لم تتأسس في الدول العربية ثقافة تثمين ما يطرحه المفكرون والكتاب والمحللون، من آراء وأفكار واقتراحات وحلول، كأن مجهودات هؤلاء لا تعدو أن تكون صيحات في واد. ولأن الأمر كذلك، لا نتصور أن تكون هناك سياسة ناجحة وذات جدوى، ولا قرارات مؤثرة، إذا لم تستند إلى أرضية وتصورات وأفكار واضحة، تؤطرها وتوجهها، وترسم لها الآفاق الآمنة والواعدة. وهذا ما يعجّل، اليوم، بضرورة تطليق السلوكيات التقليدية والنمطية في التعاطي مع الفكر والثقافة والإبداع.
الملاحظ في قراءة مسارات تطور الفاعل الثقافي في عدد من الدول العربية ومآلاته أن صيرورة العمل الثقافي مرت بمجموعة من المراحل، بدءا من الانخراط في معركة الاستقلال وما طبعها من حماس ومشاعر وإجماع إلى اتخاذ موقف معارض ومنتقد بحكم التناقضات والمفارقات التي أفرزتها مرحلة ما بعد الاستقلال، وكان الهدف المركزي لهذا الموقف ضمان مساحة ديمقراطية، في ظل الصراع مع السلطة. ولعبت أحزاب المعارضة، خصوصاً المحسوبة على اليسار، في الدول التي أقرت، مبكراً، نظام التعددية السياسية والحزبية، دورا أساسيا في تمكين المثقفين من منابر للتعبير عن أفكارهم وطروحاتهم، خصوصاً في القضايا التي ترتبط ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية والمجتمع الحداثي، علما أن مكونات اليسار كانت تؤمن إلى درجة القناعة بأن من بين مهامها التاريخية والفكرية والأخلاقية إشاعة وترسيخ ثقافة الحداثة والعقلانية والنقد وحرية الإبداع.
غير أن المتغيرات السياسية والتحولات البنيوية التي مست يقينيات ومسلمات كثيرة، على المستوى العالمي، وهبوب رياح التجديد الإيديولوجي والمراجعات الفكرية، عوامل جعلت التعاطي مع السلطة مسألة ممكنة، من دون أن يكون ذلك رديفا لسلوك انتهازي، بل أصبح مقبولاً أن تتبنى النخبة الثقافية مفاهيم وخطاب السلطة، فتحول جزء من المثقفين إلى خبراء يبيعون رأسمالهم الرمزي، أو يعرضونه على من يدفع أكثر.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، أصيبت شريحة واسعة من المثقفين بصدمة وذهول غير مسبوقين، عندما وجدت نفسها أمام وقائع جديدة وموجات من التغيير، كان عنوانها الأبرز محاربة الفساد والاستبداد وإسقاطهما، فانحازت عدة أصوات ثقافية إلى هذا المد الثوري، وانفتحت لها شهية التغيير والتفكير بأفق مغاير كشكل من أشكال تبني الشعارات التي رفعها الشارع. وقد ينسحب هذا الترسيم على تجارب دون غيرها في المنطقة العربية. لذلك، هو يكتسي طابع النسبية، وما يهم هو تحدي تجاوز المعيقات المتراكمة عبر عقود في الحقل الثقافي، ما دام أن المؤسسات القائمة والوصية تعرف بدورها تعثرات واختلالات على مستوى التدبير والرؤية والتوجهات والاختيارات. لذلك، لن يتم تجويد أي حوار حقيقي وشامل حول الثقافة العربية، ما لم يتم تجاوز هذه المعيقات، من خلال تأهيل النخب الثقافية، لتلعب دورها التاريخي، في نشر قيم الحداثة والتفكير العقلاني والمتسامح، ومواجهة انزلاق المجتمع إلى التفكير المنغلق المبني على التبسيط والتعليل السطحي، ومن ثم بلورة أجوبة ثقافية لمختلف الإشكاليات والظواهر التي تخترق مجتمعاتنا. ولعل التنظيمات الذاتية للمثقفين معنية، قبل غيرها، بعملية تأهيل النخب الثقافية، لأنها تشكل أداة هذا التأهيل وموضوعه، والواقع أن معظم هذه التنظيمات الخاصة بالمثقفين تعاني من أعطاب وممارسات وتقاليد غير ديمقراطية، تشكك في إمكانية قيامها بعملية التأهيل هاته، ما لم تتخلص من حلقيّتها الضيقة، وممارساتها البيروقراطية. فلا يعقل أن نراهن على منظمة من أجل النهوض بوضعنا الثقافي العام، وهي غارقة في إعادة إنتاج الممارسات التي أضعفت قيمة الثقافة، وبخست المكانة الاعتبارية للمثقف، المتردية أصلا.
وبناء على هذا الوضع، يتعين إقامة حوار صريح وجريء وشفاف مع الجهات الوصية على الثقافة، يشمل كل المستويات والقضايا، قصد ترسيم علاقة واضحة وعادلة بين الدولة والمثقف، في ضوء المتغيرات والتحولات الجارية، وطنيا وإقليميا وعربيا ودوليا، فالدولة الديمقراطية لا يمكن أن تمس باستقلالية المثقف وحريته، وكل اجتهاد يعاكس هذه القاعدة لا يمكن اعتباره إلا ضعفا لتلك الدولة، يجعل ديمقراطيتها موضع استفهام وتشكيك. لذلك، علينا أن نقطع مع أي تردد في ترسيخ هذه القاعدة، لأن الثقافة يمكن أن تشكل مصدر قوة وشرعية ومصداقية للدولة وسندا للديمقراطية، وحاضنا للحرية والانفتاح والتسامح والاختلاف والإبداع الخلاق.
في واقع الأمر، هناك مثقفون غير قليلين أصيبوا بخيبة أمل كبيرة وبإحباط شديد، لاعتبارات كثيرة ومتداخلة، أبرزها التحولات الجذرية التي مست وظيفة المثقف وصورته في المجتمع العربي، بحيث لم يعد يتمتع هذا المثقف بالقيمة الاعتبارية والرمزية نفسها التي كانت له في العقود الماضية، ولم يعد مصدر إغراء تجاه الدولة، وحتى تلك المكانة التي كان يحتلها في البنيات الحزبية في دول كثيرة، لم تعد قائمة. فبدل أن ترتفع أسهم المثقف في بورصة السياسة، نجدها هوت إلى أدنى درجة، فيما يشبه عقوبة من السياسي تجاه المثقف. أما الدولة، بمكوناتها ودواليبها ووظائفها، فقد عمدت، بوعي أو بدون وعي، ومنذ سنوات، إلى احتواء المثقف، لا سيما المحسوب على اليسار، أو المثقف المستقل، في مسعى حثيث إلى تحييد فعاليته وطمس إشعاعه. وربما أنجزت جزءاً من هذه الأهداف، فتحقق لها هدف قتل المثقف، من دون أن تدرك أنها بفعلها ذاك، ارتكبت خطأ جسيماً، حين استأصلت من المجتمع أدوات التفكير والإنتاج الرمزي.
وما حدث ويحدث في المجتمعات العربية، وما أفرزته الاحتجاجات والهبات الشعبية، في أكثر من منطقة، يطرح، بجدية وإلحاح، انخراط الفاعلين الثقافيين في الديناميات السياسية والمجتمعية، لوضع حد لاستقالتهم غير المعلنة، والعمل على نفض غبار اليأس عن أفكارهم وتصوراتهم ومخيلاتهم وسجلاتهم اللغوية، لإعادة الاعتبار لدور الكاتب ورسالته ومكانته داخل الدولة والمجتمع، لأن الكاتب، في النهاية، مهما كان الحقل الذي يهتم به، لا يكتب لمجرد إشباع رغبات ونزوات ذاتية، على الرغم من حضورها وأهميتها في سلم أولوياته، بل يكتب من أجل إحداث صدمات إيجابية في مختلف المؤسسات، ويكتب من أجل استفزاز المجتمع بشكل إيجابي، وجعله مهيأ، نفسياً وذهنياً، لتقبل القيم والأفكار المؤسسة للحداثة الفعلية، والديمقراطية الملموسة، والعقلانية الكونية.
كاتب وإعلامي مغربي/”العربي الجديد”