كان من دواعي سروري، الالتقاء عدة مرات برجل على قدر عظيم ووافر من الثقافة، والخلق، والمعرفة، وهو الراحل عبد الهادي التازي (1924 – 2015)، حيث جرت معظم لقاءاتنا ضمن فعاليات مهرجان أصيلة المبهر في طنجة بالمغرب، وفي مهرجان الجنادرية الثقافي الكبير.
تعلّمت من الدكتور عبد الهادي درسين لا أنساهما، أولهما هو أن قلب الإنسان خلق وبداخله قدر هائل من الاتساع، لأنه ذلك المكان الذي يؤمن فيه الإنسان بربه، لذا فهو يسع كل الخلق، وبداخله يمكن أن يشهد الإنسان جنة حقيقية. فلا مجال في ذلك القلب الرحب لوجود البغض.
أما الدرس الثاني فهو اللغة بصفة عامة، والعربية بصفة خاصة، باعتبارها لغة كل العرب، ولكونها على الأخص لغة الدين، فهي ذات شأن كبير. إنها لغة المحب، والمحبوب، وعندما أستمع إلى الساسة يتحدثون وأرى كم الأخطاء اللغوية التي يقعون فيها بسبب ضعف فهمهم لكلمات اللغة العربية وقواعدها، أشعر بالاكتئاب والحزن، فنحن لا نساوي شيئا من دون لغتنا، فاللغة هي الأساس الذي ترتكز عليه هويتنا، وهي الوعاء الدائم للأفكار.
وقيل إن الأشياء تعرف بأضدادها، وحينما أسمع بعض الساسة يتحدثون، وحديثهم ينضح بالكراهية، والغطرسة، بينما تعج لغتهم بالأخطاء يجعلنا هذا نفكر كيف كان عبد الهادي محقا تماما في حكمه.
منذ عامين كنت حاضرا في مهرجان الجنادرية، حينما سمعت رجل دين شابا متشددا يلقي خطبة بالغة القسوة. وحملت خطبته انطباعا بأنه يعتقد أنه يمتلك الحقيقة في العالم، وأننا يجب أن نطلب نصحه، ونحرص على اتباعه كيلا ندخل النار.
وقال لي عبد الهادي إن لديه ثلاث ملاحظات على تلك الخطبة. الأولى: هي أنه بينما كان يصرخ كانت عيناه تشعان شعاعا قاتما. والثانية: لماذا كانت لغته ممتلئة بالأخطاء؟ لماذا قرأ بعض آيات القرآن بصورة خاطئة. والملاحظة الثالثة هي: لماذا خلت خطبته من فكرة واحدة على الأقل جديرة بالاهتمام؟
جاء في القرآن: «وقولوا للناس حسنا». وقال الدكتور التازي إنه عندما كان في التاسعة من عمره تمكن من حفظ القرآن عن ظهر قلب، ولا يمر وقت في حياته سواء كان ليلا أو نهارا إلا وهو يردد فيها بعضا من آيات الذكر الحكيم. إنه كتاب الرحمة، والشفقة، والسلام. ولم تسمح لي ظروفي الصحية بالذهاب إلى كل المساجد، والحديث مع رجال الدين، والمفتين، لذا بحق الله، قولوا للناس حسنا.
لا شك أن الدكتور تازي كان مسلما حسن إسلامه، فكان يتحدث دوما عن القدس الشريف، ومكة المكرمة، وفي العقد الأخير من حياته ألف كتابا مذهلا بعنوان «رحلة الرحلات» يروي فيه قصة مائة من أشهر الشخصيات في المغرب، الذين ذهبوا للحج إلى مكة، ومن بينهم ابن عربي، وابن جبير، وابن بطوطة.
ويعد الكتاب، الذي بلغ عدد صفحاته 800 صفحة، كنزا فكريا عظيما، فعلى سبيل المثال في فصل ابن عربي، نقرأ:
«كنت بمكة مقيما، وكنت أشرب ماء زمزم كثيرا، وكلما شربته نويت به العلم، والإيمان، ففتح الله تعالى لي ببركته في المقدار الذي يسر لي من العلم، ونسيت أن أشربه بنية العمل بالعلم، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله تعالى لي فيهما، وكان إلغائي للعلم أكثر منه للعمل!». (رحلة الرحلات – ص 60).
