ما جنته «بريجيت» على «باردو»

تقطع إحدى محطات الإذاعة في تونس برامجها للإعلان عن خبر عاجل. ويزف المراسل من أمام متحف باردو بشرى للمستمعين، «لدينا نبأ سار، فقد عثرت قوات الأمن هذا الصباح عند قيامها بتمشيط قاعات المتحف، بعد يوم واحد من عملية باردو على حارس وسائحين أجنبيين اثنين اختبأوا جميعا داخل قبو بعيد عن الاماكن المفتوحة للجمهور». بعدها يمرر الميكروفون مباشرة إلى شاب يقدم نفسه على أنه الحارس المقصود، فيلخص مغامرته البطولية في كلمات قليلة لا تتعدى أنه «بمجرد سماعه صوت الرصاص هرب إلى القبو وحمى سائحين اثنين اعترضا سبيله، بان ادخلهما معه ذات المخبأ إلى ان عثرت عليهم قوات الأمن في الصباح بعد قضائهم ليلة كاملة هناك». ما يضيفه وزير الصحة في الاثناء وفي تصريح آخر لاذاعة موزاييك الخاصة، هو ان السائحين هما زوجان اسبانيان وأنهما في حالة صحية جيدة، وايضا وهذا الاهم ان «الزوجة الحامل تعهدت بأن يكون اسم مولودها المنتظر تونس».
العثور على ناجين من مجزرة باردو، بعد يوم من حصولها، والوعد بأن تظل تونس راسخة في ذهن ووجدان الزوجة الإسبانية، لم تكن الأخبار السعيدة الوحيدة بعد حالة الوجوم والقلق والصدمة التي سببها حادث وصف بالأعنف والأشد دموية في تاريخ البلد المعاصر، فقد هلت بشائر الدعم والتضامن من الشرق والغرب، وكأن العالم بصدد التسابق إلى التهنئة على إنجاز لا التعزية في مصيبة. لم يكن أحد يتصور أن يخرج الوزير الأول الفرنسي بعد ساعات قليلة من العملية ليقول، «كلنا نعتبر انفسنا تونسيين. كلنا نشد على ايدي التونسيين لان المعركة التي يخوضونها هي معركة مشتركة». وأن يضيف وزير خارجية بلده بأنه «ليس صدفة ان يطال الارهاب تونس التي تمثل الامل للعالم العربي. الامل بالسلام والاستقرار والديمقراطية الذي يجب ان يعيش…». وان تنتشر بشكل هستيري على شبكات التواصل الاجتماعي حملات تحت عناوين «سأزور تونس» أو» أنا تونسي» أو «أنا باردو»، بشكل يماثل، الى حد كبير، ما جرى في اعقاب هجمات «تشارلي إيبدو» في فرنسا مطلع العام الحالي.
لم يحصل أبدا في السابق، ولو العشر من تلك الحملات، ولم ينتبه أبدا حماة الديمقراطية وحراسها في الضفة الشمالية للمتوسط ومن وراء المحيطات، إلى انها صارت عرضة للتهديد والمخاطر جنوبا في نسختها العربية الوحيدة والفريدة.
لقد ذكر تقرير اصدرته المؤسسة البحثية الامريكية «بوتوماك انستيتيوت» و»انتر يونيفرستي سنتر اون تيروريزم ستديز» ان «معدل الانشطة الارهابية في شمال افريقيا والساحل قد تنامى بأزيد من25 بالمئة العام الماضي. واضاف التقرير ذاته ان نصيب تونس من تلك الهجمات بلغ 27 هجوما خلال السنة الماضية فقط. فهل كانت كلها مجرد أحداث بسيطة لا تستدعي تضامنا دوليا، أو حتى اقليميا مماثلا لما حصل بعد هجوم باردو، أم ان هناك فرزا وتصنيفا غير معلن لدرجة الاهمية والخطورة يجعل هجمات تقدم على انها بسيطة وعادية وتحت السيطرة، وأخرى تنزل على انها مهمة وخطيرة ومدرة للتعاطف والتآزر الدولي واهتمام الدنيا بأسرها؟
