مرت على ما اطلق عليه “الربيع العربي”، اكثر من اربع سنوات عرفت أحداثا مفصلية في مأساويتها، وفي تاريخيتها، ربما، بالنسبة للمجتمعات التي عرفت هذه الطاهرة والتي ما تزال تتفاعل مع نتائجها ومضاعفاتها الأمنية والسياسية والعسكرية، غير انه ما ان طرحت مسألة تفسير ما جرى ويجري، حقيقة، على ارض الواقع حتى تباينت الآراء والمواقف منذ نقطة الانطلاق، بين من عزا كل ما حدث الى “مؤامرة” محبوكة، تستهدف تدمير كل ما تم بناؤه في المنطقة، على مستويات البنية التحتية والنظم السياسية التي لم تعد تلبي حاجات الغرب الاستعماري خاصة على مستوى التطبيع مع اسرائيل وما يتطلبه ذلك من تغيرات في النخب وثقافتها، وربما، أيضاً، على مستوى اعادة رسم الخرائط الجغرافية السياسية لتكون ملائمة للإستراتيجيات الجديدة المرسومة في دهاليز القرار الدولي، بعيدا عن منطقتنا، التي هي مسرح للأحداث لا غير، وبين من اعتبر ان في تطورات الواقع، عبر السنين اسباب ولادة ذلك الربيع، بمواجهاته وصراعاته، ومخاطره المختلفة وخاصة سيادة الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي وانعدام الوزن على مسرح العلاقات الاقليمية والدولية، وبالتالي، فإن الحراك الذي عرفته المنطقة هو، حصرا، وليد الظروف الذاتية والموضوعية الخاصة بالمنطقة. لكن هناك من رأى ان في الربيع العربي ما هو وليد الواقع الذاتي والموضوعي لمختلف أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية داخل المجتمعات المعنية الى جانب عوامل مرتبطة بقوة بأجندات سياسية واستراتيجية إقليمية ودولية عمدت الى استغلال مختلف النواقص والثغرات في الأوضاع السائدة في المنطقة مدخلا الى التدخل المباشر او غير المباشر لتحقيق أجنداتها.
وفي الواقع فإن كل نظرية تفسيرية أحادية الجانب لن تكون إجرائية في قراءة الأحداث وعاجزة عن الوصول الى خلاصات ذات مصداقية وقابلة للتعميم.
وانطلاقا من اعتماد أطروحة تعدد العوامل يمكن اعتبار “المؤامرة” عاملا فقط من بين عوامل أخرى أي دون اعتباره العامل المحدد الوحيد والرفع منه الى مستوى النظرية التفسيرية لما يؤشر عليه من جنوح في التفسير نحو التبرير والتهريب من تحمل المسؤولية.
وفي سياق فهم ما جرى ويجري في المنطقة العربية ينبغي الإشارة الى الملاحظات التالية:
أولا، تشخيص الواقع السائد في المنطقة العربية قبل الأحداث متقارب إلى حد كبير بين علماء السياسة والاجتماع السياسي: الاستبداد السياسي يرعى نظام الفساد ويغذيه ويوسع من نطاقه ليطال مختلف شرائح المجتمع وطبقاته، ونظام الفساد يسند بالمقابل الاستبداد السياسي على مختلف المستويات وفي شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الاستراتيجية بشكل أساسي. ويشكل تبادل الدعم والمساندة والاستعداد لمواجهة التحديات المشتركة بين الطرفين أساسا هاما من الأسس التي ساهمت بشكل فعال في استمرارهما معا وانخراطهما في معركة واحدة في مواجهة قوى وتيارات التقدم الفكري والاجتماعي والسياسي بغض النظر عن قدرة تأثيرها على ما يجري على أرض الواقع الفعلي
ثانيا، وضع المعارضات غير متقارب فأحرى أن يكون واحدا في بلدان الفضاء العربي: وهنا يمكن الإشارة الى المستويات الثلاثة الآتية:
أ- معارضات تتمتع بوجود قانوني فعلي وإن كان تأثيرها محدودا في صنع الأحداث وكانت السقوف التي تتحرك تحتها غير عالية، الى حد كبير غير انها تسمح بتحريك المشهد السياسي حول قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية ذات أهمية متفاوتة بالنسبة لتطور البلاد ونموها السياسي. وهي بالتالي تلعب دور المنبه الى مكامن الأخطاء والحافز على اعادة النظر في التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للنظام السياسي القائم بما يجعل ممكنا القيام ببعض الإصلاحات في عدد من المجالات تحت الضغط الشعبي الذي تعمل قوى المعارضة على تنظيمه وقيادته، ما أمكنها ذلك، في ظل الظروف السياسية العامة السائدة كما تترجم ذلك على ارض الواقع تحركات القطاعات المهنية المختلفة وخاصة منها التي تتمتع بحقوق نقابية معترف بها تخول لها حق الاحتجاج والاعتراض على سياسات الحكومات المختلفة وفق مقتضيات دستورية وقانونية محددة.
