يعترف بهم العالم ولا العرب، فلن يحضر الغيراني اجتماعاً في الجامعة العربية، ولا القليب اجتماعاً لوزراء العدل العرب، ولكنهما يمثلان حكومة تأمر وتنهى في ليبيا الممزقة على مساحة أكبر مما تتمتع به حكومة طبرق التي توصف بالشرعية، والتي تعيش في ظل الجنرال خليفة حفتر الذي يريد ان يكون «الزعيم» المنقذ لليبيا، وتتعامل معهم الدول المعنية بالأزمة الليبية، مثل تونس والجزائر مثلما تتعامل مع حكومة طبرق، وكذلك الأمم المتحدة ومبعوثها برناردينو ليون.
كانوا يستعدون لاجتماع مع الحكومة التركية، التي تؤيدهم هي وحكومة قطر فقط، بينما تؤيد حكومة طبرق التي تحاول حسم الصراع بالقوة الإمارات ومصر فقط، بينما تؤيد بقية دول المنطقة حلاً سلمياً هناك، لإدراكها، عن حكمة ومعرفة، أن لا أحد يستطيع حسم الصراع بالقوة. الشيء الوحيد الذي تستطيع القوة فعله في ليبيا هو تدميرها بالكامل وتحويلها إلى صومال أخرى، وهذا ما يفسر ابتعاد حكومتي الجزائر وتونس عن الموقف المصري، بل كان مفارقاً رؤية الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي مجتمعاً مع علي الصلابي المحسوب على “الإخوان” و”فجر ليبيا”، ما أثار استهجان حكومة طبرق، وربما القاهرة أيضاً، بحكم أن السبسي محسوب على المعسكر العلماني المعادي للإسلاميين، ولكنه تصرف بصفته رئيساً مسؤولاً في تونس ومعنياً بأمنها، بالسعي نحو سلام في ليبيا المجاورة، بعدما أدت صراعاتها إلى لجوء أكثر من مليون من مواطنيها إلى بلاده بكل مشكلاتهم وخصوماتهم، فكان طبيعياً أن يقول: «تونس على مسافة واحدة من جميع الأطراف الليبية».
موقف الجزائر والمغرب مماثل، وكلهم سيرحبون بوساطة سعودية، بل إن مصطلح «طائف ليبي» بدأ يتكرر في صحفهم، ولكن المهم هو موقف الليبيين. سألت وزير خارجية حكومة طرابلس ووزير عدلها، رد الغيراني بحماسة شديدة: «نعم، لن نجد أفضل من الملك سلمان، أنتم – السعوديين – تفهموننا، نحن قبائل وخلافاتنا ليست عقدية، إنها أطماع وحسد ونتيجة لفقداننا آلية للحكم بعد أعوام طويلة قتل فيها القذافي السياسة”. ومن دون أن أسأله تطوع بالقول: «نحن لسنا إخواناً مسلمين، الإخوان لا يمثلون 2 في المئة من الشعب الليبي، إنهم طرف بين أطراف عدة، هكذا ليبيا الجديدة لا تقصي أحداً، أنا شخصياً أختلف معهم كثيراً، ولكننا لا نقبل بديكتاتور آخر». ومضى يهاجم الجنرال المتقاعد خليفة حفتر الذي يريد أن يكون زعيم ليبيا الأوحد، ويروي كيف أنه بدأ الحرب حتى قبل انتخاب مجلس النواب الحالي محل الجدل.
عندما قلت: ولكن الشرعية معهم، انتفض أكثر من واحد رافضين ذلك، تركوا مجالاً لوزير العدل مصطفى القليب يشرح كيف أن برلمان طبرق كان يرافع بحماسة أمام المحكمة الدستورية العليا، ويحضر جلساتها، وعندما صدر الحكم بعدم شرعيته قالوا إن ميليشيات “فجر ليبيا” ضغطت على المحكمة وبالتالي رفضوا الحكم.
الشاهد الأول في كل ما سبق أن القضية الليبية معقدة جداً، ولكل طرف وجهة نظر، وليست خلافاً بين إسلاميين وعلمانيين، أو شرق وغرب، إنها خلاف وأطماع كل مدينة، وجهة وعرق وقبيلة، مع خلطة لم تستقر بعد من الأحزاب والزعامات السياسية، بل إن حكومتي طرابلس وطبرق، اللتين انسابت إليهما شتى القوى وفق هوى كل مكون منها، ليستا صلبتين، فالشروخ ظهرت فيهما لأسباب عدة، منها ضيق أطراف باستبداد وتصلب بعض مكونات كل حكومة، وشعورهم بأن الأطماع الشخصية للبعض أدت إلى انسداد الحوار، إضافة إلى حجم الفساد والعبث بالمال العام الذي يلغ فيه الجميع، فاستقال نائب رئيس كتلة التحالف الوطني، المكون الرئيس لحكومة طبرق، لرفضه استمرار “عملية الكرامة” التي يقودها حفتر وأدت إلى تدمير نصف بنغازي، وفي مصراتة، التي تعد أساسية في كتلة حكومة طرابلس، تحرك المجلس البلدي المنتخب وأرسل وفداً إلى أبوظبي يقلب فرصاً للسلام مع المعنين هناك، وثمة تشققات أخرى أفقية وعمودية، وعلى من يريد التصدي للحال الليبية أن يستوعبها ويحتمل ساعات طويلة من الصراخ والجدل وتبادل اللوم.
الشاهد الثاني، أن ثمة تياراً كبيراً في الكتلتين تعب من الحرب، وبدأ أصحابه بالتواصل في ما بينهم، وصفه الصحافي المخضرم – الذي تحول إلى سياسي – الزميل محمود شمام بتغريدة في «تويتر» الأربعاء الماضي، قال فيها: «قد تكون المصالحات الأفقية أجدى وأفضل من المصالحة الرأسية، حيث إن فكرة التقاسم لا تعنيها».
ولكنهم أيضاً يريدون أخاً أكبر يجمعهم في «طائف ليبي»، كما طالب أصدقائي الذين التقيتهم صدفة في أنقرة، وسبق أن سمعت حديثاً مثله من السياسي الليبي وليد ارتيمة الذي أرسل إلي قائمة طويلة بأعضاء في المجلس الوطني والبرلمان مؤيدين لفكرة «الطائف الليبي». ولكن لا بد أن يسبقه تحييد القوى التي غذت الصراع هناك (مصر والإمارات – تركيا وقطر)، وأكاد أجزم بأن الأخيرتين مستعدتان لترك الساحة للسعودية إن أقبلت ونزلت بثقلها وحدها أو مع الأمم المتحدة، وأتوقع أن مصر والإمارات ستفعلان الأمر نفسه إن رأتا حزماً سعودياً كالذي رأتاه في اليمن.
قد يأتي الليبيون إلى الطائف أو تذهب الطائف إليهم، المهم أن تنزل إلى المعركة ديبلوماسية الحكمة والصبر السعودية، تجامل هذا وتضغط على ذاك، فيحضر الجميع، باستثناء «داعش» وكل من يفتقدون روح المشاركة، الذين أتوقع أن يكون منهم اللواء خليفة حفتر، فيرفض الحضور، مثلما فعل ميشال عون عام 1989 وأصر على أن يستمر في معركته ضد السوريين الذين يتحالف معهم اليوم. الضغط على حلفائه كفيل بتحييده، والولايات المتحدة مستعدة لاستقباله مرة أخرى مثلما فعلت بعدما خسر حرب تشاد العبثية، فهو مواطن أميركي ابتداء.
لن تكون مهمة سهلة، سيختلف الليبيون، وستكون مفاوضات شرسة، ولكن من دون سلاح، ثم يتفقون في النهاية.
* اعلامي وكاتب سعودي/”الحياة”