وأستطيع أن أقول إن ابن بطوطة يعد بطلا في عيني عبد الهادي، فعندما كان يتحدث عنه كان الضوء يشع من وجهه، وتملأ السعادة عينيه. لا شك أن كتاب رحلة ابن بطوطة بتحقيق التازي يعد عملا غاية في الإبداع.
بالنسبة للدكتور التازي لا يعد ابن بطوطة رحالة فحسب مثل ماركو بولو، بل كان مفكرا، ومثقفا، وواحدا من أعظم الشخصيات في تاريخ الحضارة الإسلامية.
ومنذ خمس سنوات حضرت ندوة عن ابن بطوطة أقيمت في الدوحة، وفي الجلسة الافتتاحية كانت هناك فقرة موسيقية يؤديها مجموعة من الشباب الأميركيين والأوروبيين، وكانوا جميعا يعزفون على البوق، ولم تكن هناك أي آلات موسيقية أخرى، فقد كانوا يعزفون على البوق فحسب. وكنت أجلس حينها بجوار الدكتور التازي، الذي همس في أذني قائلا، «أتمنى أن تكون هناك فقرة موسيقية مختلفة في الجلسة الأخيرة. وينبغي لكل الشباب العرب أن يعزفوا العود». وقد كان.
في فكر التازي كان ابن بطوطة يمثل المعنى الحقيقي للحياة. انظر! إن حياتنا بمثابة بركة صغيرة، أو لنقل بحيرة صغيرة جدا، أما حياة ابن بطوطة فكانت أشبه بنهر عذب يتدفق بعظمة وقوة، ليصب ماءه في المحيطات مثل مياه الخليج.
لقد قضى طول حياته مسافرا؛ حيث قطع 124 ألف كيلومتر، وكان يرقص مع المتصوفة في خانقاتهم، مثل خانقاه مجد الدين الشيرازي في شيراز. وكان يذهب في كل مدينة يزورها لأشهر مكان فيها ليتلقى العلم.
ولتلخيص قصة ابن بطوطة، نستطيع القول إنه تذوق رحيق الحياة في كل البلدان التي زارها، والشعوب التي التقى بها. هل تعرف أحدا على دراية بالعالم الإسلامي في وقتنا هذا مثل ابن بطوطة؟
لقد كان ابن بطوطة يتمتع بصفتين عظيمتين، ولسوء الحظ فقد فقدنا هذه الصفات العظيمة. لقد أعطي هبة إلهية، حيث كان يبحث عن إجابة للأسئلة الجادة التي تتردد في ذهنه، وكان يسأل، ويطمح للعثور على إجابة ليس في وطنه، بل في عالم بعيد عن أرضه. لقد اختار ابن بطوطة العالم ليكون وطنه.
ثانيا، كان قلبه وعقله يمتلآن بالحب والسعادة، فلم يكن في قلبه أي ضغينة أو حقد. تخيل أننا نعيش الآن دون طرح أسئلة مهمة، ودون السعي، والبحث عن إجابات، وأخيرا نسينا السعادة، والحب.
أعتقد أن السياسة قد دمرت ثقافتنا، وقيمنا الإنسانية، فأصبحت حياتنا أشبه كثيرا بالرسوم الكرتونية والكاريكاتيرية المضحكة، فتشوهت المعايير لدينا، وضحلت السعادة بداخلنا.
كان الدكتور التازي يعيش في طهران، وبغداد، وعواصم أخرى من العالم الإسلامي، كسفير للمغرب، فهو مثل ابن بطوطة اكتسب ذاكرة ثقافية تحوي جميع البلدان التي زارها، فكان يقرأ في الأدب الفارسي، وكان يردد أبيات لحافظ، والخيام بالفارسية.
دعني أقل إننا لم نفقد مثقفا عظيما فحسب، بل إنسانا عطوفا على قدر عظيم من المعرفة. يا لها من خسارة، فنحن لا نستطيع النظر في عيون التازي، التي كانت تلمع وتبتسم طوال الوقت.
*كاتب صحفي/”الشرق الأوسط”