ب- معارضات صورية هي جزء ذيلي وتابع لتركيبة النظام القائم في شكل جبهات غير متوازنة حيث مواقع القيادة محسومة سلفا ومقننة في دساتير شيه أبدية لا تعرف التغيير وتكاد تجرم كل عمل معارض مستقل. وهي تعكس الحرص على القيام بما يشبه توسيع القاعدة السياسية للحزب الحاكم دون المغامرة، في أي وقت من الأوقات، وبأي شكل من الأشكال، بتحويل هذه القاعدة إلى أرضية شعبية مفتوحة على مختلف تيارات الحركة الشعبية التي تحظى بنوع من الاستقلال تجاه أحزاب الجبهة في أي مجال من المجالات. ذلك انها على قناعة تامة ان سياسة الإمعان في تهميش تلك الحركات وممارسة الرقابة الأمنية والسياسية على تحركاتها وعدم التردد في إنزال أشد العقوبات على كل تيار منها يحاول التمرد ولو الشكلي على ما هو مفروض عليه من قيود صريحة او ضمنية سيؤدي بتلك المعارضات في نهاية المطاف الى استبطان هذا الواقع والخضرع له بصورة شبه مطلقة والتعاطي معه باعتباره أفضل الحالات الممكنة في أفضل نظام ممكن وهو ما يسمح للاستبداد السياسي بالاستمرار والتغول الى ابعد الحدود في مناهضته لكل تحرك مستقل لتلك القوى ولو كان لدعمه ما دام ذلك الدعم نابعا شكلا من إرادتها المستقلة دونما رجوع الى مركز السلطة الذي يمنح الرخص ويحجبها وفق آليات غالبا ما لا تكون واضحة بالنسبة لمختلف القوى التي تتوخى الفعل في المشهد السياسي الذي يؤطره الاستبداد.
ت- انعدام أي هامش لأي معارضة بالمعنى السياسي أي الفراغ التام على هذا المستوى ضمن أنظمة استبداد عشائرية قبلية متخلفة ترفض الاعتراف بأدنى الحقوق للافراد والجماعات ولا تتوفر على أي مؤسسات دستورية حقيقية
ثالثا، مجتمع مدني هش لا تتوفر له ظروف الاستقلالية المادية والمعنوية عن سلطات الداخل تارة ومرتبط، تارة أخرى، بمؤسسات التمويل الخارجي بصورة علنية، الأمر الذي جعل العديد من جمعياته الممثل الفعلي لمصالح هذا الخارج في هذه البلدان بكل ما يعتيه ذلك من تبعية هي أقرب ألى الطابور الخامس منها إلى مؤسسات المجتمع المدني في بعض الحالات.
رابعا، ضعف الحركات الاحتجاجية الاجتماعية وتراوحها بين المطالب الدنيا لبعض فئات العمال والموظفين وبين محاولة التعبير عن مطالب سياسية جذرية تليق بحركات الأحزاب السياسية الجذرية اكثر من انسجامها مع المطالب الاجتماعية لأوسع الفئات. ومن نتيجة ذلك نفور شرائح اجتماعية كبيرة من الانخراط في تلك الحركات أولا، وضعفها وعزلتها عن تيار المجتمع الواسع ثانيا وسهولة مواجهتها وتفكيك عرى التنسيق بين مكوناتها ثالثا.
خامسا، ضعف او شبه انعدام اي حدود واضحة على الساحة العربية بين النضال الوطني والقومي وبين النضال الديمقراطي بفعل الظاهرة الاستعمارية بالنسبة لبعض الشعوب حديثة العهد بالاستقلال وبفعل واقع استمرار الخطر الاسرائيلي الداهم الذي تستشعره بعض الانظمة والشعوب وخاصة في المشرق العربي على الخصوص.
وإذا كان للظاهرتين الاستعمارية التقليدية والإسرائيلية دورهما غير القابل للإنكار في توحيد شعارات النضال في المنطقة العربية في مراحل بعينها في مواجهة متطلبات التحرر من الاستعمار المباشر او الحد من الخطر الاسرائيلي لا سيما على دول الجوار، فإنه ما لبث الواقع الذي ترتب عن ذلك ان تحول الى عامل سلبي ضاغط عندما بدأت النخب الحاكمة في المنطقة تمارس الاستبداد الشامل تحت ذريعة درء مخاطر الاستعمار الجديد تارة ولعدم الوقوع فريسة المخططات الصهيونية تارة أخرى. في هذا السياق تم إغلاق جميع أبواب التغيير السياسي السلمي عمليا من جهة كما تم التراجع عن كل شعارات الماضي وتغيرت أولويات الفاعلين السياسيين في المنطقة الى ان تم الوصول الى ما هو عليه الآن من فتن وصراعات وفوضى.
“ميدل ايست أونلاين”