ليبيا والإعلام الذبيح

أضاف تنظيم “داعش” الإرهابي جريمة أخرى إلى سجله الأسود بذبح خمسة صحفيين من قناة “برقة” الليبية اختطفوا في أغسطس الماضي وانقطعت أخبارهم منذ ذلك العهد حتى جاء النبأ الصادم بالعثور على جثثهم في غابة قرب مدينة البيضاء. ولا فرق بين هؤلاء الضحايا وغيرهم ممن لقوا مصيراً مؤلماً على يد هذا التنظيم الدموي، ولكن باعتبارهم إعلاميين يحمل ذبحهم دلالات وعبراً لا يجب أن تفوت.
تنظيم “داعش”، الذي أسهم الإعلام الدولي في الترويج لوحشيته، بدأ مبكراً في استثمار هذه الجانب، وأصبح يعتمد خطة إعلامية لتسويق صورته من خلال الشرائط المصورة لتصفية ضحاياه، وقد استطاع بفعل ذلك أن يبدو ظاهرة إعلامية تتناولها الوسائل المختلفة بكثير من التضخيم. وفي الوقت ذاته هناك قطاع آخر من الإعلام، بدأ نطاقه يتوسع، يتصدى بمهنية عالية لهذا التنظيم الوحشي، وأسهم مساهمة كبيرة في فضح ضلاله وخروجه عن القيم الدينية والإنسانية. وبدأت في هذا الإطار تتكثف التحقيقات والتقارير لكشف آليات تشكله وعوامل دعمه، بل إن بعض التحقيقات كشفت منابر إعلامية، بلسان عربي مبين، تستخدم أسلوب التورية في مساندة التنظيمات الإرهابية من خلال التركيز على “بطولات” هذه الفئة الدموية، ولذلك كان إعلاميو هذه المنابر يجوبون كالسياح المناطق التي ينشط فيها “داعش” وأشباهه دون أن يمسهم سوء، وهذه الحقائق لن يطول الزمن كثيراً حتى يتم اكتشافها وفضحها.
بالمقابل، لا تترك التنظيمات الإرهابية وسائل الإعلام المناوئة لها بسلام، فهناك عشرات الصحفيين الذين جرت تصفيتهم في العراق وسوريا كما هو معلوم، أما في ليبيا فقد كان الاستهداف منظماً ضمن عملية تطهير واسعة طالت صحفاً وتلفزيونات وإذاعات، وتعرض عشرات الصحفيين للقتل والخطف والتعذيب والترهيب والكثير منهم، بينهم صحفيان تونسيان، مازال مصيرهم مجهولاً. وكثير من التقارير لمنظمات دولية عريقة تؤكد أن الإعلام هو الضحية الأكثر تعرضاً للتهديد.
الهدف الرئيسي لاستهداف الإعلاميين في ليبيا، على وجه التحديد، لا يرمي فقط إلى تغييب الحقائق والفوضى العارمة، وإنما يسعى إلى تكريس مجتمع ظلامي تحلم التنظيمات الإرهابية بأن يسود، لتتخذه فضاء لتصعيد مكبوتاتها العقائدية. والمؤسف أن الكثيرين يتغاضون عن هذه النقطة الخطيرة، ولكنهم يستنكرون، في الوقت ذاته، استمرار التخريب والتدمير والاقتتال والاغتيال. وباستثناء بعض النقاط الضيقة في بنغازي وبرقة وطرابلس، يغرق كل ليبيا في ظلام التعتيم، باستثناء “المقربين” من تنظيمات “داعش” و”أنصار الشريعة” و”الموقعون بالدم” والميليشيات المتطرفة الكثيرة.
مرة أخرى يتأكد أن الإعلام الحر والوطني يتعرض لمذبحة شنيعة في ليبيا، وفي كل مرة تحدث جريمة لا تلقى إلا بيانات الشجب والتنديد، بينما تسوء الأوضاع كثيرا وتحجب الحقائق. وبعيداً عن الإعلام، لا أحد بإمكانه أن يعلم ما تخفي بلاد شاسعة من خبايا سيئة. وحين يصبح الإعلام طريداً وملاحقاً تصبح الحقيقة كذلك، وهذا يشكل تهديداً إضافياً للأمن الإقليمي والدولي، لا سيما في هذا الظرف الذي تنشغل فيه أوروبا بمكافحة موجات الهجرة المتعاقبة من ليبيا إلى إيطاليا. وحين يعلن مسؤول كبير في روما بأن الوضع في الساحل الجنوبي من المتوسط (ليبيا) غير مفهوم ومملوء بالمخاطر، يعرف آنذاك لماذا يذبح الإعلاميون فرادى وجماعات.

*كاتب صحفي/”الخليج”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *