في ذكرى وفاة الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، يستحضر إرث الرجل وسجله السياسي، كما تستدعى حجج مناصريه وخصومه في الإشادة به أو بنقده. وقلما جمع زعيم سياسي هذا الحجم من التثمين والنقد في آن واحد، والمفارقة أن براهين الدفاع عند هذا الفريق قد تستحيل قرائن نقد عند فريق آخر.
في سيرة الحبيب بورقيبة (1903 – 2000) اختصار للتاريخ المعاصر للبلاد التونسية، أو للجمهورية. وعند القول بأن الرجل يختصر تاريخ الدولة الوطنية فإن ذلك لا يعني اصطفافا مع النقاد أو المناصرين، بل هو إقرار بالتصاق ذلك التاريخ بمنجز الرجل.
مسيرة الحبيب بورقيبة السياسية تتماهى حد التطابق مع تاريخ الحركة الوطنية، إذ مر بمرحلة النضال الوطني في تونس أو في القاهرة (حيث مكتب المغرب العربي الذي تأسس عام 1947 على يد الحبيب ثامر ويوسف الرويسي من تونس ومحمد بن عبود من المغرب الأقصى) أو في المنافي أو في فرنسا، وخلالها توصل إلى فرض رؤيته للنضال الوطني وسبل الوصول إلى الاستقلال، وهي رؤية تطلبت منه الخروج من الحزب الدستوري القديم والمساهمة في تأسيس الحزب الحر الدستوري الجديد عام 1934، وكان يرى ذلك قطعا مع الأفكار العتيقة والسكونية التي يستند إليها حزب عبدالعزيز الثعالي وصحبه.
آمن بورقيبة بمبدأ “خذ وطالب” وهو مبدأ احتاج إلى من أجل فرضه إلى أن يدخل في خلاف مع تيار صالح بن يوسف الذي عدّ يومذاك “راديكاليا” مقارنة مع “واقعية” الزمرة البورقيبية.
بعد الاستقلال بدأت مرحلة بورقيبة الرئيس، الذي دشن موجة عارمة من الإصلاحات كان يقوم بها ميمما وجهه شطر أوروبا، ولم يكن يلتفت كثيرا إلى الشرق حيث تزدهر الأفكار اليسارية والقومية.
بورقيبة الرئيس كان جريئا بإقدامه بشكل مبكر على إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية (25 يوليو 1957) ومجلة الأحوال الشخصية (13 أغسطس 1956) وإلغاء نظام الأحباس الخاصة والمشتركة (19 يوليو 1957) فضلا عن فرض التعليم الإلزامي المجاني وغيرها من القوانين التي غيرت وجه تونس.
امتلك بورقيبة سطوة أتاحت له أن يركز كل السلطات في يده، فتحول المجاهد الأكبر إلى رئيس ومشرع وملهم و”صاحب توجيهات” كانت تذاعُ يوميا في التلفزيون التونسي وغيرها من المسؤوليات، تزامن ذلك مع تضخم الحزب وتماهيه مع الدولة، وأصبح التمييز بين الحزب الاشتراكي الدستوري (اشتراكية بورقيبة لا اشتراكية التصور اليساري) وبين الدولة التونسية عسيرا، ووصل الأمر إلى حدّه الأقصى مع إقراره “الحكم مدى الحياة” تبعا لتصوره بأن مهمته في تطوير البلاد وازدهارها لا يجب إيقافها أو تكبيلها بمدة رئاسية والأرجح أن هذه التبريرات نسجت من قبل المقربين منه من عتاة البورقيبيين وفي 27 ديسمبر 1974 تم تعديل الدستور الذي أقر إسناد رئاسة تونس مدى الحياة إلى الرئيس بورقيبة.
مثلما يسرد أنصار بورقيبة قائمة طويلة من المنجزات، فإن نقاده لا يعدمون سبل استحضار قائمة أخرى من السلبيات أو من علامات تفرد الرجل بالحكم والسلطة. تبدأ القائمة من زمن ما قبل الاستقلال، ومن انسحابه من الحزب القديم، ثم هيمنته على الحزب الجديد، وإبعاده لكل من اختلف معه وصولا إلى مفصل الاستقلال الداخلي (على خلفية خطاب مانديس فرانس رئيس الحكومة الفرنسية يوم 31 يوليو 1954) الذي قسم الحزب والبلاد إلى فسطاطيْن: فريق بورقيبة الذي يرى أن الاستقلال الداخلي خطوة لابد من قبولها والبناء عليها للوصول إلى الاستقلال التام، وفريق الزعيم صالح بن يوسف الذي يصرّ على وجوب الاستقلال التام وربط استقلال تونس باستقلال الجزائر. اختلاف التصورات أدى إلى انقسام الحزب إلى “الأمانة العامة” (صالح بن يوسف) و”الديوان السياسي” (الحبيب بورقيبة)، ووصل الخلاف أوجه مع اغتيال صالح بن يوسف في فرانكفورت يوم 12 أغسطس 1961 واستمر مع حملة إيقافات ومحاكمات لليوسفيين طيلة النصف الأول من الستينات.
دخل نظام بورقيبة بعد ذلك في خلاف مع اليسار (حركة آفاق برسبكتيف) أواخر الستينات، ثم بداية السبعينات وبعدها مع النقابيين خلال أزمة 1978، ثم مع الإسلاميين انطلاقا من 1981.
لا يكفي الحيز المحدود لاستحضار المنجز البورقيبي، أو لاستعراض علاّت زمن بورقيبة، فضلا عن أن القراءة الموضوعية تقتضي تجنب اعتماد بعد واحد، فالاكتفاء بنقد شخصية بهذا المقاس سيعد جحودا وهضما لما قدمه للبلاد، كما التركيز على الإيجابيات يمثل ضربا من الإشادة وإلغاء لقائمة من الضحايا.
الحبيب بورقيبة شخصية إشكالية يعسر تقييمها أو الإتيان على كل جوانبها، لكن الثابت أنه محل احترام خصومه ومناصريه، لذلك تثار سيرته في كل منعرج سياسي. حضر اسمه واستدعيت رمزيته في الانتخابات وفي المظاهرات لدى البعض، مثلما حضر سجلّه في الاستبداد والاعتقالات لدى البعض الآخر.
ما يجمع عليه التونسيون هو أن بورقيبة نجح في جمع المتناقضات لكنه توصل في النهاية إلى أن يبني دولة مدنية حديثة مازالت تلعب اليوم دور المصد أمام كل مشاريع الارتداد.
* كاتب صحفي تونسي/”العرب”