قد يكون ذلك التصنيف جزءا من حقيقة كونية باتت واضحة ومكشوفة للجميع وهي، أن العمليات الموصوفة بالارهابية صارت اليوم شكلا جديدا للاستعمار وبابا من ابواب التدخل الغربي تحت مبرر التضامن. ومن المفارقات التي قد تثير سخرية البعض هو ان الغرفة الجهوية للنساء صاحبات الاعمال منحت في الثامن من الشهر الجاري وبمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة جائزة «المرأة المؤثرة» للعام الحالي إلى وزيرة السياحة، ليتضح بعد أسابيع قليلة من ذلك التكريم، أن اكثر النساء تأثيرا خلال الشهور الاولى من العام على الاقل هي عاملة نظافة بمتحف باردو، تردد في وسائل الاعلام المحلية منذ الساعات الاولى لعملية المتحف انها كانت من بين الضحايا، وتم تقديمها بأكثر من اسم، ليتضح اخيرا ان الامر لم يكن سوى مجرد التباس وانها ماتزال على قائمة الاحياء. لم يقدم احد في الاعلام المحلي اعتذارا، وحتى مجلس الشعب الذي سارع إلى عقد جلسة طارئة واصدار بيان استنكار وترحم على ارواح الضحايا، لم ينتبه الى ان المرأة اللغز، كما باتت توصف، لم تكن ابدا ضمن ضحايا العملية. لكن قد تكون للاعلاميين في تونس اعذارهم، فها هي أعرق الصحف الفرنسية تسحب عنوانا لاحدى مقالاتها، من دون شرح أو تبرير أو اعتذار. فقد نشرت صحيفة «ليبراسيون» فور ورود انباء حادثة باردو مقالا بعنوان «انتهت تونس انتهت السياحة»، لكن بعد ساعات قليلة فقط من ظهوره على موقعها الالكتروني تم تغيير العنوان ليصبح «كنا نعلم انهم سيضربون ولكن». وقد فسر البعض ذلك التغيير بأن الصحافية ايلودي اوفري كاتبة المقال، تلقت عددا كبيرا من التعليقات والرسائل المستنكرة للعنوان الاول، ماحدا بها الى الاسراع بتغييره. ومن الطبيعي ان يثير العنوان قلقا داخل الاوساط الرسمية التونسية، وان يصل حد تكفل الرئيس بالرد على العنوان المسيء، في خطاب ذكرى الاستقلال، حيث قال الباجي قائد السبسي في إحدى فقراته للصحافية الفرنسية بشكل مباشر «انت من انتهيت وليست تونس». لكن زلة «ليبراسون» لن تعكر بأي حال علاقة معقدة وقديمة بين فرنسا ومستعمرتها السابقة الصغيرة، فها هي باريس لا تتأخر عن توجيه رسائلها، في الوقت والمكان المناسبين، وهو احتفال تونس بذكرى استقلالها عنها قبل تسعة وخمسين عاما من الان. إذ بعد كلمات اولاند ورئيس وزرائه ووزير خارجيته، ها هو وزير داخليته ولا احد غيره يحل في العاصمة التونسية يوم احتفالها بالاستقلال ليستقبل من كبار المسؤولين ويعقد بعد ذلك مؤتمرا صحافيا يقول فيه، إن زيارته هي رسالة قوية للارهابيين مفادها أن عملكم الارهابي الجبان لن يفرقنا، بل سيجمعنا لمكافحة الارهاب، ثم يضيف بأن «تونس ضربت في اماكن رمزية كمتحف باردو وبجوار مجلس نواب الشعب وهو رمز الديمقراطية، وقد قتل في العملية شرطي يمثل سيادة القانون… وقد ضربنا نحن في باريس كذلك بالارهاب، ونحن ضربنا معا، على الرغم من ان الاماكن ليست واحدة ولذلك يجب ان نضرب الارهاب». إذن الامر واضح ولا يحتاج مزيدا من التفصيل، فمن كان يتصور ان البلد الصغير قادر على الخروج بسهولة ومن دون عناء من بيت الطاعة والتحجج بالديمقراطية والحرية وغيرها من الشعارات، لفك القيود الاستعمارية الثقيلة، التي تشده إلى فرنسا فهو واهم وحالم . فها هو وزير داخلية الامبراطورية يقول، من دون لبس اوغموض إن الانفصال مستحيل وغير مسموح ويعطي في المقابل تحليلا سيكولوجيا وانثروبولوجيا مفصلا لعملية باردو، يجعل منها مجرد نسخة مصغرة لعملية باريس. ولا يغفل الوزير بالطبع عن عرض خدمات فرنسا ومساعدتها الثمينة في القضاء على غول الارهاب، فكما ساعدت الاستبداد وعبدت الطريق امامه لعقود طويلة لضمان مصالحها الحيوية، فهي مستعدة اليوم مثلما يفهم من كلام برنار كازنوف، ان تمد الديمقراطية الناشئة بما يلزمها للحياة والصمود. وما يلزمها ليس بالتأكيد طائرات «ميراج» كتلك التي ارسلتها منذ مدة إلى الاردن لضرب «تنظيم الدولة»، ولا طائرات رافال مثل التي باعتها الشهر الماضي للنظام المصري، بل مجرد ضبط مشترك ودقيق لحدود الديمقراطية ودوائرها، حتى لا تنحرف ابدا لا في المستقبل القريب ولا البعيد عن الفلك الفرنسي. بالنسبة لباريس هناك وراء البعد الاستراتيجي والاقتصادي تمدد حضاري وثقافي لا مناص من الحفاظ عليه وصونه، مما يلوح طموحات أو تهديدات محدقة. وتونس بهذا المعنى هي البوابة الاولى في الشمال الافريقي لمثل ذلك التمدد، وهي ايضا مخبر ثقافي مفتــــوح قد يعطي ثـــمارا زكية، لكنها هجينة تغري باقي دول المنطقة في مراحل موالية بالاخذ ولو بقسط محدود من تجاربها.
وفي حين تنتظر العاصمة التونسية حلول وفود من عدة دول من العالم للتضامن معها الاحد المقبل في «مسيرة ضخمة»، بحسب ما اعلنته وزيرة السياحة، لا يزال هناك من التونسيين من ينتظر الترجمة الفورية لتصريحات الرئيس الباجي من ان «الحرية تنتهي عندما يبدأ الارهاب»، ويترقب معها أيضا معرفة السر وراء الاهتمام الفرنسي والغربي اللافت بالبلد الصغير، والاهم من ذلك على الاطلاق موعد انفصال باردو التونسية عن بريجيت الفرنسية بعد ما يقارب الستين عاما من اعلان «الاستقلال مع فرنسا وليس عنها»، مثلما كان يردد اول رئيس للجمهورية في تونس.

٭ كاتب وصحافي من تونس/”القدس العربي”

اقرأ أيضا

أخنوش يستقبل رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية

استقبل رئيس الحكومة عزيز أخنوش، اليوم الخميس بالرباط، رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية، يائيل برون بيفي، التي تقوم بزيارة عمل إلى المملكة، تندرج في إطار تعزيز آليات التعاون البرلماني بين البلدين.

الجزائر وفرنسا

بعد أن بات في عزلة تامة.. النظام الجزائري يحلم بالتقارب مع فرنسا

بعد أن أغرق النظام العسكري الجزائري البلاد في عزلة تامة بسبب حربه القذرة ضد الوحدة الترابية للمملكة، لم يعد أمام الكابرانات إلى العودة للتودد لباريس، كما فعلوا مع مدريد،

الجزائر وتونس

في استنساخ لاستبداد عسكر الجزائر.. النظام التونسي يستهدف وزيرا سابقا

باتت تونس في عهد الرئيس الحالي قيس سعيد تسلك سياسة تعتبر نسخة طبق الأصل للنظام العسكري الجزائري، حتى أصبح العديد من المعارضين التونسيين ينددون بكون بلادهم تحولت لـ"ولاية جزائرية".

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *