رقصة الموت بين ضفتي المتوسط

يوماً بعد يوم يتحول البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة للمهاجرين “غير الشرعيين” إلى أوروبا بحثاً عن عمل لا يجدونه في بلادهم. يوماً بعد يوم يتبين أن نسبة الضحايا في البحر تزداد طردياً من دون أن تردع الراغبين في الهجرة عن ركوب البحر والمغامرة بأرواحهم في مشهد جدير بالمقارنة مع مشاهد فيلم سيدني بولاك الشهير “إنهم يقتلون الجياد” الذي يروي فيه كيف يمكن لرأس المال عندما يكون مأزوماً أو مرتاحاً على حد سواء أن يقتل الفقراء والمحتاجين غير عابئ بأحوالهم ومصائرهم.
لقد تحول المتوسط الى حلبة رقص تنطوي على خطر الموت تماماً كالفيلم الذي تشترط روايته للفوز ب 1500 دولار وسط أزمة ثلاثينات القرن الماضي الطاحنة أن يرقص رجل وامرأة ل 1500 ساعة متواصلة من دون توقف فإن مات الراقص يسحب من الحلبة من دون أن تدمع عين عليه.
“يرقص” المهاجرون “غير الشرعيين” في المتوسط رقصة الموت طمعاً في حياة أفضل أو هرباً من حروب طاحنة ومن قاطعي رؤوس آمنة.. يرقصون على حافة الموت هرباً من موت داهم أو بطيء للوصول إلى أسواق العمل الأوروبية الآمنة ويطرحون التحدي على دولها حول احترام حقوق الإنسان وبالتالي الكف عن العبث بحياة الهاربين من جحيم بلدانهم والتواطؤ على قتلهم. لكن لماذا تتمكن الأسواق الأوروبية دائماً من دمج الناجين من الموت غرقاً ولماذا يجد هؤلاء دائماً أمكنة ومواقع لهم في أوروبا؟
السؤال يستدعي النظر إلى هذه الظاهرة من باب ديمغرافي واقتصادي فمن الناحية الديمغرافية تعاني القارة العجوز نقصاً في الولادات وكثرة المتقاعدين وبالتالي تحتاج إلى يد عاملة شابة ومتعددة المهارات لإدارة أو المساهمة في إدارة اقتصادات القارة.
وتشير التقديرات إلى أن ألمانيا تحتاج إلى 7 ملايين مهاجر خلال السنين المقبلة لحل مشكلة النقص الديمغرافي وتعتبر إيطاليا من البلدان المهددة بوجودها إذا لم تحل مشكلتها الديمغرافية وكانت فرنسا حتى وقت قريب بحاجة إلى مئة ألف مهاجر سنوياً.. إلخ.
إن الهوة الديمغرافية التي تعانيها القارة العجوز تنعكس بالضرورة على الاقتصاد الذي يحتاج إلى أيد عاملة في مجالات مختلفة بخاصة في المهن التي يأنف المواطنون من العمل فيها، وهي في تزايد مستمر، وذلك لسبب ديمغرافي وطبقي في الآن معاً، فمن المعروف أن الهجرة الشرعية وغير الشرعية تشمل طبقة أو فئة من المهاجرين الذين يقبلون بالمهنة المتاحة في سوق العمل لذا يتجمعون في المهن ذات الأجور المتدنية وهي تتسع مع اتساع النقص الديمغرافي لذا نلاحظ أن الأوروبي يرتقي من مرتبة ما بعد المهاجر ما يتسبب بارتقاء المواطن الباحث دائماً عن المهن المجزية أكثر. فسائق التاكسي الذي كان يمارس هذه المهنة قبل عشرين سنة تقاعد ليخلفه سائق مهاجر أو من أصول مهاجرة في حين أن ولده ما عاد كما في السابق يزاول المهنة نفسها، بل انتقل إلى مهنة أعلى بواسطة التعليم والتخصص العالي وهكذا دواليك بالنسبة للأعلى ثم الأعلى، أي أن المصعد الاجتماعي الذي يبدأ من طبقة المهاجرين ينتقل إلى الطبقات العليا التي يتجدد كل منها بالاستناد إلى القاعدة الهجروية ما يعني أن الهجرة والمهاجرين حاجة أوروبية حقيقية بل مصيرية، وإن هذه الحاجة اقتصادية واجتماعية في الآن معاً، وأن لا صدقة ولا مكرمة في استقبال المهاجرين.
لكن من أين يأتي المهاجرون ولماذا؟
يأتي المهاجرون عادة من البلدان المازومة والمحتربة أو الفقيرة المجاورة لأوروبا، وهناك نظرة خاطئة حول الهجرة من أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية فبعد الاندماج ظن البعض أن الشرقيين الفقراء سيتدفقون إلى أسواق الأغنياء، فتبين ألا صحة لذلك لسبب أساسي هو أن دول شرقي القارة اندمجت مع دول غربيها لكي تكون على صورة الأغنياء وليس من أجل تصدير اليد العاملة إليهم وهذا واضح في إجراءات الاندماج التي تتيح للدول المندمجة الخروج من النموذج الاشتراكي إلى النموذج الرأسمالي الغربي بشروط تعزز الوحدة داخل هذا الإطار ومن غير المستبعد أن تنمو ظاهرة المهاجرين الأجانب في بلدان شرقي القارة في مستقبل غير بعيد.
يأتي المهاجر إذاً من دول الجوار الأوروبي وبخاصة الفقيرة منها وتلك التي تعاني الحروب، فالهارب من الحرب وإن كان يتمتع بمؤهل جامعي في بلاده سيرضى بالعمل المتاح في مهنة دنيا والهارب من الذبح لسبب ديني أو مذهبي سيأتي إلى القارة العجوز بشروط سوق العمل واللجوء فيها وسيذكر دائماً أن الهمجي في بلده هو الذي تسبب في هجرته وأن الأوروبي استقبله وآواه، حتى لو كانت بعض الدول الأوروبية تسببت في نشوء الهمجيين أو اشرفت على تكونهم في الحروب التي خاضتها أو تخوضها ضد الدول والمجتمعات المتمردة ولعل صناعة القاعدة مثال ساطع على الدور الأوروبي في تشكيل الاحلاف للانتصار على الإمبراطورية السوفييتية.
يفضي ما سبق إلى استنتاج متعدد العناصر أوله أن أوروبا هي التي تجذب المهاجرين ولولا حاجتها إليهم لما تدفقوا إلى أسواقها وثانيها أن ما يزعج الأوروبيين ليس تدفق المهاجرين عبر البحر، فالبحار كانت دائماً تأتيهم بالمهجرين وإنما حجم هؤلاء وعشوائيتهم التي تفوق القدرة على استيعابهم في وقت واحد وثالثها هو التسرب السري وبالتالي اتساع الهجرة السرية التي تنطوي على مخاطر جمة على مجتمعات مستقرة.
مفاد القول إن رقصة الموت في المتوسط ما كان يمكن أن تتم لولا توفر راقصين يحتاجان إلى بعضهما بعضاً، الأول هو مجتمعات العجزة في أوروبا والثاني مجتمعات الفقر والحروب لدى جيران القارة المباشرين، أما القول إن الأغنياء الأوروبيين يتفضلون على المهاجرين الفقراء الذين يخاطرون بأنفسهم احتراماً منهم لحقوق الإنسان فهو ضرب من الكذب الناعم الذي ما انفك يميز سحر الرأسمالية وجاذبيتها.

*باحث وكاتب وصحافي لبناني/”الخليج”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *